أيمكن لعلم الأعصاب أن يفسر كيف تنشأ الأفكار؟
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
يخوض الإنسان العاقل مرحلة فلسفية ذاتية تتمحور في انبثاق الأسئلة الوجودية وسريانها اللامحدود؛ فيجد نفسه تارة على مشارف الشك المنهجي الذي يُعنى بالوسيلة السائقة إلى اليقين، وسبق أن أورد لنا التاريخ تجارب الفلاسفة مثل أبو حامد الغزالي مؤسس منطلقات الشك المنهجي وديكارت الذي حسم شكوكه بمقولته الشهيرة «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود»؛ فنجد أن التفكير والأفكار عناصر أساسية في تجاربنا الفلسفية الذاتية، ومولدات لأسئلتنا الوجودية والكبيرة، ويأتي السؤال: كيف تنشأ أفكارنا؟ وللإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى البحث في علم النفس، وعلم الأعصاب، والفلسفة، وثقافة المجتمع ومستجداته الحضارية مثل الصناعة والتقنية؛ إذ تشكّل هذه المنطلقات العلمية والفلسفية والثقافية لب معرفتنا لآلية صناعة الأفكار وأسرار ماهيتها.
الوعي: مصدر الأفكار الأول
يمكن أن نُرجعَ النشأة الأولى للأفكار إلى مصنعها الأول، وهو الوعي الذي سبق أن تناولته في كتب سابقة لي من زاوية فلسفية وعلمية، ويمكن أن نبسّط مفهومنا للوعي بأنه الإدراك الإنساني، ومع ذلك يعد هذا التأويل سطحيا لا يمتد إلى المفهوم العلمي والفلسفي؛ فالتفسير العلمي للوعي أقرب ما يكون تفسيرا ماديا عاجزا عن تفسير أسرار الوعي الكثيرة؛ فتشير معظم التأويلات العلمية المادية إلى أن الوعي جزء لا يتجزأ من منظومة الدماغ، وفي حين نجد أن ثمّة تأويلات علمية حديثة -تحتاج إلى عمق علمي أكثر لإثباتها- ترى أن منظومة الوعي خارج نطاق الدماغ، وأن الوعي وتفسيره مرتبط بظاهرة الكوانتم، ويأتي التأويل الفلسفي الذي يكون متأثرا بالمنهج العلمي أو بالمنهج الديني الصرف؛ فيفسر الوعي أنه حالة غير مادية تتجاوز الظواهر البيولوجية؛ فيدرجه البعض في خانة الظواهر الميتافيزيقية من حيث الرؤية الفلسفية المحضة، ومن حيث الرؤية الفلسفية الدينية يرتبط بالجانب الروحي؛ إذ يمكن تأويل الوعي أنه عنصر من عناصر الروح والعقل الخاص بالإنسان دون سواه من بقية الكائنات الحية، وسبق أن أشرت إلى هذا بشيء من التفصيل في كتاب «بين العلم والإيمان». تتبُّعنا لمعنى الوعي وعلاقته بصناعة الأفكار منطلق مهم يؤكد أن الأفكار حالة واعية مستمرة في سريانها، وأن العقل الإنساني كائن مفكر يرتبط وجوده بوجود تفكيره وأفكاره، ولهذا لا مناص من الإقرار أن الوعي مصدر الأفكار الأول والرئيس.
التفسير البيولوجي
نحتاج إلى الولوج العلمي والاقتراب من الجانب البيولوجي المتعلق بدماغ الإنسان الذي يمكن اعتباره العامل الثاني المسؤول عن صناعة الأفكار وتشغيلها بعد عامل الوعي، والذي يمكن إرجاعه إلى النشاطات العصبية في الدماغ؛ حيث نجد أن بعض العلماء يشيرون إلى الأفكار على أنها تلاعب الدماغ بالمعلومات عن طريق النظر إلى الماضي والحاضر أو المستقبل وفقَ ما ذكره «Daniel Kahneman» في كتابه «Thinking, Slow and Fast»، ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار الأفكار بنى أكثر تعقيدًا، ويمكن أن تنشأ من سلسلة متواصلة من الأفكار التي تأتي في حالتها المعقدة في صيغة عمليات إبداعية أو حل للمشكلات.
