البوابة نيوز:
2025-03-16@09:52:22 GMT

الفارس النبيل.. صلاح عبد الصبور

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

 

لا أجد السلوى إلا فى قصائد عبدالصبور كلما تضيق بى الدنيا


الخميس الأخير من شهر أغسطس ١٩٨١. الأتوبيس رقم "٥٤" يستقلني بعد خروجي من الكلية الحربية. شهر طويل من العزلة عن العالم، رضوخًا لمتطلبات الحياة العسكرية الصارمة. في يدي حقيبتي الصغيرة، والرأس عامرة بأحلام كثيرة عن اليوم الذي أترك فيه ذقني بلا حلاقة لمدة أسبوع، وأطلق شعري حرًا لشهرين كاملين، وأنام وأصحو بلا مواعيد أو بروجي يطلق نفيرًا نصحو به وننام.


الأتوبيس مزدحم مكتظ كالعادة، لكن شهور التهيؤ للانخراط في عالم "الضباط الاحتياط" تكفي ليتحمل الإنسان كل شيء. كنت أفكر في تلك الطاقة الهائلة التي يمتلكها البشر ولا يعرفونها إلا عند الضرورة، عندما وقعت عيني على الصفحة الأخيرة من جريدة "الأخبار"، يتصفحها واحد من الركاب. لا أذكر اسم كاتب اليوميات، لكن العنوان يحمل اسم صلاح عبدالصبور مسبوقًا بتبجيل لا نمنحه إلا للموتى. لا تتيح لي وقفتي غير المريحة أن أعرف التفاصيل، لكنني أدرك بيقين صارم أنه لم يعد حيًا.
تتبخر فرحتي بالإجازة القصيرة التي كنت أنتظرها في شوق ولهفة، وتتجمع الدموع في عيني. هل أبكى الشاعر الذي لا شبيه له، أم أنني أبكي مرتعدًا من قسوة الزمن الرديء الذي يتفنن بعبثيته في إفساد كل جميل والإطاحة به؟.
لم أره يومًا عن قرب، لكنني أحبه كما لم أحب أحدًا إلا تشيخوف ونجيب محفوظ وصلاح جاهين، وقلة تُعدّ على أصابع اليدين من الروائيين والشعراء وأهل التصوف. كلما تضيق بي الدنيا، لا أجد السلوى إلا في قصائد عبدالصبور، وقصص الروسي العبقري، وروايات محفوظ ورباعيات جاهين. أفرّ إلى أحضانهم من صخب الأيام المضني، وأحتمي بدفئهم النبيل من عواصف الكآبة والسأم، وأعاصير الابتذال والتفاهة.
حبي له، في السنوات القليلة السابقة لموته، يصاحبه الكثير من العتاب والإشفاق. العتاب تحفظًا على بعض مواقفه الوظيفية التي لا ترضيني لأسباب سياسية، والإشفاق من طوفان الهجوم العاتي الذي ينهال عليه من الكهنة المتشنجين، مدمني المزايدة الرخيصة وتسجيل المواقف العنترية.
الأوغاد يشككون في وطنيته، ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك. المحترمون من معارضيه لا يتجاوزون، والبذاءة من نصيب الأدعياء وحدهم، وما أكثرهم. السياسة لعنة مهلكة، فكيف عندما تقترن بالمراهقين الضالين المضللين، أولئك الذين ينفقون أعمارهم في القهاوي، ويتلذذون بتشويه الموهوبين. إنهم يجدون المتعة الأسمى في البحث عن خدوش مسيئة، يسلطون الضوء الأصفر الحاقد عليها، متوهمين النجاح في الهبوط بالمتوهجين أمثال صلاح إلى الحضيض الذي يعيشون فيه. لا يعرف هؤلاء أن صلاح عبدالصبور قد أدرك عقم كل شيء ونفض يديه عن دنياهم: انتظار عقيم، والليالي الحبالى يلدن ضحى مجهضًا. تجيئه الإشارات من مرصد الغيب في قصيدة "توافقات"، وعندئذ يسيطر عليه المزاج الرمادي. منذ أخبره العلماء الثقاة بعقم الانتظار، يقتات الفجيعة ويلوك السأم، ويختلط سواد الألم في شعره بكوابيس اليأس القاتلة.
المراهقون السياسيون سلاح للتدمير الشامل، والذين يرددون الشعارات الزاعقة هم الأكثر ترحيبًا بالسقوط عندما تلوح لهم فرصة اقتناص ثمرة عفنة يلوّح بها النظام. في انتظارها، لا يتورعون عن الهجوم الفج على القامات الرفيعة، وليس أدل على ذلك من حملاتهم المغرضة على عبدالصبور وجاهين ونجيب محفوظ.
تتبخر فرحة الإجازة القصيرة بخبر موته، وأجاهد عند انتصاف الليل لكي أكتب قصيدة أعبر في سطورها عن مزيج الحزن والغضب. أتذكر المطلع جيدًا:
"وأعرف أنك كنت النبي الذي طاردته الشياطين..".
سرعان ما أجهض القصيدة الوليدة وأنبذها، مدركًا أن حبي لصلاح يفوق قدرتي على التعبير بالشعر.
تمر السنوات ويزداد حبي للشاعر الفذ الذي يرى ما لا يراه المراهقون مدمنو الشعارات والهتافات المسجوعة. يقل العتاب حتى يتلاشى، بل إنني أقول لنفسي ما كان يقول: الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت.
أعد حبيبتي، التي لم تعد حبيبتي، بأنني لن أقول لها مجددًا إنني أحبها، فالصداقة خير وأبقى، لكننا عندما نلتقي في أحلامي المرهقة، أستعيد قصيدة "أحلام الفارس القديم". أفكر في أن يُبعث حبنا بمساعدة من ملاك جميل يرسله الرب، وأفكر أيضًا في لعنة "لو" و"لكننا"، وفي الكون الكئيب الذي يخلو من الوسامة وتحتله عصابات الجهامة. أقول لها بلا مقدمات، محملًا صلاح عبدالصبور مسئولية القول: صافية أراكِ يا حبيبتي كأنما كبرتِ خارج الزمن. أعرف أنها تضيق عندما أسترسل في الحديث عن صورة صلاح الخلابة غير المسبوقة، لكنني لا أتوقف عن استدعائها، حتى في الأحلام.
يموت صلاح على مشارف الخمسين، ويمتد العمر بالأوغاد عديمي النفع، وبهم يكتمل الشقاء الذي يولد مع غيابه. أتساءل كثيرًا: ما الجدوى من الاستمرار في كتابة لا تغير شيئًا؟. أجيب مستعيرًا ما يقوله صلاح في مسرحيته البديعة "ليلى والمجنون"، التي أوشك من فرط حبي لها أن أحفظها: هذا زمن لا يصلح أن تكتب فيه، أو تتأمل، أو تتغنى، أو حتى توجد.
ما من مرة أسير فيها حزينًا مهمومًا، لائذًا بالشوارع الجانبية الحانية، مبتعدًا عن صخب الميادين والشوارع القبيحة المحتلة بالأضواء الرديئة الماسخة، إلا أتمتم كأنني أبكي:
"وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلًا
في زحمة المدينة المنهمرة".
أتابع رجلي اليسرى، تجاهد للحاق باليمنى. يفزعني زحام الناس، وأراهم يخرجون لي ألسنتهم شامتين، كأنهم الكوابيس. عندئذ أرفع رأسي إلى السماء، وأبحث عن العلماء الثقاة، أسألهم عن جدوى الانتظار وموعد الانتحار.
*فصل من كتاب "النبش في الذاكرة"

