لجريدة عمان:
2025-01-30@18:58:27 GMT

التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية - 1

تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT

نشرت جريدة «المصري اليوم» مؤخرًا مقالًا مهمًّا للدكتور عصام عبد الفتاح عن «وحدة المعرفة» التي تتجلى في «الدراسات البينية»، أي في تداخل المعارف والتخصصات، الذي بات أمرًا مسلَّمًا به في البحث والتعليم الجامعي في كل الجامعات الكُبرى حول العالم. وهذا ما سبق أن نوهت إليه باعتباره إحدى مشكلات التعليم في واقعنا العربي عمومًا وليس في مصر وحدها، وهي مشكلة حقيقية ورئيسة تعكس عوارًا وضعفًا في التعليم والبحث العلمي في كثير من الجامعات العربية.

يتبدى هذا على أنحاء عديدة، ولكنه يتبدى ابتداءً بشكل فج في تصوراتنا الزائفة والساذجة عن طبيعة المعرفة ذاتها، والتمييز الطبقي بينها على نحو يجعل المعرفة المتعلقة بالعلوم الطبيعية والرياضية في مرتبة أسمى من غيرها، ومن ثم يجعلها المعرفة الجديرة بالتعلم، أما غير ذلك من أشكال المعرفة، فهي معرفة لا يعتد بها ما دامت لا تحتذي هذه العلوم؛ لأنها ستكون عندئذ أقرب إلى التأملات الفلسفية، وستكون غير موثوقة في أفضل الأحوال، بحيث لا يمكن مقارنتها بالعلوم الطبيعية والرياضية التي تُسمى بالعلوم الدقيقة exact sciences. وربما يفسر لنا هذا سبب استعلاء المتخصصين في العلوم الدقيقة على غيرهم من المتخصصين في العلوم الإنسانية، بل نلمسه حتى في استعلاء المتخصصين في الطب الذي لا يعد من العلوم الدقيقة، وإنما يقع على حدودها أو في ذيلها. يحدث هذا بدرجات متفاوتة في عالمنا العربي وأشباهه من العوالم التي لا يزال التعليم فيها متخلفًا، وهي العوالم التي يسود فيها ما يُسمى بالنزعة التعالمية scientism، وهي النزعة التي لا تزال تنظر إلى العلم- كما تأسس منذ قرون على يد فرانسيس بيكون Bacon- كمنطق في البحث التجريبي؛ ومن بعد على يد الوضعيين المناطقة باعتباره المنطق المشروع في بلوغ الحقيقة واليقين!

إن المشكلات التي ترتبت على تطبيقات العلم في مجال البيئة تعد مثالًا بارزًا هنا قد فرض نفسه على التأمل والبحث بحكم الحاجة والضرورة، فلم تعد البيئة مجرد مجال من البحث في العلوم الطبيعية المستقل بذاته عن العلوم الإنسانية. كما أن هذه الضرورة قد فرضت علينا أيضًا النظر في الصلة بين التكنولوجيا وفلسفة الأخلاق (أي في أخلاقيات التكنولوجيا)، وفي المشكلات الأخلاقية للطب medical ethics، وذلك من قبيل: الإجهاض، والقتل الرحيم، وغير ذلك من المشكلات الفلسفية التي تقع في نطاق فلسفة الأخلاق، والتي تناولتها من قبل في مقالات عديدة في هذه الجريدة الرصينة. وهذا يعني أن المعرفة في عصرنا الآن أصبحت متداخلة ومتكاملة؛ وبالتالي لم يعد من الممكن دراسة ظاهرة ما، بما في ذلك الظواهر الطبيعية الخالصة، بمنأى عن الظواهر الإنسانية المصاحبة لها؛ ولعل ظواهر التغير المناخي تكون مثالًا بارزًا هنا. وعلى نحو مشابه، لا يمكننا أن نتصور الهندسة المعمارية من دون ما يرتبط بها من دراسات في علم الجمال الفلسفي الخاص بجماليات فن المعمار، ومن دون الدراسات الاجتماعية التي تتعلق بعلم اجتماع العمران، أي بحاجات الناس وميولهم وإرثهم التاريخي وأساليب حياتهم. ويحضرني هنا مثال بارز يتعلق بعلم الطب وما يتعلق بالصحة العامة: فقد تبين للعلماء في الطب أن صحة البدن وأمراضه هي مسألة وثيقة الصلة بنمط الحياة الاجتماعية، وأن هناك أمراضًا خطيرة تتعلق بأسلوب الحياة، وهذا ما أظهرته دراسات عديدة موثوقة تَبين من خلالها أن القبائل التي تعيش في الأمازون بمنأى عن ضغوط الحياة التي يعيشها الناس في المدن، يكون أفرادها أقل قابلية إلى حد كبير لأمراض القلب: فأمراض القلب وضغط الدم وما شابهها قد تكون مرتبطة إلى حد كبير بنمط وأسلوب الحياة. ومن النادر أن تجد طبيبًا في واقعنا يسألك عن شيء من نمط وأسلوب حياتك قبل أن يصف لك الدواء. هذا مجرد مثال تبسيطي على ما أود أن أقوله عن تكامل وتداخل المعرفة العلمية.

والواقع أن المعرفة في الأصل لم تكن تعرف هذا الانفصال بين مجالات المعرفة؛ ومن هنا فإننا يمكن أن نرى أن الإبداع في العلم ينبع دائمًا من هذا الفهم ومن تلك الحقيقة، فحتى النظريات العلمية الكبرى كانت تنبع دائمًا من رؤى فلسفية ومتخيلة للعالم. وبطبيعة الحال، فإنني لا أهدف من وراء هذا كله إلى القول بإسقاط الحدود بين التخصصات العلمية الدقيقة أو عدم الاعتراف بأهميتها، فذلك أبعد ما يكون عن غايتنا: فما أود التأكيد عليه هو أن كل تخصص علمي لا بد أن يتقاطع أو يتداخل مع تخصصات أخرى متشابكة معه على نحو لا فكاك منه، وأنا أرى في ذلك معيارًا للتمييز بين العلماء وأشباه العلماء أو ما أسميهم «بالمتعالمين»! ولهذا أرى أن الصغار من أساتذة الجامعات والباحثين هم أولئك الغارقون في تخصصهم الأكاديمي الضيق، وتراهم ينظرون إلى العالم وإلى الحياة من خلال هذا المنظور الضيق، فلا يعرفون أن يوسعوا من أفق نظرتهم الضيقة التي لا تستطيع أن تحيط بشيء من العالم الفسيح. العالِم حقًّا هو ذلك الذي كلما تعمق في تخصصه وجد أن جذور تخصصه تمتد إلى مجالات أخرى تتقاطع معه.

ولكن ما أود قوله في النهاية إن الحاجة إلى وحدة المعرفة أو تكاملها ليست مجرد مسألة تخص التعليم العالي والبحث العلمي، وإنما هي مسألة تتعلق برؤيتنا للمعرفة؛ ومن ثم للتعليم في عمومه، بما في ذلك التعليم قبل الجامعي، وذلك أمر لا يتسع هذا المقام لتفصيل القول فيه. وللحديث بقية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

"قضاء أبوظبي" تبحث مع وفد خليجي تبادل المعارف والخبرات التقنية الحديثة

بحث المستشار يوسف سعيد العبري، وكيل دائرة القضاء في أبوظبي، مع وفد من مديري المراكز والمعاهد التدريبية القضائية والقانونية بدول مجلس التعاون الخليجي، سبل تطوير الشراكة وتبادل المعارف والخبرات في مجالات التقنيات الرقمية الحديثة والابتكار والتدريب، وذلك ضمن الزيارة التي يقوم بها الوفد إلى دولة الإمارات بهدف دعم آليات التنسيق وتبادل الخبرات في المجالات القانونية والقضائية.

وأكد العبري خلال لقائه الوفد، في مقر دائرة القضاء بأبوظبي، أهمية هذه الزيارات في تفعيل أوجه التعاون بين المراكز والمعاهد القضائية في دول مجلس التعاون الخليجي، وبحث إمكانات توطيدها في المجالات المشتركة.

تطوير الشراكات 

وأكد العبري، حرص الدائرة على تطوير الشراكات على المستويات الخليجية والعربية والدولية وتبادل الخبرات حول الأنظمة القضائية وتقديم صورة شاملة عن التطور الذي تشهده الخدمات القضائية والآليات التدريبية في أبوظبي، ونقل تجاربها الرائدة في استحداث أفضل الأساليب التكنولوجية واعتماد أفضل الممارسات الدولية لدعم الجهود التطويرية في قطاعاتها المختلفة بما يسهم في إرساء دعائم العدالة وسيادة القانون.
من جانبه، اطلع الوفد الخليجي الزائر على أفضل الممارسات المطبقة في عمليات التدريب المتخصص للقضاة وأعضاء النيابة العامة، فضلاً عن البرامج التأهيلية المعتمدة لتنمية قدرات ومهارات أعضاء السلطة القضائية والقانونيين، بما ينعكس بدوره على تحسين جودة الأداء في النظام القضائي.

آليات العمل 

واستمع الوفد إلى شرح مفصل عن آليات العمل في أكاديمية أبوظبي القضائية والتقنيات الحديثة المستخدمة في تقديم البرامج والدورات التدريبية المستمرة؛ بهدف صقل قدرات المختصين في المجالين القضائي والقانوني وإكسابهم الخبرات العملية والتطبيقات المستحدثة بشكل دوري لضمان مواكبة التطورات العالمية.
كما استمع إلى شرح حول آليات التحول الرقمي في النيابة العامة في أبوظبي وحزمة الخدمات الإلكترونية والرقمية المقدمة؛ بهدف تسهيل الإجراءات واستدامة التحديث والتطوير وتطبيق أفضل الممارسات الداعمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما يدعم الجهود الرامية إلى رفع كفاءة الأنظمة والارتقاء بمستويات الجودة.

خدمات محكمة الأسرة 

وتعرف الوفد خلال جولة في مبنى الدائرة الرئيس في أبوظبي، على خدمات محكمة الأسرة المدنية التي توفر آلية مرنة ومتطورة للفصل في مسائل الأحوال الشخصية الخاصة بالأجانب، كما زار المكتبة المركزية التي توفر مجموعة واسعة من الإصدارات والكتب والمراجع والموسوعات المتعلقة بالمجال القانوني لتقديم خدمات نوعية للمشتغلين بالعمل القضائي والمتدربين القضائيين والباحثين القانونين والمحامين.

مقالات مشابهة

  • وزير التعليم يبحث دعم الندوة العلمية حول الإرشاد السياحي
  • 3 حلول مرورية لتعزيز الانسيابية على شارع الشيخ زايد في دبي
  • وزير التعليم العالي: تحويل الأبحاث العلمية إلى تطبيقات عملية تخدم أهداف التنمية المستدامة
  • "قضاء أبوظبي" تبحث مع وفد خليجي تبادل المعارف والخبرات التقنية الحديثة
  • أستاذ مسالك بولية: التعريب في التعليم والطب ضرورة لتحسين الواقع اللغوي
  • "إعلان مسقط" يدعو لزيادة الثقة في المعرفة العلمية والممارسة الحرة والمسؤولة للعلوم
  • المكتب الإقليمي لمجلس العلوم الدولي في مسقط .. الأهمية والطموح
  • إعلان مسقط يؤكد على دعم التعاون الدولي في الأبحاث العلمية
  • مسابقة ISEF.. طالب ثانوي يستغيث بوزير التعليم: «فضلوا المدارس الخاصة على الحكومية»
  • الفكر المركّب لإدغار موران .. ما الذي يمكن أن يضيفه في حقل التعليم؟