يمكن أن نعد علم الأعصاب منطلقا بيولوجيا رئيسا يستطيع أن يفسر جانبا مهما من جوانب آلية تشكيل الأفكار؛ حيث يتكون دماغ الإنسان من حوالي 86 مليار خلية عصبية، وترتبط كل خلية بمشابك تعمل على نقل الإشارات الكهروكيميائية؛ فتنتج الأفكار نتيجة لوجود هذه الشبكة المعقّدة ونشاطها المستمر التي تربط الخلايا العصبية الدماغية بعضها بعضًا وفقَ دراسة نشرها مجموعة من الباحثين عام 2009م في مجلة «Journal of Comparative Neurology».
كذلك نجد أن القشرة الجبهية «Prefrontal Cortex» الموجودة في الدماغ تملك قدرة محورية في نشأة وظائفنا المعرفية العليا التي تشمل التخطيط واتخاذ القرار وحل المشكلات، وهذا ما يمكن أن نعده ضروريا في تشكيل الأفكار حسب دراسة نشرتها مجلة «Annual Review of Neuroscience» عام 2001م، وحينها لا يمكن أن ننكر دور علم الأعصاب المعاصر الذي قدّم نهجًا أكثر تجريبية وقابلية للقياس، مما يشير إلى أن ثمّة نشاطا دماغيا يسهم في نشأة الأفكار بسبب العمليات المعقدة للشبكات العصبية. من الناحية التاريخية، تطور فهم عمليات التفكير عبر التاريخ بشكل ملحوظ؛ إذ أسهم الفلاسفة القدامى في وضع فرضياتهم وآرائهم الفلسفية المتعلقة بالتفكير ونشأة الأفكار؛ فتطور فهم عمليات التفكير بشكل كبير؛ إذ كان الفلاسفة القدامى مثل أفلاطون وأرسطو ينظرون إلى العقل بشكل عميق، ويعتقد بعضهم أن الأفكار هي انعكاس للعالم الخارجي، ولبعض الفلاسفة المتقدمين أمثال أفلاطون وأرسطو نظريات فلسفية خاصة بالعقل، مفترضين أنه كيان معقد قادر على عكس العالم الخارجي ومعالجة المفاهيم المجردة؛ فيقترح أفلاطون، في نظريته المتعلقة بالأشكال -نظرية المُثل- أن الأفكار انعكاسات لأشكال مثالية ثابتة توجد في عالم يتجاوز العالم المادي، وهذا ما أشار إليه الباحث (Silverman, 2016) في موقع «Stanford Encyclopedia of Philosophy»، ومن زاوية أخرى، قدّم أرسطو نهجًا أكثر تجريبية عبر تصنيفه قدرات العقل إلى كليات مختلفة تشمل القدرات الحسية والفكرية، التي يمكن أن تتفاعل مع العوالم المادية والميتافيزيقية حسب ما أشار إليه الباحث (Shields 2000) الذي نُشر في المصدر السابق نفسه؛ فنرى أن مثل هذه المحطات الفلسفية المبكرة التي بحثت في قضايا العقل وعمليات التفكير وصناعة الأفكار استطاعت أن تمهّدَ الطريق إلى النظريات اللاحقة في علم النفس وعلم الأعصاب المعرفي، موضحة آلية تطور التفكير عن طريق التفسيرات الميتافيزيقية؛ فيعزى الفضل إليها في وضع اللبنة الأولى للعلوم العصرية، والقدرة إلى الولوج لفهم هذه القضايا بشكل علمي.
