درس 1914: السير نوماً نحو حرب شاملة في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT
خلال أزمة الصواريخ الكوبية التي كان فيها العالم على شفير حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في 1962، قيل إن الرئيس الأمريكي جون كينيدي كان دائماً ما يستحضر كتاب باربرا توكمان “مدافع أغسطس” خلال اجتماعات إدارة الأزمة. كان الكتاب صادراً لتوه وذا صدى كبير. تناول الكتاب مقدمات الحرب العالمية الأولى، والشهر الأول فيها تحديداً؛ إذ بدا أن العالم أبعد ما يكون عن مذبحة مروعة استمرت لأربع سنوات، وغيرت العالم معها.
لا يختلف الأمر كثيراً في الشرق الأوسط عما وصفته توكمان عن صراع القوى الأوروبية قبل الحرب العظمى. فيما تعلن جميع الأطراف المنخرطة في التصعيد الإقليمي عن عدم رغبتها في الانخراط في حرب شاملة، إلا أنه لا تخفى رغبتها في الانتقام أو الرد على خصومها لاستعادة الهيبة أو إعادة بناء الردع؛ يعني هذا أن المنطقة في انتـظار الخطوة التصعيدية غير المحسوبة التي قد تودي بها إلى الحرب الشاملة المعلنة. بيد أن الأوضاع في المنطقة قد تجاوزت كل هذه الخطوات، مع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر وكل ما تلاها من اتساع لنطاق المواجهة بين إسرائيل، ومن ورائها الدعم الغربي، وحركة حماس في ساحة غزة، وحزب الله على جانبي الحدود الشمالية، والحوثيين عبر البحر الأحمر، وأخيراً التراشق بالمسيرات والصواريخ بين إيران وإسرائيل للمرة الأولى مند عقود.
وقت كتابة هذه السطور وإعداد هذا الإصدار، ما زالت المنطقة تحبس أنفاسها جراء سلسلة الحوادث التي جرت رحاها بين مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، ثم اغتيال قادة سياسيين وعسكريين لحركة حماس وحزب الله في بيروت وطهران، ضربت هذه الأحداث فرص خفض التصعيد، أو مفاوضات وقف إطلاق النار المتعثرة أصلاً بين حماس وإسرائيل؛ بسبب تعنت الأخيرة ومماطلة حكومة نتنياهو التي تنتظر معرفة هوية ساكن البيت الأبيض الجديد، سواء السيدة هاريس أم السيد ترامب. هنا، تبرز معضلة أخرى من معضلات المنطقة، هي أن مصيرها كثيراً ما تحدد من خارج حدودها. وغالباً ما كان يتقرر في حرب وعدوان.
ربما ينتظر الجميع شرارة لإطلاق الحرب الشاملة، إلا أن الواقع يشير إلى أن المنطقة دخلت فعلاً في حالة حرب غير معلنة، على الأقل إذا عرفنا أن حالة الحرب تعني انعدام فرص الاستقرار والسلم. مثل السير نوماً إلى الحرب العالمية الأولى، ستجد جميع الأطراف المعنية بالصراع متعدد الجبهات أنها مضطرة للتصعيد، وهو ما قد يستدعي فتح جبهات أخرى مكتومة أو أخرى خامدة، وما أكثرها على امتداد المنطقة بين دولها وداخلها. إلا أنها ستكون حرباً بلا معارك كبرى، وبلا استراتيجيات سياسية؛ إذا كان الانتقام وحده ما يحرك دائرة العنف. وإذا كان هناك درس واحد تُعلمنا إياه الحرب الدائرة في قطاع غزة، فهو أن الانتقام لا يمكن أن يشكل استراتيجية ناجعة لخوض الحرب؛ فضلاً عن الانتصار فيها؛ وغالباً ما يؤدي إلى الإخفاق. فحتى لو نجحت إسرائيل في انتقامها من قادة حماس، بالاغتيال، وسكان قطاع غزة المدنيين بالقتل والتشريد والتهجير، فقد أخفقت نهائياً في تحقيق هدفها بالاندماج في المنطقة للأبد. لا انتصار حاسم أو نهائي لأحد في حالة حرب الجميع ضد الجميع. يذكر الاستراتيجي الأمريكي إدوارد لوتواك، أن أية استراتيجية ينبغي أن تبدأ بفهم العدو، والإحاطة بدوافعه، وتنتهي بإدراك أن القوة العسكرية مهما عظمت، فهي قاصرة عن ضمان “الانتصار النهائي” أو “الحل النهائي” أو “الحسم التاريخي”.
تبدو المعضلة التي تحكم مستقبل المنطقة هو أنها تاريخها قد تشكل على مدار القرون الخمسة الماضية من خلال حروب إقليمية، بعضها كان امتداداً لحروب أكبر من خارج حدودها، كتلك التي شكلت المنطقة في أعقاب انهيار الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. ولننظر بهذا المنطق إلى إعادة تشكيل المنطقة في أعقاب حروب 1967 ثم حرب الخليج الثانية في 1991 وغزو العراق في 2003. لقد عكست هذه الحروب مزيجاً من سوء تقدير بعض الفاعلين، والتأثير المدمر للتدخل الغربي في المنطقة. وفي واقع الحال، لا يختلف الشرق الأوسط في تأثير الحرب في تكوينه عن أية منطقة أخرى في العالم. إلا أن الحرب، كقوة طبيعية، قد تكون لها آثار إيجابية في إرساء التوازن، بقدر ما تولد من آثار تدميرية. ويرتبط تعظيم الآثار البناءة للصراعات في إدراك القوى المتحاربة بعدم جدوى العنف في تحقيق الأمن؛ ومن ثم سعيها لإعادة صياغة العلاقات على أساس الأمن المتبادل في أحسن الأحوال، أو إيجاد قواعد للتنافس في أسوئها.
لا يعني هذا أن الحرب في المنطقة حتمية، إلا أنها أصبحت، كما هي دائماً، واقعاً مريراً على الجميع التعامل معه. تقول الحكمة الرومانية: “إذا أردت السلام، فأعد العدة للحرب” ولا يعني هذا بالضرورة خوض الحرب؛ بل تهيئة المجتمعات الأكثر تأثراً بالصراعات لأوضاع أصعب، وتقليل المخاطر، وربما السعي لتجنب اتساع دوائر الصراع، أو احتوائه بأقل تكلفة. والأهم اتجاه القوى الإقليمية الراغبة فعلاً في إقرار السلام في المنطقة لمعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار في المنطقة. سيكون الاعتراف بهذا الواقع أفضل بكثير من التعامل مع الأزمة المزمنة على أنها مجرد “تصعيد”، وأفضل من السير نوماً نحو الهاوية.
لم يعد الحديث عن “اليوم التالي” متعلقاً فقط بشأن قطاع غزة وحده، بل بالمنطقة ككل. وربما لا أحد حالياً مشغول بهذا التساؤل في هذه المرحلة الأكثر تدهوراً في تاريخ النظام الأمني في الشرق الأوسط منذ تكوينه؛ لذا، سيكون علينا التفكير فيما ستفضي إليه المواجهات الحالية، وما إذا كانت ستفضي إلى استقرار مهدد؛ على نحو ما أفضت إليه مذابح الحرب العالمية الأولى في صلح باريس، الذي كان تمهيداً لحرب عالمية أخرى أكثر ترويعاً، أم أنها ستفضي فعلاً إلى إقرار بنية أمنية جديدة تتوافق عليها جميع الأطراف، وتجعل مصير المنطقة بيد قواها.
