تساءل الكاتب المغربي عبد الكريم الخطيبي في كتابه (النقد المزدوج) عن صمت المثقفين الغربيين وعجزهم عن اتخاذ موقف من الصراع العربي الصهيوني بينما تفضح المقاومة وتشيطن ويشهر بها بل وتوسم بالإرهاب، وأرجع ذلك إلى أن ضمير المثقفين الغربيين مصاب بـ (مرض الغثيان الأبيض) وهو مرض الحمى البيضاء التي تلتهم كل شيء وتجمع بين العقاب والخطيئة وسم الشعور بالذنب.
واليوم ونحن نقف أمام المجازر المتوالية التي ترتكبها إسرائيل أمام عيون العالم، لا يزال موقف المثقفين الغربيين مثار استغراب وجدل ونقاش وربما صادم وقد يستعصي على التفسير والتبرير. فقد لاحظ المؤرخ الفرنسي ران هليفي «انطلقت بموازاة مع انطلاق طوفان الأقصى حرب من نوع آخر، حرب إعلامية وحرب سرديات بموازاة الحرب الجارية في الميدان».
تلك الحرب أو السجال انطلق في اتجاهات مختلفة، اتجاه مثله بعض المثقفين الذين أدانوا سكوت وصمت المثقفين والأكاديميين الغربيين في عدم إدانتهم حماس والتضامن مع إسرائيل على خلاف ما حدث بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، فقد استهجنت الباحثة في المجال الفلسفي (جوليا كريست) ذلك الصمت الذي أسمته (صمت المعرفة) وكأن الأولى بهؤلاء المثقفين حسب هذا الرأي عدم الوقوف صامتين والتفرج على ما تفعله حماس بل إدانة ذلك والتضامن الصريح مع القتلة والمجرمين وهذا معيب في حق المثقفين والأكاديميين والفلاسفة. بالطبع هذه نظرة مدفوعة بغايات ومآلات وتبريرات لا يتسع المقام لذكرها والتي لا تخفى على أحد. نستذكر هنا موقف مثقفين غربيين لم يصمتوا بل جاهروا في تضامنهم مع القتلة مسوغين الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل والأسماء كثر في ذلك.
فقد لاحظ هؤلاء تراجع السردية الصهيونية والبروباغندا في الغرب بعد عقود من الهيمنة والسيطرة التامة. إلا أنهم وعوضًا عن دراسة تلك الظاهرة بشكل علمي حقيقي فقد استمروا في قفزهم على تلك الحقيقة والتحولات العميقة في مزاج شريحة كبيرة من الغربيين.
في الاتجاه نفسه دخل ذلك السجال منطقة أخرى في محاولة لتفسير تنامي الحركات المؤيدة والداعمة للفلسطينيين متمثلة بالمظاهرات التي انطلقت في بعض الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب وملأت الساحات والميادين احتجاجًا على الإبادة الجماعية والمجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين العزل في غزة مدعومة ومدججة بالأسلحة الغربية بشكل لا نظير له (رغم أن ذلك ليست ظاهرة، على المستوى الغربي فقد كانت عبر التاريخ، حرب فيتنام، والعراق وأفغانستان وحروب أمريكا). المثير للاستغراب ذلك التفسير الذي أرجعها إلى تجليات انتشار ظاهرة ثقافة الووكيزم الثقافة التبسيطية أو السطحية (Le wookisme) التي تنطلق في نظرهم من معادلة بسيطة للغاية وتفسير مانوي للصراعات السياسية الداخلية أو الخارجية، يكمن هذا التفسير في اختزال بسيط وتقابل ثنائي بين قوي وضعيف، بين قوي مسيطر من جهة وبين ضعيف مُضطهد من جهة أخرى، وأن الحق دائمًا يكون بجانب الضعيف المضطهد الذي يتعين بالتالي مناصرته والوقوف معه ضد القوي المتجبر الذي يملك كل وسائل القوة والدمار (إن مساندة التقدميين للفلسطينيين لا تنبع من تحليل تاريخي ولا انتباه دقيق للوقائع، بل هي وجه من وجوه الووكيزم القائمة على مساندة لا مشروطة لمن يعتبر ضعيفا كما لو أن الأخلاق والعدل هي في جانب الضعفاء فقط المؤرخ الفرنسي ران هليفي Ran Halevi). فقد فسر بعض المؤرخين موقف الطلبة المتظاهرين والمؤيدين للفلسطينيين بأنهم أصحاب ثقافة بسيطة أو بالثقافة التبسيطية أو السطحية وعدم الإدراك والمعرفة لمجريات الأمور، وكأنهم (أي الطلبة المتظاهرون) لا يفقهون كيف تجري الأمور.
هذه النظرة من قبل بعض المثقفين الغربيين هي بلا شك نظرة فوقية متعالية وكأنهم الوحيدون الذين يملكون الحقيقة ويوزعونها على من يشتهون ويرون، أما الغير الذي لا يشاركهم نفس الأفكار ولا يتبنى نفس رؤاهم فلا يملك تلك النظرة التي تقيس الأشياء والأحداث بمقاسات علمية. هذه النظرات الفوقية المتعالية لا تخرج في الحقيقة من نظرات العالم الغربي تجاه العالم الثالث ليس إلا نظرات فوقية متعالية مقيتة وحسب بل حتى أولئك الذين من نفس جلدتهم.
لكن ما فات أولئك الباحثون هو النظر إلى ذلك التناقض الذي لاحظه الطلبة بين ما يدرسونه من نظريات في حقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة وبين ما يشاهدونه على أرض الواقع من انحياز أعمى ودعم غير مشروط وتماد مع المؤسسة السياسية والعسكرية في انحيازها مع الصهيونية. وما لاحظه أولئك الطلبة الذين يدرسون النظريات والمثاليات التي ينادي بها الغرب، فجأة يكتشفون بأن الفرق الشاسع بين النظريات والتطبيقات التي تحدث على أرض الواقع، باتوا مصدومين بحالة النفاق والازدواجية التي يعاني منها الغرب، مدركين أن العالم لا تحكمه المثاليات والنظريات بل العكس تمامًا القوة ولا غيرها. لذلك مثل خروجهم ربما صرخة في وجه الغرب وساسته ومثقفيه وفلاسفته وربما يرغبون بتغير الأوضاع وإعادة توجيهها بشكل أكثر نقاوة ومثالية.
تلك الغطرسة والتعالي والفوقية التي تصف الآخر بعدم الفهم أو الفهم السطحي أو البسيط لا تقتصر على الغرب وحده وإنما هي في الحقيقة ثقافة ودرجة عالية من الأنا وحب الذات التي تطبع بعض البشر وخصوصًا أولئك الذين يملكون المعرفة أو أصحاب المناصب والسلطة وكم سمعنا بعض الأشخاص يصفون محاورهم بعدم الفهم أو سطحية في الفهم أو الفهم القاصر، هؤلاء لا يملكون بالتأكيد غير السلطة والعلو، لعلهم بتصرفهم هذا لا يدركون كم من فكرة جميلة ضاعت وكم من حل لمشكلة عويصة تبدد وكم من وجهة نظر إيجابية وجديرة بالمناقشة ضاعت.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خلافات أمريكا وأوروبا.. هل هي بداية انقسام حضارة الغرب وماذا سيفعل عندها العرب؟
صحيح أنّه لا يمكننا الجزم بأن الغرب يشهد حاليا انقساما حادا قد ينتهي بقطيعة بين أبرز مكوناته، لكننا نستطيع أن نتأكد من خلال قراءة حضارية للسياق السياسي الدولي وما وصل إليه في حاضرنا، ونشاهد عيانا كيف أنّ أوروبا والولايات المتحدة بينهما خلافات عميقة قد تأخذ أبعادا أخرى وتعرف انزلاقات حادة في أيّ وقت، خاصة حينما تقود دولها التيارات اليمينية المتطرفة والدينية المحافظة، وينتج عن حكمها وسياساتها الدولية نوع من السقوط الأخلاقي في تعاملها مع الشعوب الأخرى. لقد حدث ذلك تاريخيا إبان الحقبة الاستعمارية ورأينا كيف تحولت إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس إلى مجرد دول قومية صغيرة المساحة وقليلة السكان، بعد أن عاثت في مستعمراتها ظلما ونهبا لعقود طويلة.
وبتكبير رؤيتنا لهذا المشهد الحضاري سيبدو لنا أكثر وضوحا، ويمكننا عندها قراءته بشكل عام من خلال اللحظة التاريخية التي التقطنا منها صوره، نحن نشاهد بأمّ أعيننا إسرائيل، صنيعة أوروبا وأمريكا والمشكّلة من عرقيات غربية بشكل أساس، تتدثر بـ"السامية" المفترض أنها ميزة شرقية، حتى تحمي وجودها وفكرتها الصهيونية، ونرى كيف أن الولايات المتحدة دعمت جيش الاحتلال بأحدث تكنولوجيا السلاح والذخيرة وتواطأت سياسيا على إبادة شعب تريد اقتلاعه من أرضه.
وداخل هذا المشهد لا تخطئ العين المقارنة بين غزة وأوكرانيا، حيث لا يمكن للعقل الإنساني أن يتجاوزها مهما حاول الدوس على ضميره، ولعل هذا ما جعل أوروبا -بشكل عام- تأخذ مواقف رافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة، في مقابل تورّط الولايات المتحدة في سفك دماء الفلسطينيين بمشاركتها المادية إلى جانب جيش الاحتلال الصهيوني، إلى أن جاء ترامب الذي أعطى ظهره لأوكرانيا وحاول التعامل مع غزة بنوع من الوقاحة التي لا تخلو من العقلانية، حيث أنّ عينه كانت على إمكانية الضغط على حماس وترهيبها والأخرى كانت على سلاحها الذي رفضت رفضا قاطعا تسليمه أو التخلي عنه.
"لقد كان ترامب محقّا في كل شيء"؛ عبارة وضعها الرئيس الأمريكي المثير للجدل على قبعة بيسبول حمراء لطالما رافقته ولا تزال، إنها عبارة تختصر عناده واعتداده بتصوراته وقراراته التي لم تشاطره فيها شرائح واسعة من الأمريكان اختارت أن تضع ثقتها في جو بايدن وأن تشكّ في ما سيحققه لها من وعود بدت لها غير قابلة للتصديق، وها هو اليوم ترامب يُذكرها بفداحة خطئها وفظاعة خطيئتها، فهو كان على الدوام على حقّ في كلّ ما حذّر الأمريكان منه (حسب قناعته العمياء طبعا).
وإذ يحاول ترامب كسب شرعية من خلال هذه العبارة يقنع بها الداخل الأمريكي بصوابية تواجهاته الحمائية التي يهدف من خلالها الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي عبر فرض المزيد من الرسومات الجمركية على الاقتصاديات الكبرى في العالم، فهو يسعى إلى فرض هيمنة أمريكا في نسختها الترامبية على العالم، بما فيه أوروبا التي تقاسم أمريكا الحضارة والثقافة والعرق والدين والتاريخ، ولا تفرقهما سوى الجغرافيا.
لقد نحت الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى اعتبار مصالحها القومية هي المرجع وهي المصلحة الثابتة، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ربما، تتبنى سياسة خارجية مختلفة تجاه حلفائها في أوروبا وكندا، الأمر الذي يطرح إشكالية بداية تصدع الحضارة الغربية.
على صعيد الاقتصاد، خلقت رغبة ترامب الجامحة في تحصيل المزيد من الأموال من خلال فرض رسوم جمركية على السلع القادمة من الاتحاد الأوروبي ردّ فعل مكافئ ومعاكس في الاتجاه لدى الأوروبيين، الذين أصبحوا أكثر تشككا من استمرار علاقات "أخوية متينة" مع الضفة المقابلة للأطلسي، ومن هنا يبدأ الصدع في الاتساع.
وفي الجانب العسكري نجد أنّ ضغوط أمريكا وتنصلها من الاستمرار في حماية الدول الأوروبية دون مقابل يصر ترامب على أن تدفعه إن أرادت بقاء الغطاء العسكري الأمريكي مستقبلا، وكذلك موقفها تجاه أوكرانيا، كل ذلك سيدفع بدول الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل استراتيجية الدفاع المشترك، ما قد يفضي إلى تفكك حلف شمال الأطلسي الذي يشكّل أبرز مظهر عسكري يوحّد الحضارة الغربية، بل حتى على مستوى الدول ربما تلجأ كل دولة على حدة إلى وضع خطط وتصورات بشكل منفرد لأمنها القومي.
لقد تضاعف شكّ أوروبا في روسيا بعد أن غزت أوكرانيا وقطعت كل يقين في بوتين تكون قد عوّلت عليه قبلها، وحسمت دول القارة في مسألة إيجاد مصدر طاقوي بديل يُغنيها عن بوتين نهائيا، وأصبح انعدام الثقة في الشرق هو سيد الموقف، واليوم يبدو أنّ الشيء نفسه سيحدث مع الولايات المتحدة التي يقود ترامب علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي نحو حالة من اليقين ببقاء التهديد الأمريكي أو على الأقل عودته في المستقبل إن لم يستمر، ما يعني أنّ القارة العجوز في بحثها الأكيد عن بدائل اقتصادية وعسكرية لأمريكا ستتقوقع على نفسها أكثر من أيّ وقت مضى بعد أن تتجمد العلاقات غرب الأطلسي أيضا.
"متلازمة بوتين" هذه التي يبدو أنّ أوروبا قد أصيبت بها مجدّدا مع الولايات المتحدة بسبب سياسات ترامب، حيث لا تضمن الأيام حتى وإن ذهب أن تأتي برئيس آخر يشبهه في عناده أو ربما يفوقه في عجرفته، ستلقي بظلالها ليس على الجبهة الأطلسية فحسب، بل على العالم أجمع، وستسعى كل دولة إلى حماية اقتصادها ودعم أمنها واستقرارها لوحدها وبشكل ذاتي بعيدا عن الآخرين.
ولا يمكن لهذا المشهد الحضاري أن يكتمل إلا بطرح سؤال حول منطقتنا ربما يجد جوابا عن مصيرها: أين سيكون العرب في هذه الحالة المستعصية والمتأصلة من الأنانية التي ستسيطر على دول العالم؟ وكيف سينظرون إلى اقتصادياتهم وأمنهم القومي؟ هل سيتشرذمون أكثر مما هم عليه اليوم، أم أنّ رياح التغيير الحضاري قد تهبّ مجدّدا لتفرض ترتيبات جديدة على المنطقة؟