البوابة نيوز:
2025-03-10@09:32:31 GMT

الفارس النبيل.. صلاح عبد الصبور

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

 

لا أجد السلوى إلا فى قصائد عبدالصبور كلما تضيق بى الدنيا


الخميس الأخير من شهر أغسطس ١٩٨١. الأتوبيس رقم "٥٤" يستقلني بعد خروجي من الكلية الحربية. شهر طويل من العزلة عن العالم، رضوخًا لمتطلبات الحياة العسكرية الصارمة. في يدي حقيبتي الصغيرة، والرأس عامرة بأحلام كثيرة عن اليوم الذي أترك فيه ذقني بلا حلاقة لمدة أسبوع، وأطلق شعري حرًا لشهرين كاملين، وأنام وأصحو بلا مواعيد أو بروجي يطلق نفيرًا نصحو به وننام.


الأتوبيس مزدحم مكتظ كالعادة، لكن شهور التهيؤ للانخراط في عالم "الضباط الاحتياط" تكفي ليتحمل الإنسان كل شيء. كنت أفكر في تلك الطاقة الهائلة التي يمتلكها البشر ولا يعرفونها إلا عند الضرورة، عندما وقعت عيني على الصفحة الأخيرة من جريدة "الأخبار"، يتصفحها واحد من الركاب. لا أذكر اسم كاتب اليوميات، لكن العنوان يحمل اسم صلاح عبدالصبور مسبوقًا بتبجيل لا نمنحه إلا للموتى. لا تتيح لي وقفتي غير المريحة أن أعرف التفاصيل، لكنني أدرك بيقين صارم أنه لم يعد حيًا.
تتبخر فرحتي بالإجازة القصيرة التي كنت أنتظرها في شوق ولهفة، وتتجمع الدموع في عيني. هل أبكى الشاعر الذي لا شبيه له، أم أنني أبكي مرتعدًا من قسوة الزمن الرديء الذي يتفنن بعبثيته في إفساد كل جميل والإطاحة به؟.
لم أره يومًا عن قرب، لكنني أحبه كما لم أحب أحدًا إلا تشيخوف ونجيب محفوظ وصلاح جاهين، وقلة تُعدّ على أصابع اليدين من الروائيين والشعراء وأهل التصوف. كلما تضيق بي الدنيا، لا أجد السلوى إلا في قصائد عبدالصبور، وقصص الروسي العبقري، وروايات محفوظ ورباعيات جاهين. أفرّ إلى أحضانهم من صخب الأيام المضني، وأحتمي بدفئهم النبيل من عواصف الكآبة والسأم، وأعاصير الابتذال والتفاهة.
حبي له، في السنوات القليلة السابقة لموته، يصاحبه الكثير من العتاب والإشفاق. العتاب تحفظًا على بعض مواقفه الوظيفية التي لا ترضيني لأسباب سياسية، والإشفاق من طوفان الهجوم العاتي الذي ينهال عليه من الكهنة المتشنجين، مدمني المزايدة الرخيصة وتسجيل المواقف العنترية.
الأوغاد يشككون في وطنيته، ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك. المحترمون من معارضيه لا يتجاوزون، والبذاءة من نصيب الأدعياء وحدهم، وما أكثرهم. السياسة لعنة مهلكة، فكيف عندما تقترن بالمراهقين الضالين المضللين، أولئك الذين ينفقون أعمارهم في القهاوي، ويتلذذون بتشويه الموهوبين. إنهم يجدون المتعة الأسمى في البحث عن خدوش مسيئة، يسلطون الضوء الأصفر الحاقد عليها، متوهمين النجاح في الهبوط بالمتوهجين أمثال صلاح إلى الحضيض الذي يعيشون فيه. لا يعرف هؤلاء أن صلاح عبدالصبور قد أدرك عقم كل شيء ونفض يديه عن دنياهم: انتظار عقيم، والليالي الحبالى يلدن ضحى مجهضًا. تجيئه الإشارات من مرصد الغيب في قصيدة "توافقات"، وعندئذ يسيطر عليه المزاج الرمادي. منذ أخبره العلماء الثقاة بعقم الانتظار، يقتات الفجيعة ويلوك السأم، ويختلط سواد الألم في شعره بكوابيس اليأس القاتلة.
