البوابة نيوز:
2025-04-17@15:27:56 GMT

الفارس النبيل.. صلاح عبد الصبور

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

 

لا أجد السلوى إلا فى قصائد عبدالصبور كلما تضيق بى الدنيا


الخميس الأخير من شهر أغسطس ١٩٨١. الأتوبيس رقم "٥٤" يستقلني بعد خروجي من الكلية الحربية. شهر طويل من العزلة عن العالم، رضوخًا لمتطلبات الحياة العسكرية الصارمة. في يدي حقيبتي الصغيرة، والرأس عامرة بأحلام كثيرة عن اليوم الذي أترك فيه ذقني بلا حلاقة لمدة أسبوع، وأطلق شعري حرًا لشهرين كاملين، وأنام وأصحو بلا مواعيد أو بروجي يطلق نفيرًا نصحو به وننام.


الأتوبيس مزدحم مكتظ كالعادة، لكن شهور التهيؤ للانخراط في عالم "الضباط الاحتياط" تكفي ليتحمل الإنسان كل شيء. كنت أفكر في تلك الطاقة الهائلة التي يمتلكها البشر ولا يعرفونها إلا عند الضرورة، عندما وقعت عيني على الصفحة الأخيرة من جريدة "الأخبار"، يتصفحها واحد من الركاب. لا أذكر اسم كاتب اليوميات، لكن العنوان يحمل اسم صلاح عبدالصبور مسبوقًا بتبجيل لا نمنحه إلا للموتى. لا تتيح لي وقفتي غير المريحة أن أعرف التفاصيل، لكنني أدرك بيقين صارم أنه لم يعد حيًا.
تتبخر فرحتي بالإجازة القصيرة التي كنت أنتظرها في شوق ولهفة، وتتجمع الدموع في عيني. هل أبكى الشاعر الذي لا شبيه له، أم أنني أبكي مرتعدًا من قسوة الزمن الرديء الذي يتفنن بعبثيته في إفساد كل جميل والإطاحة به؟.
لم أره يومًا عن قرب، لكنني أحبه كما لم أحب أحدًا إلا تشيخوف ونجيب محفوظ وصلاح جاهين، وقلة تُعدّ على أصابع اليدين من الروائيين والشعراء وأهل التصوف. كلما تضيق بي الدنيا، لا أجد السلوى إلا في قصائد عبدالصبور، وقصص الروسي العبقري، وروايات محفوظ ورباعيات جاهين. أفرّ إلى أحضانهم من صخب الأيام المضني، وأحتمي بدفئهم النبيل من عواصف الكآبة والسأم، وأعاصير الابتذال والتفاهة.
حبي له، في السنوات القليلة السابقة لموته، يصاحبه الكثير من العتاب والإشفاق. العتاب تحفظًا على بعض مواقفه الوظيفية التي لا ترضيني لأسباب سياسية، والإشفاق من طوفان الهجوم العاتي الذي ينهال عليه من الكهنة المتشنجين، مدمني المزايدة الرخيصة وتسجيل المواقف العنترية.
الأوغاد يشككون في وطنيته، ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك. المحترمون من معارضيه لا يتجاوزون، والبذاءة من نصيب الأدعياء وحدهم، وما أكثرهم. السياسة لعنة مهلكة، فكيف عندما تقترن بالمراهقين الضالين المضللين، أولئك الذين ينفقون أعمارهم في القهاوي، ويتلذذون بتشويه الموهوبين. إنهم يجدون المتعة الأسمى في البحث عن خدوش مسيئة، يسلطون الضوء الأصفر الحاقد عليها، متوهمين النجاح في الهبوط بالمتوهجين أمثال صلاح إلى الحضيض الذي يعيشون فيه. لا يعرف هؤلاء أن صلاح عبدالصبور قد أدرك عقم كل شيء ونفض يديه عن دنياهم: انتظار عقيم، والليالي الحبالى يلدن ضحى مجهضًا. تجيئه الإشارات من مرصد الغيب في قصيدة "توافقات"، وعندئذ يسيطر عليه المزاج الرمادي. منذ أخبره العلماء الثقاة بعقم الانتظار، يقتات الفجيعة ويلوك السأم، ويختلط سواد الألم في شعره بكوابيس اليأس القاتلة.