توليد الأفكار وتباينها
تعد العمليات المعرفية التي تحدث في الدماغ الإنساني مثل الانتباه والذاكرة والتعلم عمليات رئيسة تسهم في صناعة الأفكار خصوصا الإبداعية منها؛ فينظّم الانتباه تدفق المعلومات التي تؤثر على التفكير استنادا إلى دراسة نشرتها مجلة «Annual Review of Neuroscience» عام 2001م، وكذلك ثمّة دور للذاكرة في صناعة الأفكار عبر تخزين المعلومات واسترجاعها، مما يوفّر ما يمكن أن نسميه ببنك المعلومات الرافد لعمليات التفكير، وهذا ما أشارت إليه دراسة نُشرت في «Oxford University Press» عام 2000م، ويأتي أيضا دور التعلم في تعزيز صناعة الأفكار بواسطة تحديث قاعدة معارفنا؛ فيؤثر التعلّم على كيفية تفسيرنا للمعلومات الجديدة وتحويلها إلى أفكار استنادا إلى تقرير نشره باحثون في «National Academy Press» عام 2000م. في بعد علمي آخر، يشير تقرير نُشرَ عام 2001م في «Psychology Press» أن الحالة العاطفية للإنسان ودافعيته يمكن أن تُحدثَ تأثيرا نسبيا على تكوين الأفكار وآلية التفكير؛ فوفقَ نظرية الإدراك العاطفي، يمكن للعواطف أن تؤثر بشكل كبير على العمليات المعرفية عن طريق توجيه الانتباه، وتسهيل استرجاع الذاكرة، والتأثير على اتخاذ القرار؛ فعلى سبيل المثال، تعمل العواطف الإيجابية بشكل عام على تعزيز الإبداع، مما يسهّل توليد مجموعة متنوعة من الأفكار حسب ما أظهرته دراسة نُشرت في»American Psychologist» عام 2001م.
البُعد الثقافي
والتطور التقني
لا يمكننا أن نهمل البعد الثقافي ونبتعد عنه؛ حيث إن للثقافة الإنسانية دورا في تشكّل الأفكار وصناعتها؛ فتتولّد الأنماط المعرفية وتتغاير وفقَ الثقافات من حيث تنوعها وثرائها المعرفي؛ فهناك مجموعة من الأنماط المعرفية التي تستند إلى النمط الثقافي الذي بدوره يحدد آلية التفكير مثل التفكير الشمولي أو التحليلي، والتي يمكن أن تؤثر بشكل عميق على عملية التفكير وتوليد الأفكار حسب ما أظهرته دراسة أجراها مجموعة من الباحثين ونشروها عام 2001م في مجلة «Psychology Review»، ويمكن أن نستدل بمثال بسيط ملحوظ عند بعضنا يخص الثقافات الشرقية التي تُظهر نمطا يتسم بالشمولية أكثر من النمط التحليلي الذي من الممكن أن يكون تركيزه أكثر في الثقافات الغربية، ولكل نوع من الأنماط التفكيرية دوره الخاص في تشكيل الأفكار وتغاير قدراتها الإبداعية.
ووفق زمكانيتنا الحالية؛ فنحن في عصرنا الرقمي الذكي الذي لم تعدْ صناعة الأفكار شبيهة بشكل كلّي مع الآلية التقليدية التي تحدثنا عنها في السطور الآنفة، وخاصة أننا في عصر الذكاء الاصطناعي الذي نلحظ تصاعد تطويراته وتأثيراته المجتمعية بما فيها الثقافة بشكل عام والأفكار بشكل خاص، وهذا ما يمكن أن يؤثر في الكيفية التي تتشكل فيها الأفكار؛ فيمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي في وقتنا تقليد بعض العمليات المعرفية والتفكيرية بل تتجاوز في بعض أنماطها ومجالاتها قدرات الدماغ البشري، مما يقود عمليات تغيير كبيرة في توليد الأفكار وأنماطها بسبب التحول من الأدوات المعرفية التقليدية إلى الأدوات الرقمية مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية التي أحدثت صدمة ثقافية في المجتمع وأدارت دفة الأفكار بما يتوافق مع معايير المجتمع الرقمي وثقافته المستجدة.
ختاما، نؤكد أن عملية صناعة الأفكار تعد عملية متعددة الأوجه وفق الظروف المجتمعية التي تتعلق بثقافة المجتمع وأدواته المعرفية والتقنية؛ فيمكن لكل من هذه العوامل أن تؤثر على الوظائف العصبية الدماغية، والعمليات المعرفية، والحالات العاطفية والغائية، والخلفية الثقافية والتقدم التقني، ويمكن أن تبرز هذه التفاعلات المعقّدة عمقَ الإدراك البشري وتنوعه؛ لتؤكد على التطور المستمر في فهمنا للعمليات العقلية بما في ذلك فهمنا لنشأة الأفكار.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صناعة الأفکار علم الأعصاب یمکن أن ن ویمکن أن دراسة ن وهذا ما
إقرأ أيضاً:
القليل من الوعي.. ما تحتاجه الأمة..!
