ورطة العلماء وخيبة أمل الشعب: ثلاثة نماذج سودانية
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
علماء الدين هم ورثة الأنبياء, يعلّمون الناس أمور دينهم , و في زمن الضيق و المسغبة يعقد الناس آمالهم بما يلهمونهم به من صبرٍ على البلاء, و كان لا بدّ من الحزر في الفتاوى الجزافية التي تورد مورد الهلاك , عن عمر بن الخطاب قال: ثلاثة يهدمن الدين :( زلة عالم , و جدال منافق بالقران, و ائمة مضلون).
أمّا في أمور الدنيا هناك علماء في شتى ضروب الحياة لا يقلّون قدراً في التأثير على توجهات الناس و أمزجتهم, قد تكون زلة العالم في الامور الحياتية عبارة عن هفوة جاءت نتيجة أخطاء بسبب إرتجال الكلام أو تداخل المواضيع أوْ لظروفٍ أخرى تربك العالِم في إختيار اللفظ المناسب أو القرار الصحيح, على العموم كثير من زلات العلماء في شؤون الدنيا مغتفرة, وسرعان ما تهدأ ساحة العامة التي ربّما هيجها تصريحاتهم , و لعلّى أذكر حادثة البروفسور إدوارد ويلسون و هو عالم علم الاجتماع الحيوي (Sociobiology) عندما قدم كتابه الشهير (Sociobiology the New Synthesis) .
قد تصل زلة العالم إلى مرحلة متقدمة بحيث تكون ورطة كبرى , يصعب خروج العالم أو من أدّعى العلم منها, هنا أذكر ثلاثة نماذج لثلاثة من علماءنا الأجلاء و قعوا في " مرحلة" ما بعد زلة اللسان, و هفوة الكلام, أو انقلاب فكري مع سبق الإصرار و الترصد, فاصبحوا في ورطة كبرى.
النموذج الاول :-
الدكتور محمد جلال هاشم يُعتبر من المناضلين المشهورين ضد دولة القراصنة ( الانقاذ) و الفكر الشمولي من منطلق فكره اليساري, نادى بحقوق الهامش حتى بحّ صوته و قد شهدت له المنابر بذلك, الدكتور محمد جلال هو صاحب منهج التحليل الثقافي ( صراع الهامش و المركز), و فيه تكلم عن نموذج شرق افريقيا , حيث قال : " في ان تقوم حركة تمردية بالهجوم على العاصمة , و من ثم اقتلاع النظام الحاكم , و اقتلاع مؤسساته الملتبسة بمؤسسة الدولة " , في نفس السياق اشاد بمحاولة حركة العدل و المساواة بدخولها العاصمة التشادية كثورة لاقتلاع النظام القائم انذاك , كما اشاد بقوات الجبهة الوطنية المعارضة في عام 1976 على اجتياحها الخرطوم, كل هذا اعتبره تمارين لتحقيق سيناريو شرق افريقيا . واصل الدكتور قائلا : " ربما يكون هذا السيناريو عالي التكلفة من حيث الارواح و المال و المؤسسات ............ الا انه يرتكز على نموذج سوداني متوطن في مجال الثورات الشعبية , و هو نموذج الثورة المهدية.........لا بد من التنبيه الى ان اي من هذه السيناريوهات ليس سوي مرحلة ضرورية من المعاناة في سبيل استشراف ديمقراطية حقيقية" انتهى.
من يقرأ نموذج شرق افريقيا في زمننا الراهن لابدّ أن يخطر بباله أنّ الحرب الحالية ( ما بين الجيش و الدعم السريع) هي تحقيق لتنبؤاته كما كانت و لا ينقصها من امرها شئ غير انها كانت انشقاق من داخل المؤسسة العسكرية و انحيازها للثورة, و من لا يعرف من هو محمد جلال هاشم و أين هو الآن لأعتقد جازماً إنّه صار أحد مستشاري الدعم السريع لما له من قراءات إستنتاجية تحققت فرضياتها و تطابقت مع مجريات الأحداث التى تنعكس معالمها في إجتياح الدعم السريع لمناطق سيطرة المؤتمر الوطني, و خاصة أن المؤتمر الوطني أعتبرت أنّ ما قام به الدعم السريع هو تمرد و هو ما تنبأ به الدكتور, و من قبل أعلن دقلو اصطفافه مع الثورة و أكد ذلك عدة مرات قولاً, و فعلاً عندما رفض قتل ثلث الشعب , و الاعتراف بأن ما حدث في 25 اكتوبر كان إنقلاباً و أعتذر عن ذلك , و ما يزيد بريق تنبؤات الدكتور, هو تمسك " حميدتي" بتنفيذ الاتفاق الاطاري, الامر الذي عجّل بقيام( الثورة المسلحة) ضد الدولة الشمولية التي نادى الدكتور محمد هاشم في السابق, بالتمرد ضدها بالسلاح و اقتلاعها. إلا أنّ الشخص الذي لا يعرف محمد هاشم من قبل, يتفاجأ بان الدكتور يشتدّ هتافاً وسط كرنفالات الحركة الاسلامية الدموية, التى ( الحركة الإسلامية) كان هو من ألدّ أعدائها فيما قبل حرب 15 ابريل, فصار أكثر عداوة للدعم السريع من الإسلاميين أنفسهم الذين أخيراً لمّحوا إلى التفاوض مع الدعم السريع إمتثالاً لأوامر الله( و ان جنحوا للسلم فاجنح لها), إلاّ أننا نظل نشهد الدكتور وهو يقوم بتمزيق سفر الثورة الذى أختطه بنفسه قرطاساً قرطاس, و ينقلب على سيناريو شرق إفريقيا شر منقلب من حيث يدري و لا يدري. و نجد الدكتور قد وقف في الصف الامامي لدعاة الحرب رغم النزوح الفيّاض و اللجوء و الموت المباح فى شوارع المدن, زاعماً وقوفه مع الجيش, و أخيراّ خزله الجيش إذ تسلل إلى معسكر السلام سراً في جنيف و تركه عارياً يخصف على نفسه من حججٍ رعناء لا تغنيه عن الحديث منطقاً و لا تقوّم في سلوكه اعوجاجاً , فيا ترى هل قفز الدكتور من دائرة اليسار البلشفي الى دائرة اليمين الداعشي!! .
النموذج الثاني:
الدكتور عشاري أحمد محمود و قد أشتهر بوقوفه مع قضية الدينكا في مذبحة الضعين في 28 مارس 1987 وقوفاً مستمياً وقوف من لا يخشى في الحق لومة لائم , حتى أدى ذلك إلى ملاحقتة من قبل أصحاب السوء و آكلى أموال السحت و بائعي الذمم , هذه الوقفة كانت لها قدر عالى من القيم الانسانية خاصة في زمن فيه مارست النخب الشمالية استلاء عرقياً على الجنوبيين الذين في نهاية المطاف لم يجدوا وسيلة للتخلص من هذا الصلف إلاّ الانفصال. و قد كسب الدكتور صيتاً نيّراً في ذاك الزمان و ما زال قبيل تصريحاته اللاحقة , إلاّ إننا بين ليلة و ضحاها يطلّ علينا الدكتور بتسجيل صوتى يدعو فيه للتشفي العنصري ضد إثنيات معينة و كان بدعوة واضحة و صريحة لمعاقبة قبائل بعينها فقط لأنّه أفترض أنّها تساند الدعم السريع أو كما سماها أخرون إنّها حواضن للدعم السريع , هذا الكلام جاء على لسانه رداً لمقال الدكتور الدرديري محمد احمد الذي حذر فيه من أنْ تتخذ الحرب منحىً قبلياً و عرقياً , إلاّ أنّ الدكتور عشاري, في تناوله لقضايا النهب والقتل و خلافها من تجاوزات الحرب في ذات الموضوع, قام بتلويث القضية بنتانة العنصرية . و إنّ العنصرية تُعمي البصائر إذ أنّ الدكتور أصابه عوز الإدراك في كون القضية جنائية من الدرجة الأولي تؤخذ من حيث المسؤولية الفردية, ليست لها رابط قانوني بالقبيلة , حتى أنّه تكلم بألفاظ فُصامية على شاكلة " نحن و هم" و الكلّ سوداني , ماذا جرى للدكتور, ءأصابه الهرم فاعتلت ساعته البيولوجية و أختلت وظائف الاشياء لديه, فأضطرب المنطق عنده؟ أم إنه أكتشف شيئاً جديداً جعله يعيد ترتيب ذاته مع المجتمع و البيئة حوله؟.
النموذج الثالث :-
النموذج الثالث و الأخطر هو نموذج الدكتور يوسف عبد الحي , في البدء لا يجوز للمسلم القدح في صدق الفقيه و علمه بالأشباه فحسب , اللهم الا اذا كان هناك دليل مادى لا يقبل التأويل, لكن يكفي الوقوف تشككاً عند انتماء الدكتور يوسف لحزب المؤتمر الوطني الى حين إيجاد ما يلغي الإشتباه . لا نستطيع المزايدة في علم الدكتور يوسف عبد الحي و لباقته اللغوية رغم ما أثاره البروفسور محمد سعيد القدّال قدحاً في علمه, و لا نقدح في أمانته بدون دليل رغم ما انتشر في الاسافير عن قضية الخمسة مليون دولار و علاقتها بإذاعة طيبة, إلا أن شيئاً ما قد حدث, قل إنقلاباً فكرياً أو فقهياً أو سلوكياً : عندما أحتشد عباد الله ( مسلمون 100%) حول القياد العامة و ضربوا حصاراً على السلطان الفاسد ( سلطان الثلاثين عام) و أرادوا إسقاطه مع سبق الاصرار و الترصد(تسقط بس) , فأستفتى السلطان شيخنا الدكتور هذا في محنة مطالب الشعب , فأفتاه غير آبهٍ بجواز قتل ثلث الشعب , معتمداً على ما نُسب الى الامام مالك, بالقول :" قتل ثلث الامة لاستصلاح الثلثين" , و أوّل من نسب هذا للأمام مالك هو امام الحرمين و حامد الغزالي , واخيراً أكدّا إنّهما لم يطّلعا على هذا القول في كتب الامام مالك, إنّما عن طريق الرواية من أطراف أخرى لذك قام الاثنان ( إمام الحرمين و الغزالي) بتضعيف هذا القول و الحذر من العمل به لما فيه من خطورة و تنكيل بالأمة( كتاب شفاء الغليل لحامد الغزالي) .
إذا أفترضنا صحة القول بـ" قتل ثلث الامة " بسبب فسادها لاستصلاح الثلثين الاخرين, علينا البحث عن مركز الفساد أوّلاً, لتحديد الموضع الحقيقي لهذا الثلث, إذن لتم قتل ربّما كلّ اعضاء المؤتمر الوطني و على رأسهم البشير و شيخه, لتنفيذ فتوة الإمام مالك ان صحت نسبتها له, و عليه نرجع مرة أخرى للتساؤلات حول شرعية الاعتصام حول القيادة و من يحب أن يُحاسب. و على هذا المنوال إنّ الدكتور يوسف عبدالحي قد خيّب أمل الأمّة فيه ( الشعب السوداني) , سواء كان ما بدر منه زلة عالم أو إمامة مضلة, بتبنيه فتوة تبرأ منها مصادرها, وهو يعلم ذلك, لقتل (10,000,000) نسمة من الشعب السوداني ومن أجل شخص واحد مطلوب جنائياً, محلياً و عالمياً على الاقل مع اعترافه بقتل (10,000) نسمة من أهالي دارفور. فالشيخ الدكتور متّهم بالشروع في قتل واحد مليون نسمة بدلالة القول و الاشارة , رغم أن حامل الصولجان ( الدعم السريع) لا يستطيع قتل هذا العدد فعلاً, إذا أنصاع لقرارات فقيه السلطان , إلا إنّه كفر بها كفراّ بيّناً تفضيلاً على البقاء في الملة ( ملة القراصنة).
أختم مقالي بورطة العلماء الثلاثة في أفكار أدخلت محبيهم في حيرة و خيبة أمل, وأخلص في أن ثلاثتهم قاموا بقفزة عمودية ألقت بهم في مستنقعٍ لزجٍ فأعياهم الخروج: الدكتور محمد هاشم بعد عدائه السافر للإسلاميين في نظريته " الهامش و المركز" وجد نفسه مركزياً أكثر من المركزيين. أمّا الدكتور عشاري بعد نضاله المستميت ضد الابادة الجماعية للدينكا في 1987, و المطالبة بتطبيق قوانين حقوق الإنسان, صار عنصرياً إلى مستوى أن دعا إلى معاقبة ( الإبادة الجماعية على قاعدة الممكن ) القبائل التى لا تتسق مع مزاجه, و أمّا الدكتور يوسف عبدالحي تورط في دائرة الشروع في إبادة ثلث الشعب بحجة مالكية لا علاقة لها بالأمام مالك.
عبدالرحمن صالح احمد (أبو عفيف)
رسائل الثورة (42) – 20/8/2024
Aahmed59@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤتمر الوطنی الدکتور محمد الدکتور یوسف الدعم السریع ا الدکتور
إقرأ أيضاً:
بعد هزائم الدعم السريع.. هل ينجح البرهان في فرض سيطرته؟
منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019، برز الفريق أول عبدالفتاح البرهان كشخصية محورية في المشهد السياسي السوداني، كأنما القدر قد اختاره ليقود سفينة البلاد في بحر مضطرب من التحولات والصراعات.
تولى قيادة المجلس العسكري الانتقالي بعد استقالة الفريق أول عوض بن عوف، مدعومًا بتأييد واسع من القوى السياسية التي تصدرت المشهد آنذاك، فضلًا عن دعم قوات الدعم السريع، والتأييد التلقائي من الجيش.
كانت تلك المرحلة بداية لتوازن هشّ ومعقد بين القوى العسكرية والمدنية، بعد دخوله في مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير (قحت) لتحديد المرحلة الانتقالية، تصاعد التوتر سريعًا بين الطرفين لتحديد شكل المرحلة الانتقالية.
لكن سرعان ما تصاعد التوتر بين الطرفين، خاصة بعد فض اعتصام القيادة العامة للجيش في يونيو/ تموز 2019، وهو الحدث الذي أثار عاصفة من الغضب الشعبي، لكنه في الوقت نفسه عزز موقع البرهان في المعادلة السياسية، وكأنه صعد على أمواج متلاطمة من الأزمات.
في أغسطس/ آب 2019، أصبح البرهان رئيسًا للمجلس السيادي الانتقالي، محاولًا أن يقود مركبًا ممزق الأشرعة في بحر مضطرب من الصراعات بين التيارات الإسلامية المحافظة والعلمانية اليسارية المرتبطة بالغرب.
إعلانلكن الرياح لم تكن دائمًا في صالحه، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قاد ما أسماه "حركة تصحيح المسار"، بينما وصف خصومه ذلك بالانقلاب العسكري، حيث أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، معززًا قبضته على السلطة.
ومع ذلك، وجد نفسه في مواجهة ضغوط إقليمية ودولية مؤيدة لحمدوك، مما جعله يتأرجح بين القبول، والرفض على الساحة الدولية. رغم اعتماده على الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، فإن التوترات الداخلية والتحديات الاقتصادية والسياسية جعلت موقفه يشبه بناءً من الرمال المتحركة، حيث يجد نفسه في توازن هش بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، في ظل مشهد سياسي معقد، ومفتوح على احتمالات عدة.
