التطور التاريخي لمبدأ السيادة (2 – 5)
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
أعود من جديد للحديث حول التطور التأريخي لمبدأ السيادة، في ظل ما تتعرض له بلادنا من انتهاكات صارخة لسيادتها، بسبب بعض من أبنائها الذين يتصدرون المشهد السياسي الليبي هذه الأيام، وما يحصل من تدخلات هذه الأيام من قبل بعض الدول الأجنبية في شأن داخلي يخص الليبيين ومثالاً واضحاً على ذلك المصرف المركزي، حيث خرج علينا بعض السفراء يدعمون طرف على حساب طرف آخر وهذا يعد تجاوز ومخالف للقانون الدولي واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية المبرمة في 18 أبريل عام 1961 التي تؤكد على أن مهام رئيس البعثة تمتيل بلاده في الدولة المعتمدة لديها، وحماية المصالح الخاصة لدولته ورعاياها في الحدود المقبولة في القانون الدولي العام.
الأمر المحزن المبكي أن نرى بعض المسؤولين في بلادنا يتبجحون بأن معهم الدولة س أو الدولة ص بالاستمرار في مناصبهم ولا تسطيع أي جهة ليبية أن تنهي أعمالهم.
أعود من جديد للحديث عن مبدأ السيادة في العصر الحديث أي مع بداية النهضة الأوروبية بعد تحررها من السلطتين الإمبراطورية الجرمانية والبابوبية الرومانية المقدسة وقيام حركة الإصلاح الديني.
وبهذا تعد نقطة البداية في ظهور القانون الدولي العام مع قيام معاهدة “وستفاليا” عام 1648، وترجع أهمية هذه المعاهدة إلى أنها سارت بين الدول جميعا، الملكية منها والجمهورية، الكاثوليكية والبروتستانتية واستمر الحال إلى أن جاء عصر الاكتشافات الجغرافية وظهور وحدات جديدة لم تكن معلومة لأوروبا من قبل، في القارة الأمريكية، وفي القارة الآسيوية، وفي القارة الإفريقية، فلم يصبح الأمر مقصوراً على أوروبا.
وقد دفعت هذه الأحداث والتغيرات إلى ظهور الدولة الحديثة علما بأن نظرية السيادة في تاريخ العلاقات قد ارتبطت باسم المفكر الفرنسي “جان بودان” الذي أخرج في عام 1577 مؤلفاً بعنوان “الكتاب الستة للجمهورية” وهو يتضمن نظرية كاملة في السيادة الذي يعرفها (بأنها السلطة العليا على المواطنين والرعايا والتي تخضع للقوتين)، ويمكن إجمال نظريته في أن العنصر الأساسي في تكوين الدولة هو وجود السلطة العليا التي تتركز فيها كل السلطات، فالمركزية في السلطات هي عماد الدولة، وهي تباشر سلطاتها على المواطنين من دون قيد يحدها باعتبارها صاحبة السيادة داخل الدولة.
هذه أهم ما جاء به “بودان” وقد تناولها من بعده المفكرون بالبحث والتعليق والإضافة والنقد، ونتيجة لتوالي الأحداث في نطاق العلاقات الدولية والتي كان أثرها عميقا في تطور نظرية “بودان” في القرون الثلاثة التي انطوت بعد ظهورها لنصل إلى “مرحلة السيادة في التنظيم الدولي” فصارت وحدة الجماعة الإنسانية حقيقية ملموسة، والانفصال التي قام في عصور التاريخ بين العالم الأوروبي المسيحي من جهة، والعالم غير المسيحي وغير الأوروبي من جهة أخرى بدأ يتبدد إلى حد ما.
إن الحاجات الجديدة تدعو إلى إيجاد مؤسسات جديدة تستجيب لها حتى لا تتخلف عن مصاحبة التطور، ولعله الأمر الملفت في ذلك العدد الكبير من المعاهدات الجماعية التي تدل على زيادة الوعي بأهمية الترابط بين الدول، وقد بدأت هذه المعاهدات الجماعية بتنظيم المصالح المشتركة للدول كالمعاهدات الخاصة بتسيير المواصلات، وتنظيم البريد، والمحافظة على الصحة العامة وغير ذلك إلى أن توج الأمر بظهور عصبة الأمم ثم أخيرا توقيع ميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي نص على أن تعمل هيئة الأمم المتحدة وأعضاؤها للسعي في تحقيق مقاصدها وفقا للمبادئ التي ورد ذكرها في المادة الثانية من الميثاق “تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”.
إذا حلننا نص هذه المادة نجدها توكّد على أن التنظيم الدولي يؤكد على فكرة “السيادة” على أساس المساواة بين جميع أعضاء الهيئة من الناحية القانونية بمعنى لكل دولة صوت واحد، وأن جميع الدول الأعضاء يتمتعون بالحقوق الكاملة في السيادة داخليا وخارجيا واحترام سلامة إقليمها واستقلالها السياسي.
كما يجب على الدول الأعضاء في المنظمة تنفيذ واجباتها والتزاماتها الدولية.
والمساواة في السيادة تقضي بأن تكون كل الدول الكبيرة منها والصغيرة متساوية في الحقوق والواجبات في هيئة الأمم المتحدة.
للأسف هذا من ناحية نظرية والحقيقة فهناك فرق بين النظرية والتطبيق والعرض والجوهر فمبدأ السيادة الذي قررة ميثاق الأمم المتحدة ليس على إطلاقه، فالدول العظمى الخمس الأعضاء الدائمة فيه والمتمثلة في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والصين، وروسيا، تتمتع بحق النقض أو الاعتراض على قرارات مجلس الإمن الدولي فإذا اعترضت أي دولة منها امتنع مجلس الأمن عن إصداره وصار القرار كأن لم يكن.
أين المساواة؟.
فحق “الاعتراض” يعتبر قيداً هاماً يرد على مبدأ السيادة والمساواة، وهذا الحق شل من حركة مجلس الأمن، وأحداث “غزة كشفت عورات قادة العالم الحر وزيف ميثاق الأمم المتحدة الذي فُصِلَ على حجم الدول الكبرى “.
إن حق النقض معناه هيمنة وسيطرة الدول الخمس الكبرى وسلب لحرية الشعوب الأخرى فأي حق هذا؟.
إذا كانت الحرية والمساواة في السيادة حقا لجميع الدول فمن الواجب أن يعم هذا ويملكه أصحابه ولا يقتصر على خمس دول فقط وهذا له تأتيرات سلبية على مجريات العلاقات الدولية، وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ فيما بينها.
لكن بالرغم من هذا نجد كل الدول تحاول إضفاء الشرعية الدولية على تصرفاتها بما يتمشى مع القانون الدولي واعترافها بقوته الإلزامية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: الأمم المتحدة فی السیادة
إقرأ أيضاً:
معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل. ولم يكن حل الدولة أو الجيش علي طاولة الحوار العام ولا في أوساط فقهاء اليسار ولا أدري لماذا اشتعل بعد الحرب ولكن من الطبيعي لي تخميناتي.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة.