تخضير التجارب التعليمية في سلطنة عمان
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
«زحفت كارثة غريبة فوق المنطقة، وابتدأ كل شيء يتغير، وجثم سحر مشؤوم فوق الجميع، واجتاحت أمراض غامضة قطعان الدجاج، ومرضت الماشية والأغنام تنفق، دخل شبح الموت في كل مكان...
وساد سكون غريب، الطيور أين ذهبت؟ الكثيرون يتحدثون عنها في حيرة وانزعاج، أماكنها مهجورة، والقلة القليلة الباقية منها تحتضر، ترتجف بعنف ولا تقوى على الطيران، كان ربيعا بلا أصوات.
أشجار التفاح تزهر وليس هناك من نحل يسعى بين أزهاره، لم تعد الأزهار تلقح، ولن تكون هناك فاكهة..
ما الذي أسكت أصوات الربيع....»
كانت هذه مقدمة لكتاب له أثر كبير في تاريخ العلم الحديث، ألفت هذا الكتاب راشيل كارسون، وهي عالمة من علماء الطبيعة تمتلك حسا مرهفا وقلما مؤثرا، جمعت بين التخصص العلمي واللغة الأدبية المؤثرة، وأرادت من خلال كتابها هذا الذي عنونته بـ(الربيع الصامت) أن ترسل رسالة وتوضح أثر استخدام المواد الكيميائية الضارة على البيئة.
فمنذ الثورة العلمية وتطور أدوات البحث العلمي، وتمّكن الرؤية المادية من كيان الإنسان وعقله، سعى الإنسان إلى الاستفادة القصوى من البيئة والموارد الطبيعية من حوله بشتى الطرق ودون أن يراعي ما تتعرض له البيئة والنظم الحيوية من دمار، وفي منتصف القرن الماضي دخلت الصناعات الكيميائية مرحلة متطورة للغاية، وبدأ استخدام المواد الكيميائية المختلفة يتوسع بصورة كبيرة ففي الحقول الزراعية لاحظ المزارعون الأثر الإيجابي للمبيدات الحشرية المختلفة، كما لاحظ الناس أثر ذلك في منازلهم، و على إثر ذلك، انتشرت هذه المبيدات بدون ضوابط بصورة كبيرة للغاية، وهنا أدركت هذه العالمة بروحها الحساسة ما ينتظر العالم من دمار إذا لم يتوقف عن استخدام عدد من هذه المبيدات الحشرية، واستغلت قدرتها الأدبية لتوصل رسالتها للعالم أجمع، ونشرت كتابها عام ١٩٦٢م، وكان للكتاب صدى واسع جدا وتصدر قائمة أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة لسنوات متتالية.
شنّت كارسون حملة واسعة على عدد من المبيدات الحشرية التي تم استخدامها موضحة أثرها السيئ ومن أشهر هذه المبيدات الحشرية كانت مادة دي دي تي، التي شنت عليها الكاتبة حملة كبيرة وأنها ستسبب دمارا كبيرا.
لكن الكتاب في المقابل ووجه بعنف ووقفت الشركات العملاقة التي كانت تنتج تلك المبيدات الحشرية موقفا عنيفا من هذه العالمة واتهمتها بأنها تريد أن ترجع البشرية إلى عصور الظلام وهيمنت الحشرات والطيور على الأرض.
إلا أن الكاتبة أيقظت وعي المجتمع الأمريكي آنذاك واستطاعت أن تتغلب على كل تلك الشركات العملاقة، من خلال علمها الواسع وقلمها المؤثر وقلبت الطاولة عليها، وخلال عقد من الزمن تدخلت الحكومة الأمريكية ومنعت كل المواد الكيميائية التي أوردتها الكاتبة في كتابها من التداول أو وضعت تشريعات قلّصت من استخدامها بشكل كبير.
وبعد حوالي أربعة عقود من الزمن، أدرك العالَم وقام بدعم ما طرحته هذه العالمة وصاغ عالمان من الكيمياء وهما بول أناستاس وجون وارنر مبادئ لإنتاج واستخدام مواد كيميائية صديقة للبيئة، وعرفت هذه بمبادئ الكيمياء الخضراء، وهذه المبادئ تهدف إلى تصنيع واستخدام مواد كيمياوية لا تضر بالبيئة أو أنها ليست ذات ضرر بليغ كما أنها تنظر إلى طرق إنتاجها أيضا وإلى كمية الطاقة التي تحتاجها للإنتاج.