بقلم- منصور البكالي
كثيرة هي الكتابات عن احتياجات الأمة، هناك من يطرح خيارات مختلفة كالعلم، والسلاح، والتنمية، والقيادة، والجيش، .. إلخ،فيما الواقع اليوم يتطلب فقط القليل من الوعي الذي ينهض بكل الاحتياجات دفعة واحدة، وهو وعي ممكن ومتاح وفي متناول الجميع، حول الصعوبات إلى فرص والمستحيلات إلى أمور روتينية، أتدرون ما نوع هذه الوعي؟ ومن مصدره؟ وما هي فعاليته وأثره في تغيير الواقع؟
هذا الوعي لا يأتي من الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية والغربية المتقدمة، ولا من مراكز الدراسات والبحوث العلمية، ولا من كل المؤسسات والهيئات المنتجة والمصدرة له على الأرض، بمختلف أنواعه ومسمياته العلمية، والفلسفية، وبكل نظرياته وتعريفاته المتضاربة، بل هو وعي متجدد فعال أثره، مصدره الله الذي خلق الكون الفسيح، علام الغيوب، الخبير بما ينفع عباده وما يضرهم، الهادي إلى الصراط المستقيم، والحق المبين.
إنه الوعي القرآني إذا ما تعاملنا معه ككتاب هداية في كل مجالات حياتنا، المعزز لمعرفتنا بالله وثقتنا المطلقة به، ولأثر الاستجابة الفعلية لتوجيهاته من إعداد وتحرك واستشعار بالمسؤولية أمام خطاباته التوجيهية وأوامره ونواهيه الواضحة الصريحة المفصلة، في مختلف جوانب الحياة، دون الحاجة إلى غيره من الثقافات الباطلة، والعقائد المزيفة.
هذا النوع من الوعي ليس بحاجة إلى فلسفة واكتشاف ودراسات وبحوث، وأجهزة وآليات ومعدات لتطبيقه، بل هو بحاجة لاستجابة عملية فورية تنطلق نحو تزكية النفوس وتعزيز شعورها بالمسؤولية الفردية والجماعية أمام مختلف قضاياها، وسلم أولوياتها الضامنة لها حق البقاء والتمكين والقوة والنفوذ والحاكمية، وهذا لن يتأتى ما لم يكون الخوف والخشية من الله لا ممن سواه، من الحكام والأنظمة العميلة لأعداء الأمة، ولا من أجهزتها الأمنية وجيوشها وأسلحتها المسخرة لتنفيذ أجندة الأعداء.
من يتأمل في الموقف اليمني كحالة متقدمة في مواجهة أعداء الأمة والوقوف والمساندة مع الشعبين الفلسطيني واللبناني، يتساءل عن سر هذا الموقف، وكيف نهض اليمن من لا شيء، ومن تحت رماد الحروب والعدوان المتواصل منذ 9 أعوام، إلى قوة حطمت كبرياء أمريكا، ودمرت صورتها الباطشة في الرأي العام العالمي! وعطلت تقدمها العسكري وقوتها الاقتصادية، ونفوذها في المنطقة، وحولتها إلى قشة أوهن من بيت العنكبوت.
هنا مربط الفرس المعبر عن أثر الوعي المطلوب، والحالة اليمنية باتت اليوم في متناول الجميع، والكل يعرف كيف تأسس المشروع القرآني وانطلقت المسيرة القرآنية، لتصل بالشعب اليمني إلى هذه المرحلة المتقدمة، وهذه المواقف المشرفة، وما هي الإرهاصات والأثمان التي دفعها المتسلحون بالوعي القرآني، وكيف باتوا اليوم قوة يشار إليها بالبنان، ويهابها الأعداء ويتشرف بها الأصدقاء، وتدور حولها جدليات واسعة وضجيج صاخب في مختلف وسائل الإعلام الغربية والعربية ذات المتنفس الإعلامي، ومراكز الدراسات والبحوث العسكرية والسياسية.
أخيراً: هل ستدرك الشعوب والنخب الثقافية والعلمية، والإعلامية، والسياسيين العرب والمسلمين أن بين أيديهم وداخل جيوبهم وفي رفوف منازلهم وجوامعهم أقوى وأفضل وأهم سلاح! إذا ما فعل في واقع حياتهم ككتاب هداية ورحمة ووعي للعالمين؟