لجريدة عمان:
2025-03-08@11:37:46 GMT

التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية - 1

تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT

نشرت جريدة «المصري اليوم» مؤخرًا مقالًا مهمًّا للدكتور عصام عبد الفتاح عن «وحدة المعرفة» التي تتجلى في «الدراسات البينية»، أي في تداخل المعارف والتخصصات، الذي بات أمرًا مسلَّمًا به في البحث والتعليم الجامعي في كل الجامعات الكُبرى حول العالم. وهذا ما سبق أن نوهت إليه باعتباره إحدى مشكلات التعليم في واقعنا العربي عمومًا وليس في مصر وحدها، وهي مشكلة حقيقية ورئيسة تعكس عوارًا وضعفًا في التعليم والبحث العلمي في كثير من الجامعات العربية.

يتبدى هذا على أنحاء عديدة، ولكنه يتبدى ابتداءً بشكل فج في تصوراتنا الزائفة والساذجة عن طبيعة المعرفة ذاتها، والتمييز الطبقي بينها على نحو يجعل المعرفة المتعلقة بالعلوم الطبيعية والرياضية في مرتبة أسمى من غيرها، ومن ثم يجعلها المعرفة الجديرة بالتعلم، أما غير ذلك من أشكال المعرفة، فهي معرفة لا يعتد بها ما دامت لا تحتذي هذه العلوم؛ لأنها ستكون عندئذ أقرب إلى التأملات الفلسفية، وستكون غير موثوقة في أفضل الأحوال، بحيث لا يمكن مقارنتها بالعلوم الطبيعية والرياضية التي تُسمى بالعلوم الدقيقة exact sciences. وربما يفسر لنا هذا سبب استعلاء المتخصصين في العلوم الدقيقة على غيرهم من المتخصصين في العلوم الإنسانية، بل نلمسه حتى في استعلاء المتخصصين في الطب الذي لا يعد من العلوم الدقيقة، وإنما يقع على حدودها أو في ذيلها. يحدث هذا بدرجات متفاوتة في عالمنا العربي وأشباهه من العوالم التي لا يزال التعليم فيها متخلفًا، وهي العوالم التي يسود فيها ما يُسمى بالنزعة التعالمية scientism، وهي النزعة التي لا تزال تنظر إلى العلم- كما تأسس منذ قرون على يد فرانسيس بيكون Bacon- كمنطق في البحث التجريبي؛ ومن بعد على يد الوضعيين المناطقة باعتباره المنطق المشروع في بلوغ الحقيقة واليقين!

إن المشكلات التي ترتبت على تطبيقات العلم في مجال البيئة تعد مثالًا بارزًا هنا قد فرض نفسه على التأمل والبحث بحكم الحاجة والضرورة، فلم تعد البيئة مجرد مجال من البحث في العلوم الطبيعية المستقل بذاته عن العلوم الإنسانية. كما أن هذه الضرورة قد فرضت علينا أيضًا النظر في الصلة بين التكنولوجيا وفلسفة الأخلاق (أي في أخلاقيات التكنولوجيا)، وفي المشكلات الأخلاقية للطب medical ethics، وذلك من قبيل: الإجهاض، والقتل الرحيم، وغير ذلك من المشكلات الفلسفية التي تقع في نطاق فلسفة الأخلاق، والتي تناولتها من قبل في مقالات عديدة في هذه الجريدة الرصينة. وهذا يعني أن المعرفة في عصرنا الآن أصبحت متداخلة ومتكاملة؛ وبالتالي لم يعد من الممكن دراسة ظاهرة ما، بما في ذلك الظواهر الطبيعية الخالصة، بمنأى عن الظواهر الإنسانية المصاحبة لها؛ ولعل ظواهر التغير المناخي تكون مثالًا بارزًا هنا. وعلى نحو مشابه، لا يمكننا أن نتصور الهندسة المعمارية من دون ما يرتبط بها من دراسات في علم الجمال الفلسفي الخاص بجماليات فن المعمار، ومن دون الدراسات الاجتماعية التي تتعلق بعلم اجتماع العمران، أي بحاجات الناس وميولهم وإرثهم التاريخي وأساليب حياتهم. ويحضرني هنا مثال بارز يتعلق بعلم الطب وما يتعلق بالصحة العامة: فقد تبين للعلماء في الطب أن صحة البدن وأمراضه هي مسألة وثيقة الصلة بنمط الحياة الاجتماعية، وأن هناك أمراضًا خطيرة تتعلق بأسلوب الحياة، وهذا ما أظهرته دراسات عديدة موثوقة تَبين من خلالها أن القبائل التي تعيش في الأمازون بمنأى عن ضغوط الحياة التي يعيشها الناس في المدن، يكون أفرادها أقل قابلية إلى حد كبير لأمراض القلب: فأمراض القلب وضغط الدم وما شابهها قد تكون مرتبطة إلى حد كبير بنمط وأسلوب الحياة. ومن النادر أن تجد طبيبًا في واقعنا يسألك عن شيء من نمط وأسلوب حياتك قبل أن يصف لك الدواء. هذا مجرد مثال تبسيطي على ما أود أن أقوله عن تكامل وتداخل المعرفة العلمية.

