علي بن سيف الشكيلي:

- عُمان منذ عصور ما قبل التاريخ مركز للتبادل التجاري الممتد من وادي السند إلى البحر الأبيض المتوسط

- مركز الزوار بموقع بسياء وسلوت يتضمن 3 قاعات، خصصت لمقتنيات العصرين البرونزي والحديدي وللمواقع المسجلة في قائمة التراث العالمي في سلطنة عُمان

يشكل التراث الثقافي المادي في سلطنة عُمان الحضارة العُمانية الممتدة عبر آلاف السنيين، التي أتت نتيجة ظهور العديد من الممالك الإنسانية عبر التاريخ البشري حتى وقتنا الحالي، وللاكتشافات الأثرية التي تقوم بها المؤسسات ذات الصلة في سلطنة عُمان منذ فترة ليست بالقصيرة، إذ تعود إلى بدايات النهضة المباركة، فقد كشفت تلك الاكتشافات عن حضارات إنسانية لعُمان أسهمت من خلال وجودها في ازدهار الحضارات الأخرى الإنسانية المجاورة لها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر مواقع بسياء وسلّوت الأثرية، التي بدأت أولى الاستكشافات الأثرية فيها في عام 1973م من قبل بعثة أثرية من جامعة هارفارد الأمريكية.

وبحسب تصريح لجريدة "عُمان" أثناء زيارتها للموقع الأثري أشار علي بن سيف الشكيلي المدير المساعد بدائرة مواقع بسياء وسلّوت الأثرية إلى أنه خلال عامي 1974 ـ 1975م قامت بعثة أثرية بريطانية برئاسة "بياترس دي كاردي" بتكثيف أعمال المسوحات في الموقع، ومع بداية الثمانينيات بدأت أعمال التنقيب بالتعاون مع بعثة أثرية بريطانية من جامعة برمنجهام برئاسة "جيفري وجوسلين أورتشارد"، بينما شهدت الفترة بين 2004 ـ 2019 أعمال الاستكشاف الأثري في سلّوت من قبل بعثة أثرية من جامعة بيزا بجمهورية إيطاليا برئاسة الدكتورة "أليساندرا أفنزيني" نفذت عددًا من أعمال التنقيب والترميم لحصن سلّوت، والعديد من القبور التي تعود إلى العصر البرونزي والتي تقع على جبل سلّوت.

وأضاف في السياق ذاته: "تم التنقيب في برج العصر البرونزي والخنادق المحيطة به، وكشفت تلك الأعمال عن قرية أثرية ومقبرة تعودان للعصر الحديدي، كما تم إجراء دراسات جيولوجية مفصلة بالتعاون مع جامعة ميلان الإيطالية لإعادة تصور المشهد الثقافي القديم، وتطوير أنظمة إدارة المياه في المنطقة، ومنذ عام 2015 تم التعاون مع بعثة أثرية فرنسية لإجراء عمليات التنقيب في البرج الأثري الذي يعود للعصر البرونزي، كما قامت البعثة أيضًا بإعداد خرائط تفصيلية للمواقع الأثرية التي لم يتم التنقيب عنها باستخدام تقنيات متقدمة للتوثيق الرقمي، وتستمر أعمال البحث العلمي من خلال العديد من البعثات والمراكز العلمية والمجتمع المحلي بهدف عرض النتائج المهمة التي تم وسيتم التوصل إليها".

وأشار إلى أن واحة بسياء وسلّوت تقع على طول سهل وادي سيفم بالقرب من ملتقى وادي بهلاء، وقد تغير امتداد وشكل هذه الواحة عدة مرات خلال العصر الهولوسيني على مدى عشرة آلاف سنة الماضية، وقد أظهرت التحليلات العلمية للرواسب الكلسية لكهف الهوتة في ولاية الحمراء أن وادي سيفم كان نهرًا نشطًا في الفترة ما بين 10000 ـ 5000 سنة من الآن، وكانت الواحة أكبر حجمًا من تلك الموجودة في الوقت الراهن.