إلا أن الملاحظ، أن التجارب التي تستخدم في الكثير من المؤسسات التربوية سواء في المدارس أو الجامعات في أنحاء العالم لا تخضع ولا تقيّم بناء على أسس الكيمياء الخضراء، ومن هنا قام الأستاذ الدكتور السعيد الشافعي بمعية الكاتب-حيدر أحمد اللواتي- بالتقديم لبحث استراتيجي
بعنوان «تخضير مناهج الكيمياء العملية في جامعة السلطان قابوس والمدارس الحكومية العمانية» وذلك بمشاركة كل من الدكتور حمد المعمري والدكتور إسحاق النافعي من جامعة السلطان قابوس وبمشاركة الدكتورة رضية الهاشمية والأستاذين أحمد بني سعد وعبدالله المزروعي من وزارة التربية والتعليم، وتمت الموافقة على دعم المشروع بمنحة سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- وذلك في مايو عام ٢٠٢٣م.
إن استخدام كيمياء خضراء في الحقل التربوي له أهمية باللغة، إذ الملاحظ في مبادئ الكيمياء الخضراء أن أولى المبادئ تنص على تجنب إنتاج المخلفات الكيميائية مهما أمكن ذلك، وبمعنى آخر إن العمليات الصناعية التي يتم فيها تحضير مواد كيميائية معينة يجب أن تكون ذات فاعلية عالية بحيث تكون المخلفات الناتجة من هذه التفاعلات قليلة للغاية وغير ضارة، إلا أن تطبيق هذا المبدأ يعد تحديا كبيرا في المختبرات التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات، وذلك لأن كل المواد الكيميائية التي يتم استخدامها في التجارب التعليمية سينتهي بها الأمر إلى كونها نفايات يجب التخلص منها، فالمنتَج من هذه التجارب العلمية ليست مادة كيميائية يمكن تسويقها مستقبلا والاستفادة منها بل المنتج هي المعرفة التي يكتسبها الطالب من خلال إجرائه للتجربة، ولذا فكل الكيمياويات التي يتم استخدامها في التجربة تصبح نفايات يجب التخلص منها، وهذا يعني أن نسبة النفايات الكيميائية في هذه التجارب يصل إلى ١٠٠٪.
ومن هنا تأتي أهمية البحث والتحقق من أن الكيمياويات المستخدمة في هذه التجارب هي مواد آمنة وليس لها أثر بيئي سلبي، كما يجب التحقق من أن هذه المواد يمكن التخلص منها بسهولة ويسر ودون الحاجة إلى طرق معينة ومعقدة وذلك نظرا لصعوبة القيام بذلك وخاصة في المدارس الحكومية.
ولا يتوقف البحث عند الأبعاد البيئية وسلامة المواد الكيمياوية المستخدمة، بل تعد الأبعاد الاقتصادية جزءا مهما من عملية انتقاء المواد الكيميائية، فلابد لهذه المواد أن تكون منخفضة الكلفة أيضا، لكي يتمكن الطالب من إعادة التجارب كلما احتاج لذلك دون أن يسبب ذلك ارتفاعا كبيرا في كلفة هذه التجارب، كما يأخذ البحث بعين الاعتبار طرق تخزين هذه المواد أيضا، فيجب ألا تحتاج هذه المواد إلى شروط تخزين تستهلك طاقة عالية، كأن تحتاج درجات حرارة منخفضة، فكل ذلك سيرفع من كلفة التجارب ولا يجعلها خضراء.
وكل هذه الاعتبارات المذكورة لا يجب أن تكون على حساب الهدف الرئيسي من التجربة وهي المفاهيم والمهارات التي نسعى في غرسها في الطالب من خلال إجرائه للتجارب المعملية، ولذا فلابد من تولية هذه المسألة أهمية بالغة عند انتقاء وإعداد هذه التجارب العلمية المختلفة.