المفارقة الكبرى تكمن في أن قوات الدعم السريع، والتي كانت شريكًا رئيسيًا للبرهان في السيطرة على السلطة بعد إطاحة البشير، أصبحت تمثل التهديد الأكبر له. فبعد أن ساهمت في تعزيز نفوذه العسكري، والسياسي من خلال دعمها في أحداث حاسمة مثل فض الاعتصام وإجراءات تصحيح المسار أو الانقلاب العسكري حسب خصومه، فقد انقلبت هذه القوات إلى عدو لدود، حيث يخوض الآن حرب وجودٍ ضروسًا ضدها.
والأكثر إثارة للدهشة أن الحماقة التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع في محاولتها الانقلابية في 15 أبريل/ نيسان 2023، وما ارتكبته من جرائم إبادة جماعية واغتصاب وسرقة وتدمير للبنى التحتية بعد أن تحولت إلى مليشيا إجرامية، أتاحت للبرهان فرصة غير مسبوقة للالتفاف الشعبي حوله.
هذا التأييد الشعبي، الذي جاء كرد فعل على فظائع (الدعم السريع)، زاد من طموح البرهان لقيادة البلاد ليس فقط في فترة ما بعد الحرب، بل أيضًا في مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية.
لكن السؤال الذي يظل معلقًا في الهواء هو: ما هي فرص الرجل في إطالة أمد هذا السياق المعقد؟ هل سيتمكن من تحويل الالتفاف الشعبي المؤقت إلى شرعية دائمة، أم إن التحديات الداخلية، والخارجية ستجعل موقفه كقارب يكافح للبقاء وسط عاصفة لا ترحم؟
إعلانفي النهاية، يبقى مستقبل البرهان مرهونًا بقدرته على تحقيق توازن شبه مستحيل بين القوى المتصارعة، في وقت يبدو فيه المشهد السياسي السوداني كقطعة شطرنج معقدة، كل حركة فيها تحمل في طياتها احتمالات النصر أو الهزيمة.
خلفيات وملابسات صعود البرهانوصل البرهان إلى موقعه الحالي باعتباره شخصية رئيسية في السودان، حيث يجمع بين السلطات العسكرية، والسياسية في ظل ظروف مضطربة، وانتقالية.
بدأت الأحداث باحتجاجات شعبية واسعة ضد حكم البشير الذي استمر أكثر من 30 عامًا، حيث طالبت الجماهير بإسقاط نظامه؛ بسبب الأزمات الاقتصادية والفساد.
في 11 أبريل/ نيسان 2019، أطاحت اللجنة الأمنية (مشكلة من وزير الدفاع وقادة في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى) بالبشير وتشكل مجلس عسكري انتقالي بقيادة وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف، الذي استقال بعد يوم واحد فقط تحت ضغط قائد قوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير التي كانت تتحكم في الشارع الغاضب حينها.
بعد استقالة بن عوف، تولى البرهان، الذي كان يشغل منصب المفتش العام للجيش، قيادة المجلس العسكري الانتقالي في 12 أبريل/ نيسان 2019. كان البرهان يتمتع بدعم مقدر داخل الجيش، واعتبر شخصية مقبولة نسبيًا من قبل (الدعم السريع) و(قحت).
خلال هذه الفترة، بدأت مفاوضات بين المجلس العسكري و(قحت) لتحديد شكل الفترة الانتقالية. ومع ذلك، تصاعدت التوترات بعد فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في 3 يونيو/ تموز 2019، مما أدى إلى مقتل عشرات المتظاهرين وزيادة الضغط على المجلس العسكري.
في أغسطس/ آب 2019، تم التوصل إلى اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير لتشكيل مجلس سيادي انتقالي يتكون من 11 عضوًا (5 عسكريين و6 مدنيين) لقيادة الفترة الانتقالية.