وأوضح: "كانت الرياح الموسمية ما تزال قادرة على حمل الأمطار الغزيرة بشكل منتظم للمناطق الداخلية من عُمان، كما أن للنباتات الكثيفة ووفرة المياه دور في تحفيز المجموعات السكانية في العصر الحجري الحديث للتجول بانتظام حول الواحة واستغلال مواردها الطبيعية إذ تم العثور في المنطقة على بقايا متناثرة لمخيمات موسمية وأدوات حجرية عائدة إلى هذا العصر".

وبيّن: "منذ حوالي 5 آلاف عام، وتحديدًا في بداية العصر البرونزي بدأت الرياح الموسمية تضعف، الأمر الذي أدى إلى انخفاض توافر المياه بشكل كبير، وبذلك تقلصت الواحة حتى وصلت إلى شكلها الحالي في الفترة ما بين 3000 ـ 2000 سنة من الآن، وأدى انخفاض توفر المياه إلى تحفيز الناس على الاستقرار بشكل مكثف حول الموارد الطبيعية المتبقية، ونشأت بذلك المستوطنات الدائمة الأولى التي استحدثت أنظمة لري الحقول والبساتين".

موارد طبيعية

وأشار مبيّنًا أن الاستيطان البشري نشط مبكرًا في واحة بسياء وسلّوت نتيجة توفر المياه، إذ يعد الماء أهم مورد طبيعي لبقاء الإنسان، والحيوان، والنبات، وقد كان لجريان العديد من الأودية نحو الواحة دور في وفرة المياه، والنباتات، مما أدى إلى جذب مجموعة متنوعة من الحيوانات البرية التي سرعان ما أصبحت فريسة للصيادين في العصر الحجري الحديث، وفي العصر البرونزي الذي بدأ مع نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، أصبحت المنطقة تُزرع بطريقة منتظمة، إذ اكتشف العلماء عن طريق التحليل المختبري للتربة وجود أدلة على التسميد والحراثة في هذه الحقبة الزمنية، كما وفرت التلال المحيطة بالواحة موارد طبيعية أخرى تم استغلالها منذ العصر الحجري الحديث، إذ تحتوي الطبقة السفلى منها على صخور الحجر الجيري، ويتكون من عُقيدات صلبة من صخر الصوّان، استخدمت في صنع الأدوات، ويعد الحجر الجيري مصدرًا طبيعيًا مهمًا لسهولة قطعه وتشكيله، لاستخدامه في أعمال البناء، وقد بُنيت المنازل، والأبراج، والقبور وكذلك حصن سلّوت، بكتل من الحجر الجيري المستخرج من مناطق قريبة من الواحة .. موضحًا: "تنتشر في سلاسل جبال الحجر الصخور الغنية بمعدن النحاس على نطاق واسع، حيث كان يستخرج منها هذا المعدن لإنتاج العديد من الأدوات والأسلحة منذ بداية العصر البرونزي، بالإضافة إلى تصدير سبائك النحاس والمعادن إلى ما وراء البحار، ومنها بلاد ما بين النهرين وإيران ووادي السند".

قبور وأبراج

وتطرق المدير المساعد بدائرة مواقع بسياء وسلّوت الأثرية إلى أن العصر البرونزي في عُمان شهد إدخال العمارة الحجرية الضخمة، إذ تم استحداث طقوس جنائزية جديدة تقوم على بناء قبور جماعية ضخمة في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكانت القبور عبارة عن أبنية ركامية مخروطية الشكل يصل قطرها إلى 4 أمتار ولها جدران دائرية مبنية حول غرفة جنائزية باستخدام بلاطات حجرية محلية، وتبين أنه دفن فيها أكثر من خمسة أفراد جنبًا إلى جنب مع عدد من المرفقات التي تشمل الخرز المصنوع من الحجر، والأدوات النحاسية، وإناء فخاري مميز مستورد من بلاد ما بين النهرين.

وأضاف: "في فترات لاحقة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد أصبحت هذه القبور أكبر حجمًا ليصل قطرها ما بين 5 ـ 15 مترًا، وتحوي غرفتي دفن أو أكثر، وتبنى الجدران الداخلية للقبور من الأحجار المحلية المأخوذة من الموقع نفسه أو من المنطقة المحيطة، أما الجدران الخارجية فكانت تبنى بكتل مربعة ومصقولة من الحجر الجيري الأبيض، والتي يتم زخرفتها في بعض الأحيان، وقد احتوت هذه القبور على بضع عشرات إلى مئات من الأفراد الذين دفنوا على مدى قرون مع الكثير من المرفقات الجنائزية الثمينة، والتي غالبًا ما تضمنت مواد مستوردة، كما شهدت هذه الحقبة ظهور منصات حجرية ضخمة تسمى عادة (الأبراج) يتراوح قطرها ما بين 20 ـ 25 مترًا، ويصل ارتفاعها إلى عدة أمتار، إذ شكلت المساحة الداخلية قاعدة للمباني الخفيفة المبنية فوق البرج، وحفر في وسطها بئر ماء مبطن بالحجارة، وأحيط البرج بخندق عميق في كثير من الأحيان، وهنالك خلاف وجدل حول وظيفة هذه الأبراج، فهنالك من يفسرها على أنها مساكن محصنة للنخبة، أو مبانٍ ذات صلة بنظام الري والزراعة، أو مبانٍ مرتبطة بطقوس دينية".

تبادل تجاري

وأكد أن عُمان كانت منذ عصور ما قبل التاريخ مركزًا لشبكة واسعة من التبادل التجاري النشط الممتد من وادي السند إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن أفغانستان إلى شرق إفريقيا، وقد ورد اسم عُمان في سجلات التاريخ خلال القرون الأخيرة من الألفية الثالثة قبل الميلاد، عندما بدأت النصوص المسمارية السومرية والأكادية تذكر سلسلة من الأراضي وراء البحار تسمى "دلمون"، و"ملوخا"، و"مجان"، وبعد عقود من البحث المكثف، كشفت الدراسات بأن هذه الأراضي الأجنبية كانت البحرين وتعرف آنذاك باسم "دلمون"، ووادي السند "ملوخا"، وعُمان "مجان"، وقد أشارت النصوص المسمارية أيضًا أن مجان كانت المزود الرئيسي لحضارات بلاد ما بين النهرين بمعدن النحاس، وحجر الديورايت، كما أشارت إلى أن قوارب من نوع "مجان" والمصنوعة في بلاد ما بين النهرين والمستخدم في صناعتها حزم القصب المغطاة بمادة القار والتي كانت تستخدم للإبحار في الخليج العربي وبحر عُمان حتى رأس الجنز .. مؤكدًا أن التنقيبات في برج العصر البرونزي "ST1" سلطت الضوء على تنظيم التجارة مع الأماكن البعيدة، والتفاعل الثقافي في هذه الحقبة، ولم يقتصر اكتشاف علماء الآثار على أعداد كبيرة من الأواني الفخارية وخرز العقيق من وادي السند، بل عثروا أيضًا على أدلة استثنائية لإنتاج محلي لأدوات صنعت واستخدمت في سلوت تشبه تلك الموجودة في حضارة وادي السند، ودمى التبركوتا للأطفال، ويعتقد من خلال هذه المعلومات بأن عائلات التجار والحرفيين من وادي السند قد استقرت في سلوت، ومارست التجار مع السكان المحليين بسلام لمدة طويلة.

مركز للزوار

وقال: "إن وزارة التراث والسياحة افتتحت مركز الزوار بموقع بسياء وسلوت في 23 فبراير 2023 إذ يتضمن المركز 3 قاعات، خصصت إحداها لمقتنيات العصر البرونزي أي الألف الثالث قبل الميلاد، والأخرى لمقتنيات العصر الحديدي أي الألفية الثانية قبل الميلاد، وقاعة ثالثة للمواقع المسجلة في قائمة التراث العالمي في سلطنة عمان وتحوي في جزء من أروقتها القائمة التمهيدية للمواقع قيد التسجيل ومنها موقع بسياء وسلوت الأثري والذي نأمل أن يحصل على موافقة الإدراج في قائمة التراث العالمي".

مضيفًا: "إن بعض المقتنيات التي تم العثور عليها في موقع بسياء وسلوت قطع أثرية تنتمي للعصر البرونزي تدلل على وجود ارتباط مع الجبل الأخضر ومنها الصولجان، وبعض المقتنيات التي تدلل على الارتباط مع الحضارة الصينية، وكذلك الحضارة الهندية في العصر الحديدي بالعثور على بعض الأختام للثور الهندي، كما أن بعض النقوش توحي إلى وجود خط تجاري من سمد الشأن إلى الشارقة يرتبط بالحضارات المجاورة له".

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العصر البرونزی الحجر الجیری قبل المیلاد بسیاء وسلوت بعثة أثریة فی سلطنة ع العدید من فی العصر إلى أن

إقرأ أيضاً:

اكتشاف رفات امرأتين من العصر الحجري في جنوب ليبيا تعود إلى 7 آلاف سنة

كشفت دراسة حديثة لتحليل الحمض النووي القديم عن وجود سلالة بشرية فريدة سكنت الصحراء الكبرى قبل آلاف السنين. ونشرت الدراسة في  دورية Nature العلمية المرموقة، لرفات امرأتين من العصر الحجري الحديث الرعوي، عثر عليهما في وادي تخرخوري جنوب غرب ليبيا، وتعودان إلى حوالي 7 آلاف عام مضت. وقد كشفت النتائج عن سلالة بشرية شمال إفريقية قديمة وغير مسبوقة.

على عكس الاعتقاد السائد بأن سكان الصحراء الكبرى ينحدرون من هجرات من إفريقيا جنوب الصحراء خلال فتراتها الرطبة، أظهر تحليل الحمض النووي المستخرج من عظام المرأتين انتماءهما إلى سلالة فريدة. هذه السلالة ترتبط ارتباطا وثيقا بأفراد عُثر على رفاتهم في كهف تافوغالت بالمغرب، ويعود تاريخهم إلى 15 ألف عام، مما يشير إلى استمرارية جينية طويلة الأمد في المنطقة.

أظهرت الدراسة أيضا تدفقا جينيا محدودا من إفريقيا جنوب الصحراء، مما يؤكد أن الصحراء الكبرى ظلت حاجزا جينيا حتى خلال فتراتها الخضراء. كما كشف التحليل عن نسبة ضئيلة من الجينات الشرق أوسطية، مما يدل على انتشار الرعي من خلال تبادل ثقافي وليس هجرات بشرية واسعة النطاق.

وعلق عالم الآثار الإيطالي سافينو دي ليرنيا على الدراسة قائلا: “الصحراء الكبرى لم تكن ممرا لهجرات البشر، لكنها بكل تأكيد كانت ممرا للأفكار والتكنولوجيا”.

مقالات مشابهة

  • ليالي في محبة خالد الفيصل.. معرض يجسد سيرة قائد وشاعر وإداري مبدع
  • كيفية مواجهة الشائعات الإلكترونية في ظل العصر الرقمي
  • ريكيلمي خليفة مارادونا الذي تحدى قواعد العصر
  • بالقاهرة والمحافظات.. مواقيت الصلاة اليوم الأحد 6-4-2025
  • مستوطنون يقتحمون موقعا أثريا ويهاجمون مزارعين شمال رام الله
  • الصحة العالمية تؤكد أن الوضع الإنساني في غزة يتدهور مع استمرار الحصار
  • الصحة العالمية: الوضع الإنساني في غزة يتدهور مع استمرار الحصار
  • قرار تاريخي انتظره المواطنين.. محافظ المنيا يُعلن حظر «البيك أب» ويُطلق منظومة نقل حضارية | صور
  • اكتشاف رفات امرأتين من العصر الحجري في جنوب ليبيا تعود إلى 7 آلاف سنة
  • مصر تعلن عن اكتشافات أثريّة جديدة