ففي إحدى التجارب العلمية التي تهدف إلى أن يقوم الطالب بتحديد الحجم المولي للغاز ويتم استخدام مادة الأسيتون فيها وهي مادة سريعة التبخر مما يسهل إجراء التجربة باستخدام هذه المادة، إلا أن مادة الأسيتون تعد مادة خطرة لأنها سريعة الاشتعال كما أنها تعد مادة مسرطنة، ولذا فكان لابد من استبدالها بمادة أخرى أقل خطرا، ويكمن التحدي في أن استخدام مواد أخرى تتبخر في درجات حرارة منخفضة لن يحل المشكلة، وذلك لأن كل المواد التي تتبخر في درجات حرارة منخفضة عادة تكون قابلة للاشتعال، كما أن التعامل مع المواد الغازية بشكل مباشر أمر في غاية الصعوبة، ولذا كان لابد من التفكير بطريقة مختلفة، فبدل أن يتم استخدام مادة غازية بشكل مباشر يتم استخدام مواد في حالة سائلة أو صلبة ومن ثم ومن خلال تفاعل كيميائي معين يتم إنتاج مادة غازية ويتم تجميعها، وبالفعل تم استبدال الأسيتون بتفاعل كيميائي ينتج منه غاز ثاني أوكسيد الكربون ويتم تحديد الحجم المولي لهذا الغاز، وكما هو معروف فإن هذا الغاز يعد غازا مسالما بل ويستخدم في طفايات الحريق أيضا، وقد نتج عن هذا التغيير انخفاض في كلفة التجربة بنسبة تصل إلى أكثر من ٨٠٪، وسوف نقوم عن قريب بنشر تفاصيل التجربة في ورقة علمية.
إن تطبيق الكيمياء الخضراء في التعليم منذ الصغر لن يقتصر أثره على البيئة والاقتصاد فحسب بل سينعكس إيجابا على المجتمع، فهؤلاء الطلبة هم الموظفون والمعلمون والأطباء والوزراء والرؤساء التنفيذيون للشركات في المستقبل، وزرع ثقافة بيئية في أذهانهم سيكون لها أكبر الأثر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ولتحقيق الأهداف المنشودة فسوف يتم الاستعانة ببعض التقنيات الحديثة التي غيرت وجه الكيمياء الحديثة بصورة كبيرة جدا، ومن هذه التقنيات ما يعرف بتقنية مختبر على ورق، ففي هذه التقنية يتم استخدام الورق كمختبر لعمل التفاعل الكيميائي وذلك باستغلال خواص الورق التي تسمح بخلط المواد الكيميائية بشكل جيد جدا ودون الاستعانة بمؤثر خارجي وذلك اعتمادا على الخاصية الشعرية للورق.
إذ يتميز الورق بأنه يتكون من مواد محبة للماء ويقصد بالمواد المحبة للماء بأن هذه المواد تذوب وتختلط مع الماء بسهولة ويسر، بينما هناك مواد لا تختلط ولا تتفاعل بسهولة مع الماء وتعرف هذه المواد بأنها مواد كارهة للماء، فملح الطعام مثلا يعد مادة محبة للماء ولذلك فمجرد أن تضيفه للماء تجده يذوب فيه وبسهولة ويسر، بينما يعد الفلفل الأسود مادة كارهة للماء لذا تجده يطفوا على سطح الماء ولا يختلط به ولا يذوب فيه.
السبب الذي يجعل مواد مثل الفلفل الأسود لا تذوب في الماء هو أن هذه المواد تحتوي على مركبات كيميائية ذات طبيعة مغايرة للماء، فهي مركبات غير قطبية، بينما يعرف الماء بانه مركب قطبي كالمغناطيس له قطب موجب وآخر سالب، وذلك لأنه يتكون من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين و تقوم ذرة الأوكسجين بجذب إلكتروني ذرتي الهيدروجين باتجاهها، ولذا فان هذين الإلكترونين يدوران حول ذرة الأوكسجين لفترات أطول من دورانهم حول الهيدروجين ونظرا لأن الإلكترون يملك شحنة سالبة فإن ذلك بدوره يؤدي إلى قطبية الماء.
وكما أشرنا سابقا بأن الورق يتميز بكونه محبا للماء ولذا فإذا قمت بسكب محلول مائي على الورق فانه ينتشر في الورقة بكل سهولة ويسر، فإذا وضعت محلولين مائيين على الورقة فيمكن لهذين المحلولين أن يتفاعلا معا وينتجان لنا مادة كيميائية جديدة، ولكن يكمن التحدي في السيطرة على انتشار المحاليل المائية على الورقة، فهي تنتشر في جميع الاتجاهات ويصعب التحكم في انتشارها، وللتغلب على هذا التحدي فيمكن وضع محددات لا مائية (زيتية) على الورقة حيث إن هذه المحددات الزيتية لا تسمح بانتشار المحاليل المائية خارج حدود تلك المحددات الزيتية وبذلك يمكن التحكم في اتجاه انتشار المحاليل المائية.