المراهقون السياسيون سلاح للتدمير الشامل، والذين يرددون الشعارات الزاعقة هم الأكثر ترحيبًا بالسقوط عندما تلوح لهم فرصة اقتناص ثمرة عفنة يلوّح بها النظام. في انتظارها، لا يتورعون عن الهجوم الفج على القامات الرفيعة، وليس أدل على ذلك من حملاتهم المغرضة على عبدالصبور وجاهين ونجيب محفوظ.
تتبخر فرحة الإجازة القصيرة بخبر موته، وأجاهد عند انتصاف الليل لكي أكتب قصيدة أعبر في سطورها عن مزيج الحزن والغضب. أتذكر المطلع جيدًا:
"وأعرف أنك كنت النبي الذي طاردته الشياطين..".
سرعان ما أجهض القصيدة الوليدة وأنبذها، مدركًا أن حبي لصلاح يفوق قدرتي على التعبير بالشعر.
تمر السنوات ويزداد حبي للشاعر الفذ الذي يرى ما لا يراه المراهقون مدمنو الشعارات والهتافات المسجوعة. يقل العتاب حتى يتلاشى، بل إنني أقول لنفسي ما كان يقول: الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت.
أعد حبيبتي، التي لم تعد حبيبتي، بأنني لن أقول لها مجددًا إنني أحبها، فالصداقة خير وأبقى، لكننا عندما نلتقي في أحلامي المرهقة، أستعيد قصيدة "أحلام الفارس القديم". أفكر في أن يُبعث حبنا بمساعدة من ملاك جميل يرسله الرب، وأفكر أيضًا في لعنة "لو" و"لكننا"، وفي الكون الكئيب الذي يخلو من الوسامة وتحتله عصابات الجهامة. أقول لها بلا مقدمات، محملًا صلاح عبدالصبور مسئولية القول: صافية أراكِ يا حبيبتي كأنما كبرتِ خارج الزمن. أعرف أنها تضيق عندما أسترسل في الحديث عن صورة صلاح الخلابة غير المسبوقة، لكنني لا أتوقف عن استدعائها، حتى في الأحلام.
يموت صلاح على مشارف الخمسين، ويمتد العمر بالأوغاد عديمي النفع، وبهم يكتمل الشقاء الذي يولد مع غيابه. أتساءل كثيرًا: ما الجدوى من الاستمرار في كتابة لا تغير شيئًا؟. أجيب مستعيرًا ما يقوله صلاح في مسرحيته البديعة "ليلى والمجنون"، التي أوشك من فرط حبي لها أن أحفظها: هذا زمن لا يصلح أن تكتب فيه، أو تتأمل، أو تتغنى، أو حتى توجد.
ما من مرة أسير فيها حزينًا مهمومًا، لائذًا بالشوارع الجانبية الحانية، مبتعدًا عن صخب الميادين والشوارع القبيحة المحتلة بالأضواء الرديئة الماسخة، إلا أتمتم كأنني أبكي:
"وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلًا
في زحمة المدينة المنهمرة".
أتابع رجلي اليسرى، تجاهد للحاق باليمنى. يفزعني زحام الناس، وأراهم يخرجون لي ألسنتهم شامتين، كأنهم الكوابيس. عندئذ أرفع رأسي إلى السماء، وأبحث عن العلماء الثقاة، أسألهم عن جدوى الانتظار وموعد الانتحار.
*فصل من كتاب "النبش في الذاكرة"

«صلاح عبدالصبور وحده هو الذي وضع النغمة التي جعلت الشعر الحديث ممكنا في عصرنا، بل التي جعلت إمكانية الحديث شعرًا متاحة. هو الذي جعل حديثنا اليومي، وشعرنا التراثي، وتأثيرات الفكر والأدب الأجنبي وتعبيرنا الوجودي الفاجع عن واقعنا جعل صلاح عبدالصبور كل هذا ممكنا».
بدر الديب
الأوغاد يشككون في وطنيته ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك
 

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

عندما نُقدّس الروبوتات ونجعل منها أبطالًا خارقة

 

 

مؤيد الزعبي

 

هل تخيلتَ يومًا أن نُكرّم روبوتًا كما نُكرم الأبطال؟ أو أن نبكي على فقدان آلة كما نبكي صديقًا؟ قد يبدو هذا ضربًا من الخيال، لكنه خيال يوشك أن يتحول إلى واقع، فنحن البشر نمنح الحياة للجمادات حين تمنحنا شعورًا بالأُنس أو الأمان؛ تخيّل أن يبكي شخصٌ على فقدان كلبه الروبوتي الذي تعطّل بعد سنوات من الخدمة، أو أن تُكرّم مدينةٌ روبوتًا مقاتلًا شارك في معركة دفاعًا عن الوطن، أو أن نرفع القبعة لروبوتٍ فقد ذراعَه بعدما تسلّق برجًا سكنيًا لإطفاء حريقٍ اندلع في إحدى الشقق، أو أن نصنع تمثالًا لروبوتٍ أدّى أدوارًا تمثيليةً فأصبح نجمًا مشهورًا له مَن يتابعه ويُحب فنه، قد تردّ بأن هذا ضربٌ من الخيال، ولكن ما الذي يجعلك تُصدّق أن هذا لن يحدث في المستقبل؟ فكل المؤشرات تُشير إلى أن ذلك سيحدث في السنوات القادمة؛ نحن بشر وتفاعلنا مع مثل هذه الأحداث أمرٌ وارد.

قد أتفهَّم مسألة ارتباطنا نحن البشر بالجمادات التي نبني معها علاقةً خاصّة، كتعلّق شخصٍ بسيارته وحزنه حين يقرر استبدالها، أو إبقائها في كراجٍ لسنواتٍ فقط لأنه لا يستطيع التخلّي عنها، أو تعلّق شخصٍ بأغراضه اليومية مثل كوبٍ أو قلمٍ أو حتى قطعة ملابس، لذا أجد من السهل أن نتعلّق في المستقبل بروبوتاتٍ تُحادثنا ونُحادثها، سنشكو لها همًّا فتُصغي إلينا، سنقرر القيام بأي شيءٍ فستكون رفيقتنا، خصوصًا مع انتشار الروبوتات المساعِدة في السنوات المقبلة فسيوجد مَن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه الروبوتات لدرجة أن يُقدّس وجودها في حياته.

في الحقيقة، لا أنكر مثل هذه المشاعر، بقدر ما أستنكر وبشدة أن نتعامل مع الروبوتات على أنها تمتلك قيمًا أخلاقيةً أو إنسانيةً، فنبدأ بالتعامل معها على هذا الأساس مثل أن ننسب إليها الشجاعة لأنها أنقذت إنسانًا، بينما هي صُمّمت أساسًا لهذا الغرض، أو أن نرى أنها "صانت العشرة" لمجرّد أنها أمضت سنواتٍ تخدمنا في المنزل أو تعتني بكبارنا أو صغارنا. أو أن نعتبرها بطلًا خارقًا يحارب من أجل سلامتنا، بينما نحن مَن استبدلنا الجنود البشريين بآخرين روبوتيين، فلا يمكن أن ننسب النبل أو الشجاعة لروبوتٍ صُنع لأداء مهامٍ محددة، و"موته" لا يجب أن يكون حدثًا مقدسًا بالنسبة لنا.

ربما يقول قائل: وما الذي يدفعك، عزيزي الكاتب، إلى الوصول بمخيلتك إلى مثل هذه الأمور؟ فأقول: لأن تاريخنا البشري خير شاهدٍ على كلامي، فبالعودة إلى طبيعتنا، فقد قدّسنا حيواناتٍ بعينها أو سلالاتٍ منها، وقدّسنا أعشابًا ونباتاتٍ وزهورًا ورفعناها فوق الرؤوس وقبّلناها في المناسبات، بل وحتى تحدّثنا إلى الحجر ودعوناه أن يحلّ مشكلاتنا! فلا تتعجّب، عزيزي القارئ، إذا وجدتنا يومًا نُقدّس روبوتًا صنعناه لخدمتنا، ثمّ نرى فيه بطلًا خارقًا أنقذ حياتنا، أو أن حياتنا أصبحت ناقصةً من دونه.

رغم تحذيري من هذا التوجّه، أعلم أننا كبشر كائناتٌ عاطفيةٌ نرتبط بالأشياء رغمًا عنّا، فكيف الحال مع روبوتاتٍ ذكيةٍ ستزداد ذكاءً يومًا بعد يوم؟ كيف مع برمجياتٍ ستجعلنا نحبّها؟ كيف مع آلاتٍ ستكون رفيقنا الدائم؟ ولكن ما أحذّر منه حقًا ليس تعاطفنا بل الخوف من استغلال هذا التعاطف لجعلنا مدينين لهذه الآلات بحياتنا وأموالنا، فإمّا أن تكون هذه الآلات واعيةً لدرجةٍ تسلبنا فيها كل شيء، أو أن تكون هناك شركاتٌ خلفها تستغلّ مشاعرنا لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية أو تحاول السيطرة علينا وعلى قراراتنا.

خلاصة القول، عزيزي القارئ، إن تعاملنا مع الروبوتات في المستقبل سيكون معقّدًا ومتشابكًا، وكل ما في مخيلتنا اليوم هو جزءٌ بسيطٌ مما سنواجهه؛ لذا لا تستغرب طرحِي، بل استوعب ما نحن مقبلون عليه، وإن كان بالإمكان الاستعداد له أو حتى تدريب أنفسنا وأجيالنا القادمة على مثل هذه السيناريوهات، فلماذا لا؟ بل يجب أن نتعامل مع علاقتنا المستقبلية بالروبوتات كما لو أنها مصيرٌ حتميٌّ علينا الاستعداد له.

وقبل أن أختم هذا الطرح، يُراودني تساؤلٌ يصعب الإجابة عنه: ماذا لو أصبحت هذه الآلات تمثّل لنا أشخاصًا كانوا أحياءً يومًا ما؟ كأن تتجسّد الروبوتات بشخصية فردٍ عزيزٍ فقدناه، فكيف سنتعامل معها؟ وماذا لو أُعيد إحياء شخصياتٍ تاريخيةٍ كان لها تأثيرها وحضورها عبر التاريخ، وهذا التساؤل هو ما سوف اتناقش فيه معك في مقالي المقبل.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • ترجل الفارس| أحمد حلمي عزب.. رجل التحديات الأمنية وتاريخ مشرف في خدمة الوطن
  • «الفارس الشهم 3» توزّع طروداً صحية على النازحات في غزة
  • 50 قتيلاً في حريق بالكونغو
  • عندما نُقدّس الروبوتات ونجعل منها أبطالًا خارقة
  • عناق القلوب
  • «نار نار».. أول تعليق من سما المصري على ظهورها مع نزار الفارس
  • الإمارات تروي ظمأ أهالي غزة
  • بحضور خليفة بن طحنون.. زايد بن حمد يتوِّج ستاوت بطل كأس رئيس الدولة لقفز الحواجز
  • «الفارس الشهم 3» تدعم مراكز الإيواء بالمياه المحلّاة في خان يونس
  • أفيه يكتبه روبير الفارس "أمجاد وخطايا التابعي"