«صلاح عبدالصبور وحده هو الذي وضع النغمة التي جعلت الشعر الحديث ممكنا في عصرنا، بل التي جعلت إمكانية الحديث شعرًا متاحة. هو الذي جعل حديثنا اليومي، وشعرنا التراثي، وتأثيرات الفكر والأدب الأجنبي وتعبيرنا الوجودي الفاجع عن واقعنا جعل صلاح عبدالصبور كل هذا ممكنا».
بدر الديب
الأوغاد يشككون في وطنيته ويمنحون أنفسهم حق امتلاك وتوزيع الصكوك
 

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

4 طرق ناجحة للاستجابة لمريض الخرف عندما يخلط بين الأزمنة

مع تزايد معدلات الإصابة بالخرف، يتزايد تسليط الضوء على كيفية التعامل مع المريض، سواء من قبل أفراد الأسرة أو مقدمي الرعاية الصحية. وتطرح ورقة بحثية جديدة التساؤل حول كيفية الاستجابة لمريض يخلط الأزمنة أو الأمكنة، وهل الكذب العلاجي هو الأسلوب المناسب لتخفيف ضائقة المريض؟

وجود واقع متضارب لدى المريض بالخرف من التحديات الشائعة، حيث يكون المريض منسجماً مع زمان أو مكان مختلفين.