ويمكن عمل هذه المحددات الزيتية باستخدام أقلام زيتية تصبغ بها سطح الورقة فينقلب سطحها إلى سطح كاره للماء لا يختلط به ولا يسمح للمحاليل المائية بالانتشار فيه (شكل 1).
وقد لوحظ أن نوعية الورق المستخدم يؤثر كثيرا في فاعلية هذه المختبرات، وأن ورقة الترشيح وبعض أنواع الأوراق الأخرى كورقة الكروماتوغرافيا تعد مثالية، بينما تفتقر الأوراق التي تستخدم في الكتابة إلى ذلك.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المواد الکیمیائیة المبیدات الحشریة استخدام مواد هذه التجارب یتم استخدام هذه المواد على الورق من خلال من هذه إلا أن
إقرأ أيضاً:
“مواد كيميائية أبدية” خطيرة في الساعات الذكية وأساور اللياقة البدنية!
إنجلترا – أظهرت دراسة جديدة أن الساعات الذكية وأجهزة تتبع اللياقة البدنية قد تعرض المستخدمين لمواد كيميائية ضارة تُعرف بـ”المواد الكيميائية الأبدية”.
ووجد الباحثون أن الأساور المصنوعة من مواد باهظة الثمن، خاصة المطاط الاصطناعي المفلور، تحتوي على مستويات عالية من نوع من هذه المواد الكيميائية يُعرف بـ حمض بيرفلوروهكسانويك (PFHxA)، وهو مركب مرتبط بمخاطر صحية.
ويعد حمض البيرفلوروهكسانويك نوعا من “المواد الكيميائية الأبدية”، المعروفة باسم الفاعلات بالسطح الفلورية (PFAS) التي تتميز بخصائصها الطاردة للماء والدهون والعرق، ما يجعلها شائعة الاستخدام في مجموعة واسعة من المنتجات الاستهلاكية، بدءا من الملابس المقاومة للبقع وصولا إلى المنتجات الرياضية.
ومع ذلك، فإن الثبات البيئي لهذه المركبات وعدم تحللها يشكلان مصدر قلق، نظرا لإمكانية ارتباطها بمشاكل صحية.
وفحص الباحثون خلال الدراسة التي نشرتها مجلة Environmental Science & Technology Letters، نحو 22 سوارا لساعات ذكية وأجهزة تتبع اللياقة البدنية، وقيموا محتوى الفلورين كمؤشر لوجود مركبات الفاعلات بالسطح الفلورية (PFAS).
ووجدوا أن جميع الأساور التي تم الإعلان عنها على أنها مصنوعة من المطاط الفلوري (fluoroelastomers)، وهو مطاط صناعي معروف بمتانته، تحتوي على مستويات يمكن اكتشافها من الفلور.
ومن المثير للقلق أن سوارين لم يتم الإعلان عن أنهما يحتويان هذه المواد أظهرا آثار المادة الكيميائية أيضا، ما يشير إلى مشكلة أوسع نطاقا للتلوث.
والأساور التي يزيد سعرها عن 30 دولارا كانت تحتوي على مستويات أعلى بكثير من حمض بيرفلوروهكسانويك (PFHxA) مقارنة بالأساور الأرخص، مع تركيزات تجاوزت 16 ألف جزء لكل مليار (ppb)، وهي أرقام تظهر ارتفاعا كبيرا عند المقارنة بمنتجات أخرى مثل مستحضرات التجميل التي تُظهر متوسط 200 جزء لكل مليار.
وبينما يُعتقد أن حمض بيرفلوروهكسانويك (PFHxA) يضاف خلال عملية التصنيع كمادة خافضة للشد السطحي (أو التوتر السطحي، وهو لتأثير الذي يجعل الطبقة السطحيّة لأي سائل تتصرف كورقة مرنة)، فإن المعلومات عن مدى امتصاصها عبر الجلد والمخاطر الصحية الناجمة عن التعرض لها لفترات طويلة ما تزال غير واضحة.
وأظهرت دراسات أولية أن كميات كبيرة من هذه المواد يمكن أن تخترق الجلد عند الاستخدام الطبيعي.
وتوصي أليسا ويكس، المؤلفة الرئيسية للدراسة، المستهلكين باختيار أساور مصنوعة من السيليكون كبديل أكثر أمانا وبأسعار معقولة.
وينصح أيضا بقراءة وصف المنتجات وتجنب شراء الأساور التي يعلن عن احتوائها على المطاط الفلوري.
المصدر: إندبندنت