المراهقون السياسيون سلاح للتدمير الشامل، والذين يرددون الشعارات الزاعقة هم الأكثر ترحيبًا بالسقوط عندما تلوح لهم فرصة اقتناص ثمرة عفنة يلوّح بها النظام. في انتظارها، لا يتورعون عن الهجوم الفج على القامات الرفيعة، وليس أدل على ذلك من حملاتهم المغرضة على عبدالصبور وجاهين ونجيب محفوظ.
تتبخر فرحة الإجازة القصيرة بخبر موته، وأجاهد عند انتصاف الليل لكي أكتب قصيدة أعبر في سطورها عن مزيج الحزن والغضب. أتذكر المطلع جيدًا:
"وأعرف أنك كنت النبي الذي طاردته الشياطين..".
سرعان ما أجهض القصيدة الوليدة وأنبذها، مدركًا أن حبي لصلاح يفوق قدرتي على التعبير بالشعر.
تمر السنوات ويزداد حبي للشاعر الفذ الذي يرى ما لا يراه المراهقون مدمنو الشعارات والهتافات المسجوعة. يقل العتاب حتى يتلاشى، بل إنني أقول لنفسي ما كان يقول: الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت.
أعد حبيبتي، التي لم تعد حبيبتي، بأنني لن أقول لها مجددًا إنني أحبها، فالصداقة خير وأبقى، لكننا عندما نلتقي في أحلامي المرهقة، أستعيد قصيدة "أحلام الفارس القديم". أفكر في أن يُبعث حبنا بمساعدة من ملاك جميل يرسله الرب، وأفكر أيضًا في لعنة "لو" و"لكننا"، وفي الكون الكئيب الذي يخلو من الوسامة وتحتله عصابات الجهامة. أقول لها بلا مقدمات، محملًا صلاح عبدالصبور مسئولية القول: صافية أراكِ يا حبيبتي كأنما كبرتِ خارج الزمن. أعرف أنها تضيق عندما أسترسل في الحديث عن صورة صلاح الخلابة غير المسبوقة، لكنني لا أتوقف عن استدعائها، حتى في الأحلام.
يموت صلاح على مشارف الخمسين، ويمتد العمر بالأوغاد عديمي النفع، وبهم يكتمل الشقاء الذي يولد مع غيابه. أتساءل كثيرًا: ما الجدوى من الاستمرار في كتابة لا تغير شيئًا؟. أجيب مستعيرًا ما يقوله صلاح في مسرحيته البديعة "ليلى والمجنون"، التي أوشك من فرط حبي لها أن أحفظها: هذا زمن لا يصلح أن تكتب فيه، أو تتأمل، أو تتغنى، أو حتى توجد.
ما من مرة أسير فيها حزينًا مهمومًا، لائذًا بالشوارع الجانبية الحانية، مبتعدًا عن صخب الميادين والشوارع القبيحة المحتلة بالأضواء الرديئة الماسخة، إلا أتمتم كأنني أبكي:
"وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلًا
في زحمة المدينة المنهمرة".
أتابع رجلي اليسرى، تجاهد للحاق باليمنى. يفزعني زحام الناس، وأراهم يخرجون لي ألسنتهم شامتين، كأنهم الكوابيس. عندئذ أرفع رأسي إلى السماء، وأبحث عن العلماء الثقاة، أسألهم عن جدوى الانتظار وموعد الانتحار.
*فصل من كتاب "النبش في الذاكرة"

«صلاح عبدالصبور وحده هو الذي وضع النغمة التي جعلت الشعر الحديث ممكنا في عصرنا، بل التي جعلت إمكانية الحديث شعرًا متاحة. هو الذي جعل حديثنا اليومي، وشعرنا التراثي، وتأثيرات الفكر والأدب الأجنبي وتعبيرنا الوجودي الفاجع عن واقعنا جعل صلاح عبدالصبور كل هذا ممكنا».
بدر الديب
الأوغاد يشككون في وطنيته ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك
 

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

مكاوي محمد عوض: شغل مختلف!

استمعت على مدى ساعتين ونصف للباشمهندس مكاوي محمد عوض وزير النفط السابق وهو يتحدث في تسجيل بالفيديو (بودكاست بصمة خضراء). معظم وقت الحلقة تناول أعمال مكاوي في الهيئة القومية للكهرباء حيث قضى أطول فترة من سنوات خدمته (12) عامًا.
ويبدأ مكاوي الحكاية بنشأته الأولى في قرية أقجة بدنقلا وخلوة سيدنا عبد الكريم والد الفنان زكي عبد الكريم الذي كان شيخ الحِيران.

يسأل مقدم الحلقة عن سبب اختيار تخصص الكهرباء للدراسة فيقول مكاوي: “نحن طبعا اتولدنا في قرية ما فيها كهرباء، ولما جينا الخرطوم لقينا الكهربة… اخترت الكهربة لأننا دايرين كهربة… وأشواقي أن أكون في مكان فيه كهربة).

هذا الطموح المتواضع حمل الفتى مكاوي ليسهم في مجال تنموي مهم يتعلق بتطوير مجال الكهرباء بالسودان. بدأ مشواره مع الكهرباء منذ تعيينه في الإدارة المركزية للكهرباء والمياه فور التخرج عندما كان التعيين للدفعة كلها (28 خريج) بحجزها في المصالح الحكومية، و”المرتب يدوِّر. ما كنا بنهبش المرتب لأن مكافأة التدريب اللي كنا بناخذها في المحطات الخارجية وهي جنيه ونصف في اليوم كانت تكفي لمعيشتنا” يقول مكاوي.

ويختار النقل إلى مصنع النسيج السوداني لوجود فرص دراسات عليا ليبتعث إلى جامعة برادفورد في بريطانيا ويعود بالماجستير. لكن ظروف البلاد الاقتصادية تدفع بالكثير من جيله للهجرة إلى السعودية ليعود منها سنة 1989 مع حكومة الإنقاذ. وتكون عودته إلى جامعة السودان حتى يصبح رئيسًا لقسم الكهرباء، لينتدب منها إلى الهيئة القومية للكهرباء (مدير أول) الكهرباء بمنطقة الخرطوم، ولا يلبث أن يعين مديرًا عاما للهيئة.

بتلقائية يحكي الباشمهندس مكاوي قصته مع الكهرباء وعزمه على التغيير، وما جرَّ عليه ذلك من مقاومة ومعارضة، أشدها من النقابات والصحافة.

من نوع المشكلات التي واجهته مشكلة المبيعات حيث كانت فاتورة الكهرباء تستغرق 32 خطوة حتى تخرج إلى المستهلك، ويضطر إلى التعامل مع المتأخرات بحملات القطع، حيث يستغرق الموظفون ساعات طوالا يحملون سلالمهم. وواجه الفاقد التجاري وهو الاسم المخفف للسرقات أو (الجبَّادات). كانت البداية بعمل إحصائي وجمع وتصحيح المعلومات، وانتدب لها فريقًا من الشباب. واشتغل بالتدريب على نطاق واسع وإرسال المتدربين للخارج وفي بعثات داخلية.

ويتناول الباشمهندس تفاصيل دقيقة في هذا التغيير الذي أتى بنتائج سريعة. مثلا كان دخل الهيئة كله لا يوفي المرتبات، في حين أن 7% من الدخل فقط استوفى المرتبات بعد اكتمال الخطة الخمسية.

أدخال نظام الدفع المقدم الذي سموه (الجمرة الخبيثة)، ووجد مقاومة شديدة أول الأمر. وبدأ إدخال النظام الجديد ابتداءً من بيت رئيس الجمهورية ثم في أحياء المنشية والرياض. وألزم المساجد بالدفع وقالوا له إن الرئيس نميري أعفى المساجد من دفع فواتير الكهرباء، وبالتقصي عرف أن قرار الرئيس نميري لم يكن إعفاءً إنما إلزام وزارة الإرشاد والأوقاف بكهرباء المساجد. وألزم المحليات بدفع كهرباء أعمدة الإنارة في الشوارع، واستطاع مع المحليات ووزارة الإرشاد التوصل لطرق التمويل لأسعار الكهرباء.

ونظام عداد الدفع المقدم أخذه مكاوي من جنوب إفريقيا التي لجأت إليها مضطرة بسبب التمييز العنصري، حيث إن قارئ العداد ظل مستهدفًا بالضرب حين يأتي أبيض إلى بيوت السود، أو اسود إلى بيوت البيض.

وتعامل مع الترهل في العاملين إذ كانت الهيئة تعاني تضخمًا كبيرا، ومن صور التضخم المضحكة أن السائقين كانت لديهم عدة مراتب وظيفة؛ سائق ثم رئيس سواقين، ثم مراقب سواقين، ثم ملاحظ سواقين، واستحدثوا أخيرًا وظيف بمسمى شيخ السواقين.

لم تكن الأقسام الخدمية على ما يرام… عدة فرق عمل اشتغلت أيامًا لتركيب مكيف في بيته، والنتيجة أن المكيف لم يشتغل، فاستأجر شخصًا من السوق أعاد تركيب المكيف.

عند انقضاء الخطة الخمسية الأولى تجاوزت البلاد أزمة الكهرباء، ودخلت معظم أنحاء البلاد في الشبكة القومية، وتهيأت للمزيد من الإنجاز في الخطة الخمسية الثانية التي كانت ترمي إلى زيادة إنتاج الكهرباء لتصبح 5000 خمسة آلاف ميجاواط، وكان الإنتاج نحو 90 ميجا واط فقط عندما تسلمها مكاوي.

ويروي مكاوي قصة في أنه أعلن عن ميعاد لدخول عطبرة في الشبكة القومية، فاستدعاه الرئيس ليسأله عن ذلك، وكيف يقوم بخطوة كبيرة مثل هذه دون أن يبلغ الرئيس!
بعد ذلك يستمر مكاوي في سرد قصته بالسكة حديد، عندما نُقل إليها مديرًا، وكان مدير السكة حديد هو الشخص الرابع من حيث ترتيب البروتوكول في حكومة السودان عندما خرج المستعمر. وكان يستقبل بالبروجي عندما يصل إلى مقر الإدارة في عطبرة. وقته في تغيير فلنكات السكة حديد لم يقل في معاناته الأولى في الكهرباء.

مكاوي استطاع أن يوثق أعماله في الكهرباء بكتاب عنوانه: ملامح الإصلاح والارتقاء في الهيئة القومية للكهرباء، وهناك كتاب آخر يحمل عنوان: سكك حديد السودان من كتشنر إلى مكاوي، واسم المؤلف لم يذكر.

يصف مكاوي ما اضطلع به شباب السودان في الكهرباء بأنها معركة أشبه بمعركة الكرامة التي يخوضونها الآن.

ولا شك أن شباب السودان ينتظرهم الجهاد الأكبر؛ جهاد التنمية والبناء فور عودتهم من الجهاد الأصغر في معركة الكرامة، فهل تتهيأ لهم الأجواء السياسية لينطلق السودان نحو مستقبله؟
نرجو ذلك.

عثمان أبوزيد ـ مكة المكرمة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • اللهم همة كهمة دانيال!
  • «الفارس الشهم 3» تلبي احتياجات أهالي غزة خلال رمضان
  • هل تلاحظون الصمت الذي ضرب على خيمة خالد سلك؟!
  • ميكا ريتشاردز: محمد صلاح كان يحلم باللعب لليفربول منذ أيام فيورنتينا
  • عندما يأتي الشتاء
  • في أمان الله
  • «الفارس الشهم 3» توزع مساعدات على نازحي المحافظة الوسطى
  • عندما يغيب والدك عن صلاة التراويح
  • مكاوي محمد عوض: شغل مختلف!
  • السيدة عون: سنفّعل قرار جعل 4 تشرين الثاني يوم المرأة اللبنانية