في 21 أغسطس/ آب 2019، تم تعيين البرهان رئيسًا للمجلس السيادي الانتقالي، بينما تم تعيين عبدالله حمدوك -وهو اقتصادي مدني- رئيسًا للوزراء.
خلال الفترة الانتقالية، كان البرهان يمثل السلطة العسكرية في السودان، بينما تولى حمدوك وحكومته المهام التنفيذية. ومع ذلك، استمرت التوترات بين العسكريين، والمدنيين حول السلطة ومسار الانتقال الديمقراطي.
إعلانفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قاد البرهان مسارًا تصحيحيًا أطاح بالحكومة الانتقالية بعد تصاعد الخلافات داخل (قحت) نفسها، وتدهور الأوضاع الاقتصادية لمستوى غير مسبوق. فأعلن البرهان حل المجلس السيادي والحكومة وفرض حالة الطوارئ.
بعد هذا الحدث، عاد البرهان ليكون الشخصية الأبرز في المشهد السياسي السوداني، حيث تولى السلطة بشكل فعلي وأدار البلاد بمساعدة العسكريين، وقوى مدنية مناوئة لـ (قحت).
بهذه الطريقة، وصل البرهان إلى موقعه الحالي كشخصية رئيسية في السودان، حيث يجمع بين السلطات العسكرية والسياسية في ظل ظروف مضطربة وانتقالية.
موازنة صعبة بين القوى السياسيةيواجه البرهان تحديًا كبيرًا في إدارة العلاقة بين التيارات السياسية المتنافسة في السودان، حيث يحاول الموازنة بين التيار الإسلامي والتيار العلماني اليساري دون الالتزام الكامل مع أي منهما.
التيار الإسلامي، المتمثل في جماعات مثل حزب المؤتمر الوطني الذي كان يحكم في عهد عمر البشير، يتمتع بقوة تنظيمية كبيرة وخبرة واسعة في الحكم. هذا التيار، رغم تراجع نفوذه بعد الإطاحة بالبشير، لا يزال يحاول العودة إلى المشهد السياسي من خلال التحالفات الخفية أو العلنية مع بعض القوى العسكرية والسياسية.
خبرته في إدارة الدولة، وقدرته على تعبئة القواعد الشعبية تجعلانه لاعبًا لا يمكن تجاهله لا سيما في حفز المقاومة الشعبية التي أحدثت فرقًا كبيرًا في مواجهة (الدعم السريع) في الحرب الحالية، مما يضطر البرهان إلى التعامل معه بحذر لتجنب استفزاز قواعده أو خلق توترات إضافية.
من جهة أخرى، فإن التيار العلماني اليساري – المتمثل في تحالفات مثل قوى الحرية والتغيير (قحت) التي تحوّلت لاحقًا إلى (تقدم) ثم (صمود) بقيادة حمدوك- يشكل قوة ضاغطة على البرهان للمضي قدمًا في عملية تحوّل ديمقراطي يعزل فيه التيار الإسلامي تمامًا.
إعلانويحاول البرهان موازنة العلاقة بين هذين التيارين من خلال اتباع سياسة مرنة تهدف إلى إرضاء الطرفين دون الالتزام الكامل مع أي منهما.
من ناحية، يتعامل مع التيار الإسلامي بتحفظ، حيث يسمح له بحضور محدود في المشهد السياسي دون منحه نفوذًا كبيرًا. ومن ناحية أخرى، يحاول استيعاب بعض مطالب التيار العلماني اليساري من خلال تقديم وعود سياسية مع الحفاظ على السيطرة العسكرية على مقاليد الأمور.
هذه السياسة المرنة تهدف إلى تجنب الاصطدام المباشر مع أي من التيارين، ولكنها أيضًا تعرض البرهان لانتقادات من كلا الجانبين، حيث يراه الإسلاميون مترددًا في دعمهم، بينما يراه العلمانيون جزءًا من نظام عسكري يعيق التحول الديمقراطي.