والواقع أن المعرفة في الأصل لم تكن تعرف هذا الانفصال بين مجالات المعرفة؛ ومن هنا فإننا يمكن أن نرى أن الإبداع في العلم ينبع دائمًا من هذا الفهم ومن تلك الحقيقة، فحتى النظريات العلمية الكبرى كانت تنبع دائمًا من رؤى فلسفية ومتخيلة للعالم. وبطبيعة الحال، فإنني لا أهدف من وراء هذا كله إلى القول بإسقاط الحدود بين التخصصات العلمية الدقيقة أو عدم الاعتراف بأهميتها، فذلك أبعد ما يكون عن غايتنا: فما أود التأكيد عليه هو أن كل تخصص علمي لا بد أن يتقاطع أو يتداخل مع تخصصات أخرى متشابكة معه على نحو لا فكاك منه، وأنا أرى في ذلك معيارًا للتمييز بين العلماء وأشباه العلماء أو ما أسميهم «بالمتعالمين»! ولهذا أرى أن الصغار من أساتذة الجامعات والباحثين هم أولئك الغارقون في تخصصهم الأكاديمي الضيق، وتراهم ينظرون إلى العالم وإلى الحياة من خلال هذا المنظور الضيق، فلا يعرفون أن يوسعوا من أفق نظرتهم الضيقة التي لا تستطيع أن تحيط بشيء من العالم الفسيح. العالِم حقًّا هو ذلك الذي كلما تعمق في تخصصه وجد أن جذور تخصصه تمتد إلى مجالات أخرى تتقاطع معه.

ولكن ما أود قوله في النهاية إن الحاجة إلى وحدة المعرفة أو تكاملها ليست مجرد مسألة تخص التعليم العالي والبحث العلمي، وإنما هي مسألة تتعلق برؤيتنا للمعرفة؛ ومن ثم للتعليم في عمومه، بما في ذلك التعليم قبل الجامعي، وذلك أمر لا يتسع هذا المقام لتفصيل القول فيه. وللحديث بقية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

شهر القراءة.. انعكاس لهوية الإمارات الحضارية وتعزيز للتسامح والانفتاح

تحتفي الإمارات في شهر مارس (أذار) من كل عام بـ "شهر القراءة"، الذي يُعد أحد أبرز الأحداث الثقافية المحلية التي تهدف لترسيخ ثقافة القراءة وبناء مجتمع المعرفة، وتعزيز مكانة الدولة كوجهة ثقافية وفكرية على المستويين الإقليمي والعالمي.

وفي هذا السياق، أكدت الدكتورة نوال النقبي أستاذ بكلية الاتصال في جامعة الشارقة، أن مبادرة "شهر القراءة" في دولة الإمارات تأتي تجسيداً لرؤية القيادة الرشيدة في بناء مجتمع معرفي متسلح بالعلم والثقافة. فالقراءة ليست مجرد نشاط ثقافي، بل هي أداة محورية في تطوير العقول وتعزيز التفكير النقدي والإبداعي، وهو ما يتماشى مع تطلعات الدولة نحو اقتصاد قائم على المعرفة.
وقالت إن تخصيص شهر كامل للاحتفاء بالقراءة يعكس إيمان الإمارات العميق بأهمية الكتاب في صياغة مستقبل أكثر تطوراً، كما يسهم في ترسيخ عادة القراءة لدى الأجيال الجديدة، مما يعزز دور الدولة كمنارة ثقافية على المستويين الإقليمي والعالمي.

الاستثمار في الانسان

ومن جانبه، لفت الدكتور محمد حمدان بن جَرْش السويدي، أن مبادرة "شهر القراءة" في الإمارات تجسِّدُ رؤيةَ القيادة الرشيدة بالاستثمار في الإنسان كأساسٍ للتنمية الشاملة، عبر بناء العقول وتنمية المعرفة، انطلاقاً من إيمانها بأنَّ الإنسانَ ركيزة التقدُّم. وتبرزُ أثره الإيجابي في تعزيز الوعي الثقافي، وترسيخ مهارات التفكير النقدي، وإثراء الحوار المجتمعي بين الأجيال، من خلال فعالياتٍ نوعية تستهدف الشبابَ والأطفالَ والعائلات.
وأضاف: يُسهم الشهر في تعزيز قيم التسامح والانفتاح، انعكاساً لهوية الإمارات الحضارية، مما يُرسخُ مجتمعاً قائماً على العلم والإبداع، ويضمنُ تحقيق تنميةٍ مستدامةٍ تُواكب طموحات الوطن نحو المستقبل. إن القراءة والابتكار والاستدامة تتكامل في علاقة وثيقة، تحمل في طياتها حقيقة تقدم المجتمع. فالقراءة تُغذي العقول وتفتح آفاق الفكر، مما يسهم في صياغة حلول مبتكرة للتحديات، ويعزز من قدرة المجتمع على التطور والنمو في عالم متغير.

ثقافة مستدامة

وقال الدكتور أحمد طقش مستشار إعلامي: "شهر القراءة" خطوة استراتيجية نحو ترسيخ ثقافة مستدامة للمعرفة والتعلم مدى الحياة. فالقراءة هي أساس الابتكار والتطور، وتعزيزها على مستوى الأفراد يسهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وإنتاجية. ما يميز هذه المبادرة أنها لا تقتصر على المؤسسات التعليمية فحسب، بل تمتد لتشمل جميع فئات المجتمع، مما يعكس رؤية الإمارات الطموحة في أن تكون مركزاً ثقافياً عالمياً.
وأكد أن الاستثمار في المعرفة والكتاب هو استثمار في المستقبل، وشهر القراءة فرصة ذهبية لترسيخ هذا النهج في وجدان الأجيال القادمة.

مقالات مشابهة

  • وظائف وزارة الشباب والرياضة 2025.. الشروط والتخصصات المطلوبة
  • “شِعب الجرار” إحدى المكونات الطبيعية التي تعزّز الحياة الفطرية والبيئية في جبل أحد بالمدينة المنورة
  • مسئول بوزارة الأوقاف يشارك في أعمال المجالس العلمية الهاشمية بحضور ولي العهد الأردني
  • شهر القراءة.. انعكاس لهوية الإمارات الحضارية وتعزيز للتسامح والانفتاح
  • د.حصة المفرح: “الأدب والعمارة”يندرج في باب التداخل والتراسل بين الفنون والمعارف
  • سيرة نضال تأسيس مكتبة قرّاء المعرفة
  • متحدث الزراعة: "معاك في الغيط" تواصل التوعية العلمية للفلاحين عبر التواصل الاجتماعي
  • متحدث الزراعة: معاك في الغيط توصل التوعية العلمية للفلاحين عبر التواصل الاجتماعي
  • حارس ميلوول مهدد بالإيقاف
  • الدراسات العليا للنانو تكنولوجي تصدر العدد الأول من مجلتها الدولية العلمية