على سبيل المثال، قد يعتقد أن أحد والديه سيأتي ليأخذه إلى المنزل، أو أنه بحاجة إلى المغادرة بشكل عاجل لاصطحاب طفله من المدرسة، بينما لن يحدث ذلك في الواقع.

4 طرق

وتقول الدكتورة أليسون بيلنيك من جامعة ماكماستر متروبوليتان: "هناك 4 طرق للاستجابة لهذا الخلط، ثبت أن اثنتين منهما ناجحتان".

الطريقة الأولى، بحسب "ذا كونفيرسيشن"، هي مواجهة واقع المريض أو تحديه.

مثلاً، إخبار الشخص الذي يعتقد أنه في المنزل أنه في المستشفى. لكن بينت التجارب أن هذا الأسلوب لا يؤدي عادةً إلى اتفاق، بل قد يزيد من حدة الضيق.

الطريقة الثانية هي التعايش مع واقع المريض. على سبيل المثال، بالموافقة على أن أحد أفراد الأسرة المتوفين، مثل أحد الوالدين أو الزوج/الزوجة، سيأتي لزيارته أو لاستلامه لاحقاً.

رغم أن هذه الاستراتيجية قد تنجح كاستراتيجية قصيرة المدى، إلا أنها محدودة زمنياً لأن الحدث الموعود لن يحدث أبداً. وهذا قد يزيد من حدة الضيق في نهاية المطاف.

طريقتان ناجحتان

الطريقة الثالثة، وهي إحدى طريقتين ثبت نجاحهما، هي إيجاد جانب من واقع المريض يمكن مشاركته، دون الخوض فيه بالكامل.

مثلاً، إذا قال المريض إن والده (المتوفى) سيأتي لأخذه، فقد يسأله أحد أفراد طاقم الرعاية الصحية: "هل تفتقد والدك؟". هذا يتجنب الكذب، ولكنه يستجيب لنبرة المريض العاطفية ويمكّنه من مشاركة مشاعره.

وبالنسبة للشخص الذي يشعر بالقلق من ترك طفل أو حيوان أليف بمفرده في المنزل، قد يقول أخصائي الرعاية الصحية: "جارك يعتني بكل شيء في المنزل". هذا يوفر طمأنينة عامة دون تأكيد أو طعن في التفاصيل.

أما الطريقة الرابعة، فهي بالنسبة للمريض الذي يطلب العودة إلى المنزل مراراً وتكراراً لأنه لا يدرك حاجته الطبية، قد يسأل: "ماذا كنت ستفعل لو كنت في المنزل؟" يمكن تحديد حاجة أو رغبة - مثل تناول كوب من الشاي أو المشي أو مشاهدة التلفزيون - والتي يمكن تلبيتها في بيئة المستشفى.

أي تركز الطريقة الرابعة، الناجحة، على تحويل موضوع المحادثة بعيداً عن المشكلة التي كانت تسبب الضيق، إلى شيء آخر يمكنهم إشراك الشخص فيه.

مقالات مشابهة

  • كلب يطلق النار على صاحبه في أمريكا
  • مؤشرات أخلاقيات المنظمة (2)
  • شرطة رأس الخيمة تشارك في تعبئة الطرود الغذائية دعماً لغزة
  • 4 طرق ناجحة للاستجابة لمريض الخرف عندما يخلط بين الأزمنة
  • بمواصفات خيالية.. هل يكون «OnePlus» الحاسب الذي ننتظره؟
  • المعادلة الجماهيرية لصالح من؟
  • محترف سابق: برشلونة حاول الاحتيال علي
  • شمس الفارس: أبوي قطع نتفلكس في البيت شنو هالدكتاتورية ..فيديو
  • مؤسسة صقر بن محمد القاسمي تواصل جهودها الإغاثية ضمن الفارس الشهم 3 لدعم غزة
  • سان جيرمان ومارسيليا.. «الكلاسيكو الناري»!