في النهاية، توازن البرهان بين هذه القوى السياسية يبقى تحديًا كبيرًا، حيث يتطلب إدارة دقيقة للمصالح المتناقضة وتجنب الانحياز الكامل لأي طرف.
نجاحه في هذا التوازن يعتمد على قدرته على الحفاظ على دعم الجيش مع تقديم تنازلات محدودة لإرضاء القوى السياسية، لكن أي خطأ في هذه المعادلة قد يؤدي إلى تهديد استقرار حكمه ومستقبله السياسي.
ومنذ إجراءات أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واجه البرهان معضلة البحث عن حاضنة سياسية لضمان استمراره في السلطة.
تاريخيًا، لجأت الأنظمة العسكرية في السودان إلى تأسيس كيانات سياسية موالية، مثل "الاتحاد الاشتراكي" في عهد الرئيس السابق جعفر نميري (1985 – 1969)، لكن تكرار هذه التجربة يواجه تحديات بسبب تغير طبيعة القوى السياسية وكيمياء الكتلة الجماهيرية.
ولذا قد يلجأ البرهان إلى الإدارات الأهلية والطرق الصوفية ورجال الأعمال، لكنها قوى غير قادرة على توفير شرعية دائمة.
في ظل هذه المعطيات، يظل البرهان في وضع سياسي هش، يفتقر إلى حاضنة متماسكة تضمن له الاستمرار. أما اعتماد البرهان على الجيش كدعامة رئيسية لحكمه، حيث وفر له الحماية منذ الإطاحة البشير، فأمر لا يمثل ضمانة مستمرة إذ إن نظام الجيش لا يعطي قائده (شيكًا على بياض)، خاصة مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية.
إعلانبالإضافة إلى ما سبق، فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، مع تراجع الجنيه السوداني بفعل ارتفاع معدلات التضخم، تجعل بقاء البرهان في السلطة أكثر صعوبة. فضعف الخدمات الأساسية يفاقم الاحتقان الشعبي، ويجعل الاحتجاجات العفوية احتمالًا قائمًا.
كما أن القوات الأمنية نفسها قد تتأثر بالأوضاع المعيشية المتدهورة، مما قد يؤدي إلى تصدعات داخل الجيش. في ظل هذا الوضع، يواجه البرهان خيارين: تقديم تنازلات سياسية لكسب الدعم الاقتصادي، أو الاستمرار في الاعتماد على الموارد الذاتية، وهو ما يعني استمرار التدهور وزيادة الغضب الشعبي.
بيد أن البرهان يحظى بدعم إقليمي من بعض الدول أبرزها مصر التي ترى في استقرار السودان مصلحة إستراتيجية لها. في المقابل، تواجه حكومته ضغوطًا دولية، إذ علقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مساعداتهما، بزعم المطالبة بانتقال ديمقراطي.
فهل يستطيع البرهان المناورة بين كل هذه الضغوط عبر تعزيز علاقاته مع حلفائه الإقليميين، أو تقديم تنازلات سياسية محدودة لاستعادة الدعم الدولي؟
سيناريوهات مستقبل البرهان السياسيتتراوح خيارات البرهان بين: تكوين حاضنة سياسية جديدة عبر استقطاب قوى تقليدية، لكنه يواجه تحديات اقتصادية وسياسية تعيق نجاح هذا الخيار، أو الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية وإجباره على التنحي، خاصة مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والتظاهرات الشعبية المحتملة. أو حدوث انشقاقات داخل الجيش تطيح به، إذا تصاعدت الخلافات داخل المؤسَّسة العسكرية أو تصاعدت الآثار السلبية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
في المحصلة، يظل بقاء البرهان في السلطة مرهونًا بقدرته على المناورة بين هذه التحديات، لكنه يواجه وضعًا غير مستقر قد يهدد مستقبله السياسي واحتمالات استقرار حكمه.
لا يبدو حتى الآن أن لدى البرهان أي رؤية سياسية واضحة وإنما يتعامل مع الأزمات بردود فعل آنية.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline