كثيرا ما نطالع عبارة «الوسطاء يمتنعون» في إعلانات البيع والشراء التي ينشرها الراغبون في بيع منازلهم أو مزارعهم أو سياراتهم، سواء في الصحف أو على جدران المباني، أو الشقق المعروضة للبيع أو حتى إعلانات بيع السيارات. كان نشر هذه العبارة يمثل تحذيرا للمشتري من الطرف الثالث أو الوسيط الذي يتدخل في عملية البيع مقابل أن يحصل على نسبة من الثمن المدفوع سواء من البائع أو المشتري.
وإذا كان مجال عمل السمسار يتركز في التجارة وتبادل السلع والخدمات بين الناس، فقد دخلت «السمسرة» مجال السياسة في فترات مبكرة من عمر الحضارة الإنسانية لتعبر عن الوسطاء سواء كانوا أفرادا أو حكومات أو منظمات، يتطوعون لأهداف خاصة للإصلاح بين الدول المتنازعة أو بين الجماعات المتصارعة داخل الدولة الواحدة للوصول إلى حل هذه الصراعات وإخماد الحروب ونشر السلام.
وغالبا ما يكون هناك اتفاق بين الدول أو الجماعات المتصارعة على المشاركة في اختيار هؤلاء الوسطاء، الذين يجب أن تكون قوتهم متساوية إلى حد كبير، ومواقفهم المعلنة من الصراع متوازنة ولا تميل لطرف على حساب طرف آخر.
كانت هذه مقدمة ضرورية للحديث عن المفاوضات التي بدأها الوسطاء الثلاثة الخميس الماضي في العاصمة القطرية الدوحة، وضمت الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر بحضور طرف واحد من أطراف الصراع في غزة وهي إسرائيل، وفي غياب الطرف الثاني المتمثل في حركة المقاومة الإسلامية «حماس» التي قالت إنها «ستراقب وتتابع جولة التفاوض وهل أن مسار المفاوضات جدي من جانب الاحتلال ومجدٍ أم أنه استمرار للمماطلة التي يتبعها نتانياهو».
كان من الطبيعي أن تفشل هذه المفاوضات كونها كانت تجري ليس بهدف وقف العدوان الصهيوني على غزة، بل لاستهلاك الوقت ومنح إسرائيل الفرصة لتدمير ما بقي في غزة، وزيادة مطالبها، بالإضافة إلى منح الوسطاء العرب فرصة زيادة الضغط على حماس للقبول بشروط نتانياهو الجديدة، ومنها استمرار السيطرة الإسرائيلية على محور فيلادلفيا ومعبر رفح، ومعرفة عدد الأسرى الأحياء، وإقرار حق إسرائيل في رفض عودة بعض سكان غزة إلى منازلهم، ورفض إطلاق سراح أسرى فلسطينيين. في ظل هذا التعنت الصهيوني ومباركة «السمسار» الأمريكي، من المتوقع أن تفشل الجولة الثانية من المفاوضات التي تعقد بالقاهرة اليوم.
في تقديري أن هذه المفاوضات عبثية لأكثر من سبب، لعل أهم هذه الأسباب أن الوسطاء المشاركين فيها ليسوا على نفس الدرجة من القوة والتأثير على الطرف المتسلط، وهي إسرائيل وتحديدا نتانياهو الذي لا يريد اتفاقا، بل يريد استمرار الحرب. الولايات المتحدة التي تقود تلك المفاوضات لحساب إسرائيل في المقام الأول وسيط غير نزيه وغير جدير بالثقة سواء من الطرف الثاني أو حتى من الطرفين العربيين المشاركين في الوساطة. كيف تقدم الولايات المتحدة أسلحة وقنابل تزن ألفي رطل لنتانياهو لارتكاب المذابح في غزة وتدعمه ماليا وسياسيا دعما غير مسبوق ثم تأتي لتكون وسيط سلام؟ وكيف تثق في وسيط يقدم لعدوك منذ أيام قليلة صفقات أسلحة جديدة بقيمة تتجاوز 20 مليار دولار؟
منذ اندلاع الحرب ورغم المذابح التي ارتكبها الجيش الصهيوني والاغتيالات التي طالت رئيس حركة حماس إسماعيل هنية، ورغم سقوط أكثر من أربعين ألف شهيد في غزة لم تمارس الولايات المتحدة ضغوطا حقيقية على إسرائيل لوقف هذه المذابح والقبول بورقة بايدن لوقف الحرب، وسمحت له بالاستمرار في حرب الإبادة في غزة لزيادة الضغوط على حماس والفلسطينيين. ويؤكد فشل جولات المفاوضات السابقة أن نتانياهو لا يشغل باله كثيرا بالوسطاء العرب، ويعتبرهم «أصدقاء لإسرائيل» ومشاركون له في حربه «المقدسة» لاجتثاث المقاومة الإسلامية الإرهابية، كما يزعم.
لا يمكن أن تنجح وساطة في الحرب على غزة تكون الولايات المتحدة الأمريكية طرفا فيها، لأن مجرد وجودها يمثل مكافأة لإسرائيل. لذلك يجب على الوسيطين الآخرين أن يمارسا ضغطا سياسيا وإعلاميا على نتانياهو وإسرائيل، وأن يكشفا للعالم أن فشل كل هذه الوساطات يعود إلى مراوغة الصهاينة ومن ورائهم الأمريكيين. يجب على مصر تحديدا باعتبارها الشريك العربي الرئيسي في الوساطة ألا تسمح لنتانياهو حتى بوضع طلبه استمرار احتلال محور فيلادلفيا والسيطرة على معبر رفح، على طاولة المفاوضات، لأن هذا يخالف اتفاقية السلام الموقعة معها في العام 1979. أما قطر فعليها أن تقاوم كل الضغوط الأمريكية التي تطالبها بممارسة مزيد من الضغط على الفلسطينيين للقبول بما يريده نتانياهو. وقد سبق لقطر أن هددت في أبريل الماضي بأنها سوف تعيد تقييم دور الوساطة الذي تقوم به بين حركة حماس وبين إسرائيل، بعد أن قامت بدور رئيسي في المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين ونجاحها في انتزاع هدنة لأسبوع في أواخر نوفمبر الماضي، وهي الهدنة التي أتاحت إطلاق سراح 81 محتجزا إسرائيليا لدى المقاومة، مقابل تحرير نحو 280 أسيرا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية.
إذا كان العالم يريد لهذه الحرب الغاشمة والظالمة التي تشنها إسرائيل المدججة بالأسلحة الأمريكية والأوروبية على البشر والشجر والحجر في غزة أن تنتهي بحلول سلمية دائمة وعادلة، فإن عليه أن يستبدل دون إبطاء الوسيط الرئيسي الحالي بوسيط أو وسطاء جدد يتفق عليهم الطرفان. وسيط محايد ليس له مصالح كبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل. لماذا لا نجرب الوساطة الصينية أو اليابانية أو السويسرية أو حتى الكورية أو التركية. لماذا نرضى بأن نحشر هكذا دائما بين مطرقة إسرائيل وسندان أمريكا. إن قيادة العالم من جانب القوى العظمى يجب أن تكون قيادة رشيدة لا تخل بمبدأ العدالة بين الدول والشعوب. وما يحدث مع الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 لا يمكن أن يستمر هكذا دون أجل محدد.
علينا أن ندرك أن التواطؤ الأمريكي مع إسرائيل منذ زرعها في المنطقة لا يحتاج إلى دليل، هذا التواطؤ مستمر ولن يوقفه سوى موقف عربي موحد باعتبار الولايات المتحدة وسيطا غير نزيه في الصراع العربي الإسرائيلي بوجه عام. إن سبب هذا التواطؤ «واضح للجميع، إنه مزيج من الأيديولوجيا والمعتقدات الدينية الزائفة، والحسابات السياسية الضيقة للسياسيين الأمريكيين، وهذا يعني، بكل بساطة، أن واشنطن لا يمكنها أن تؤدي دور الوسيط».
لا أعرف على ماذا يعتمد الوسطاء العرب المشاركون في المفاوضات الهزلية مع إسرائيل لكي يثقوا في الولايات المتحدة الأمريكية التي تمارس الإجرام مع إسرائيل، ولا يختلف إجرام قادتها في حق الفلسطينيين والعرب عموما عن إجرام مجرم حرب الإبادة الجماعية في غزة والذي ينتظر صدور مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة الجنائية الدولية؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی غزة
إقرأ أيضاً:
هوكشتاين: حققنا تقدماً إيجابيّاً في المفاوضات وسأسافر إلى إسرائيل
قال الموفد الأميركيّ آموس هوكشتاين "حققنا تقدما إيجابيا في المفاوضات مع رئيس مجلس النواب نبيه بري". وأضاف هوكشتاين بعد لقائه بري في عين التينة: "سأسافر من بيروت إلى إسرائيل لمحاولة التوصل إلى حلّ". وتابع: "لا يُمكن الإفصاح علنا عن النقاط الخلافية بشأن اتفاق وقف النار في لبنان". وختم هوكشتاين قائلاً: "سأعمل مع الإدارة الأميركية الجديدة بشأن جهود التهدئة في لبنان".