لجريدة عمان:
2024-09-13@19:28:24 GMT

بندقية تشيخوف

تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT

منطقُ القصة، ونهج الدخول في القصص، والأساليب التي يتوخاها كاتب السرد، مسائلُ كثُر فيها الجدل والنقاشُ، وخاضَ فيها الأدباءُ والدارسون، ولكن الطريقة الأمثل للحكاية تبقى دومًا بين يدي كاتب، لا يُدرك بالضرورة، «منطق الحكاية» ولا «مواقع الراوي» ولا «صيَغ السرد» ولا كل المفاهيم والمُصطلحات التي يُجريها النُقَاد ومدرسو الأدب، الفارق الرئيس بين الروائي الحق وناقد السرد الحق، أن الأول لا يسير على نهجٍ، ولا تتحكم في ذهنه ولا في عقله رؤى ونظريات، طليقٌ من الأسر، يعرف ولا يستكين لمعرفته، يعلم ولا يطمئن لمعرفته، وأن الثاني أسير المعرفة، رهين آبائه المنظرين، خاضِعٌ لهم وإن ناقشهم ونقدهم، يتحكم فيه دوما منطقٌ ما، ومعقوليةٌ يتحدد بها.

وعلى ذلك فإن ما يقوله النُقاد لا يجد صدى -في أغلب الأحيان- لدى المبدعين، بل إن النُقَاد لا يخطون نهج كتابة الأدب، وإنما الأدباء هم الأقدرُ والأصلحُ على فتح طُرُق في الكتابة جديدة، لا تُلاقي قبولًا نقديًا في البداية، ثم تتحول هذه الكتابةُ الجديدة المرفوضة في البدء إلى نهجٍ يُقتَدى ويُحتَذى. لقد أردتُ أن تكون المُقَارنةُ بين ما يأتيه المبدع الساردُ -تحديدًا- وما يأتيه ناقد السَرد مدخلاً للخوضِ في الكتابة القصصية أو الكتابة السردية، جوابًا على سؤالٍ بسيطٍ وساذَج ولكن جوابه مُعجِزُ ومُعسِرٌ، وهو ما هي الطريقةُ المُثلى لكتابة روايةٍ؟ ظني ويقيني ألاَ وجود لطريقةٍ مُثلى بها تُكتبُ الرِواية أو تُكتَب القصة، وإنما هنالك كاتبٌ قادرٌ على أن يُوجِد لكل حكايةٍ نهجا وسبيلا وواسطةً بها يقصُ قصَته ويعتقد أنه يأسَر القارئ، وأن مشروعه القصصي أو الروائي نافذٌ إلى القلوب آخذٌ الأهواء والعقول.

نهجُ الكاتبُ وطريقته التي يستنُها ويبتكرها ويرى أنها الأوفقُ والأجدرُ هي التي تتحولُ إلى طريقةٍ مرغوبةٍ في الكتابة السردية، هي التي تتحوَل إلى منوالٍ يدعو النُقَاد إلى اتباعه وانتهاجه، ويتهمون من يخرج عنه بأنه لم يُراعِ أصول القصص وفنون السرد. ما هي فنون السرد في نهاية المطاف؟ هي طرائقُ استعملها الكُتاب القُصَاصُ وتحولت بفِعلِ العادة والتعوُد إلى أُصُول ونماذج تُقتَدَى ويُهتَدى بها. مَن الذي قال أنَ كل جُزئية، وكل إشارة يستعملها الساردُ يجب أن تُستَخدَم في سياق السَرد؟ هل لزامٌ على القاصِ ألا يُجري الفوضى، أن يُمنطق كل شاردة وواردة في كتابته؟ لقد تحدث النُقاد عن مبدئ في السرد تَسَمى ببندُقية تشيخوف، وقِوامُ هذا المبدأ السَردي ألا يذكر الكاتب شيئًا في قصصه دون توظيف واستعمال، بمعنى أنك إن «ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقيةً معلقةً على الحائط، حقًا يجب أن تستعمل البندقية إمَا في الفصل الثاني أو الثالث.

يجب ألاَ تبقى معلقةً هناك إذا لم يجر إطلاقها»، وهذا أدى إلى الدعوة إلى إزالة كل مالا يُحتاجُ إليه في القصة، وكل ما لا يُستَخدم أو يُوظَف. ألا يحقُ لي أن أذكر البندقية أو المُسدس المعلق على الجدار دون أن أستعمله، لو كنت تشيخوف أو مناظِرًا له ومكافِئًا فإن ذلك يجوز.

تستمِدُ هذه «القوانين» القصصية قوة أثرها وتحولها إلى مبادئ في النقد، من منزلة الكاتب وقوة أثره، حتى وإن كانت بسيطة أو سطحية. دائما كنتُ أتساءل، وأنا أدرِس المناهج الواقعية -على سبيل المثال- إلى طلبة النقد، ما هو الفارق الدقيق بين الواقعية الرمزية والواقعية الاشتراكية والواقعية الاجتماعية والواقعية الصرفة؟ هل هنالك معيارُ ذهبٍ يدفعني إلى التصنيف والتعيير، ولمَ علي أن أعيِر وأصنِف؟ أليست كل حكاية في وجه من وجوهها هي تعبير عن واقع ذهني أو نفسي أو اجتماعي؟ لقد انتبهنا في أخَرةٍ من الطوفان في مناهج الدرس السردي الخالية من المباهج إلى أن لذة الحكاية هي لذة تقليدية، قديمة، هي متعة الاندماج في حكايةٍ تأسر القارئ إن كانت حداثية مُعمِلةً فكرًا وفلسفةً ورؤيةً متوخيةً طرُقًا وسُبُلا يجتهد فيها السارد في تلوين حكايته، أو كانت تقليدية متركِزةً على تتالي الأحداث وتعقُدها، ففي نهاية المطاف ما يأخذ القارئ هو الحكاية وكيف تُحكى، والكيفُ يتأتى وفق رؤيةٍ يراها الكاتب لا تعود إلى دقيق اطلاعٍ على طُرُق السرد، وإنما هو أمرٌ مغروسٌ في الطِباع لا تدرِكه العقول والأذهان -على قولِ نُقَادنا القدامى- الذين أن «ميل النُفوس» إلى نص مخصوص لا يُمكن أن تُدركه العقول الناقدة. عودا على بدء، العقل النقدي انحصر في دوره التحليلي التفسيري، ولا سلطةَ له على سنِ نهج في الكتابة، وإنما دوره تفسير ما يبتدعه المبدعون، بقي النقد عيالًا على الإبداع، ولذلك فإن بندقية تشيخوف بقيت معلَقةً قد تُستَعمل وقد تُهمل، واستعمالها أو إهمالها لا يُضفي على القصة قيمةً مضافةً خارج سياق الحكاية، فللكاتب أن يُمهلها أو أن يهملها، و«الرنجة الحمراء»، قد تكون أسلوبًا من جمعِ أساليب، هي أسلوبٌ قائمٌ على المغالطة المنطقية، إذ يعمد الكاتب إلى استعمال إشارة زائفة تؤدي بالقارئ إلى استنتاج زائف، أسلوبٌ من أساليب التضليل، وصرف النظر عن الجهة الأساس، ففقي السرد يُمكن أن يعمد الكاتب إلى تضليل القارئ حتى لا يتيسر له بلوغ المعنى ولا يتسنى له أن يتراخى في قراءة الهدهدة، وإنما يظلُ متيقِظا أبدَ القراءة. فهل كان عبدالرحمن منيف عارفا بأنه في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» بأن بندقية تشيخوف تقتضي منه توظيف كل الأشياء المذكورة في عالم الرواية، وهل كان نجيب محفوظ في ثلاثيته على يقين بأنه لن يترك شيئًا من عالم رواياته للصدفة؟ لو كان الروائي يُفكرُ ويُعقلِنُ عالمه، لما وصلتنا أعمالٌ قاطعة مع السابق، بانيةٌ للأشكال في القصص لم تُزَر من قبلُ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الکتابة

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. هدايا مُدبَّرة!

هدايا مُدبَّرة!

من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي

نشر بتاريخ .. 21 / 9 / 2019

نحن #الآباء طيبون جدّاً، مقاتلون جداً، مسالمون جداً..مثل القطار نمضي كل نهار على سكّة الكدّ،نقطع مسافات العمر بنفس السرعة،نوصل الصاعدين فوقنا إلى حيث يريدون،ممنوع علينا السقوط، ممنوع علينا التوقف، سيقاننا سيقان سنديانة لا يجوز لها الانحناء أو الركوع، علينا أن نظهر أقوياء وان كان يأكلنا الضعف، ندعي الاكتفاء في قمة الفقر، نتحامل على المرض ونمشي،لا نشكو التعب الا نادراً..نفرح كثيراً لو صافح رذاذ الغيم نوافذنا أو علقت زهرة برية بين مفاصلنا من باب الصدفة نعتبر كل ذلك..هدايا مدبّرة.

مقالات ذات صلة مدعوون للامتحان التنافسي / أسماء 2024/09/12

لا يتذكّر #الأولاد – عادة- ذكرى ميلاد الآباء الا قبل انقضاء اليوم بدقائق، يتعثّر أحدهم بالتقويم وهو يرتّب مواعيده للأسبوع فيتذكّر السنين المعتقة تحت جلد الأب.. يصافحه على عجل ويقبّل رأسه، يصبح التذكير بالعدوى لباقي الأشقاء «اليوم عيد ميلاد ابوي» يسابق الثاني دقات الساعة قبل أن ينقضي الليل ويدخل في اليوم التالي وتصبح «المعايدة بايتة» أما الثالث فقد نام مبكّراً ولا يعنيه كثيرا إحصاء الأيام..أما الرابع ما أن خرج من الحمّام حتى كان صاحب العيد يغط في نوم عميق..

الآباء طيبون جداً، في عيد الأم مثلا، تلتئم خلية التفكير في البيت قبل يومين من العيد، يفكرون بنوع الهدية وقيمتها وكيفية تقديمها، يقحم الأب نفسه ويشاركهم ويضع مساهمته الكبرى، هو لا يشعر بنقص أبداً كيف يتذكّرون عيد الأم وينسونه وعيده..هو يبحث عن رحيق الفرح أينما وجد..أن ارتوى منه فتلك نشوة ما بعدها نشوة، وان خاب يكفيه أن تعلق يداه بعبير المحبة فهو فرح أيضاَ..

نحن الآباء طيبون جدا، في العيد نشتري للأولاد ونستثني أنفسنا ولا ننساها، نحتال على حالنا بأسباب التوفير..نقول في حديث السر المهم أن يفرحوا هم،ثم أن أعمارنا عتيقة لا يناسبها الرداء الجديد.. نختار لهم أحزمة لامعة،ونغطّي بطرف القميص على حزامنا المهترىء واسع الثقوب، نصلّح الحذاء عشرات المرّات ونقنع «الاسكافي» انه جديد لكن الطريق وعرة، نوفر أجرة الطريق وندّعي قرب المسافة وكسب اللياقة..

نحن الآباء #طيبون جداً،نحن أطفال بمهنة آباء، يرضينا القليل،ويفرحنا العفوي البسيط…تفرحني مثلاً زهرة ياسمين ذبلت على طاولتي بعد أن وضعها أصغر الأولاد في غيابي..وتفرحني قصاصة مرسوم عليها قلب حبّ لون بتلوين دهني وخرجت الخطوط من القلب لا ادري ان وصلت غرفتي بالصدفة أم عن قصد..ولأنني القطار الذي يفرح كثيراً لو صافح رذاذ الغيم نوافذه أو علقت زهرة برية بين مفاصله من باب الصدفة أعتبر كل ذلك هدايا مدبّرة..وأفرح!

ahmedalzoubi@hotmail.com


#73يوما

#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي

#صحة_احمد_في_خطر

#سجين_الوطن

مقالات مشابهة

  • صدور كتابين حول أشكال السرد القصير والرواية
  • حملات توعوية للحد من الكتابة على الجدران بأبوظبي
  • تفاعل على إهداء بندقية تاريخية تعود ملكيتها لثالث حكام قطر إلى وزير الداخلية السعودي
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. “ويفيقني عليك” 
  • تكريم الفائزين بجوائز «نجوم ديوا»
  • الكاتب الصحفي هشام الهلوتي يهنئ رجل الأعمال أسامة عبدالصمد بزفاف نجله
  • ملتقى الشارقة للسرد يختتم فعاليات الدورة العشرين في تونس
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. هدايا مُدبَّرة!
  • الكتابة في زمن الحرب (42): أطفال السودان بين سندان الحرب وتجاهل المجتمع الدولي
  • في طرابلس.. العثور على جثة رجل والى جانبه بندقية صيد