من المؤكد أن النظر في الدروس التاريخية، سواء المستقاة من تاريخ المنطقة أم من خارجها، سيعين كثيراً على رؤية ما قد تفضي إليه مساراتها المستقبلية. إلا أن التعلم منها أضحى موضع شك، مع تكرار أخطاء الماضي، والتمادي فيها من قبل الجميع. وحتماً، ستتزايد التكلفة البشرية لهذه الأخطاء خاصة مع الإفراط في توظيف ما تجود به التقنيات الرقيمة من أدوات للقتل والتدمير. بيد أن التجارب التاريخية بقدر ما تحوي من قواعد حديدية أقرب إلى الحتمية، إلا أنها تطرح مسارات كان من الممكن اتخاذها إذا ما توفرت الرؤى الثاقبة لدى متخذي القرار، أو تجاوزوا عقد الطموح السياسي، والتطرف القومي، وغطرسة القوة، ومجرد الرغبة في الانتقام. سيكون إدراك هذا مكلفاً، لكنه حتمي لتجنب المنطقة لمستقبل لا يختلف عما يقع حالياً في حاضرها.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
ترامب.. هل يُنهي حروب الشرق الأوسط؟
فاز ترامب بالانتخابات الأمريكية واكتسح كل الولايات المتأرجحة، والتي عادة ما تقرر هوية الفائز، وتسبب عدد من العوامل الموضوعية فـي هزيمة مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس لعل من أهمها سياسة الرئيس الأمريكي بايدن السلبية تجاه الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني فـي قطاع غزة، رغم المظاهرات الشعبية الأمريكية خاصة بين طلبة الجامعات، كما أن انسحاب بايدن المتأخر نسبيا من سباق الانتخابات لم يعط هاريس وقتًا أطول فـي إطار الحملات الانتخابية، كما أن أصوات العرب والمسلمين فـي ولاية ميتشجين ذهبت للمرشح ترامب ومرشحة حزب الخضر. كانت هزيمة مدوية للحزب الديمقراطي على صعيد البيت الأبيض والكونجرس حيث هيمن الجمهوريون على مفاصل الدولة الأمريكية، ومن هنا يبرز سؤال مهم بعد فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية الجديد، وهو: هل ينفذ ترامب وعوده الانتخابية والتي من أهمها إنهاء الحروب والصراعات فـي الشرق الأوسط وأيضا إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية؟ هذه تساؤلات لرجل كان فـي البيت الأبيض لأربع سنوات سابقة وأيضا كان الملف الاقتصادي هو من أهم الملفات التي رجحت كفته فـي الانتخابات الأمريكية. الوعود الانتخابية شيء والتطبيق على أرض الواقع شيء آخر، ومع ذلك فإن هناك تفاؤلا بأن ترامب قد يرى من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا واستراتيجيا هو وقف الحروب والتفرغ للاقتصاد والتنمية فـي الدول النامية، وإنهاء العداء مع إيران وإقامة الدولة الفلسطينية وهذا يعني انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي وتدخل منطقة الشرق الأوسط فـي إطار السلام الشامل والعادل. إن مهمة ترامب فـي البيت الأبيض هي المهمة الأخيرة للأربع سنوات القادمة، وهو هنا بعيد عن أي ضغوط داخلية أو خارجية، فرصة كبيرة ليدخل التاريخ الأمريكي والعالمي لأول رئيس أمريكي استطاع إنهاء الصراعات والعداء التاريخي بين العرب والكيان الإسرائيلي، كما أن ترامب وهو يأتي من خلفـية اقتصادية أن الحروب والصراعات تستنزف الميزانية الأمريكية، حيث إن الغزو العسكري الأمريكي على أفغانستان والعراق كلف الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من خمسة تريليونات دولار.. ترامب دوما يردد الخطأ الفادح الذي ارتكبه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، وعلى ضوء ذلك فإن إنهاء الحروب فـي الشرق الأوسط سوف يعزز من الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ويشهد العالم نموا وازدهارا اقتصاديا وتجاريا وتعاونا أكبر لصالح الشعوب. إن تاريخ العشرين من يناير ٢٠٢٥ سوف يكون محل ترقب العالم حول سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترامب، هل يوفر المناخ السياسي الأمريكي الفرصة الذهبية لترامب لتحقيق وعوده الانتخابية أم تنقلب تلك الوعود إلى مزيد من الانغماس خاصة فـي فلسطين ولبنان من خلال سياسة الغطرسة لرئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو وحكومته المتطرفة؟ هذه تساؤلات لا يمكن الجزم بها إلا بعد تسلم ترامب السلطة فـي العشرين من شهر يناير القادم. هناك عامل مهم سوف يساعد ترامب إذا كانت لديه الإرادة السياسية لتنفـيذ أهداف حملته الانتخابية وهو أن حزبه الجمهوري يسيطر بالأغلبية على السلطة التشريعية وهي الكونجرس بغرفتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وهذه ميزة حيوية لأي رئيس أمريكي من خلال عدم وجود عقبات تشريعية لتمرير سياسات الرئيس الأمريكي. ومن هنا فإن العوامل الموضوعية لتنفـيذ وعود ترامب فـيما يخص إنهاء الحروب والصراعات فـي منطقة الشرق الأوسط والحرب الروسية الأوكرانية متوفرة، وهناك عامل مهم وهو أن الصراع الاقتصادي تحديدا مع الصين يحتاج إلى تفرغ الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا للعملاق الصيني الذي لا يدخل طرفا فـي أية حروب، وقد ينجح قريبا فـي الإطاحة بالولايات المتحدة الأمريكية من عرش الاقتصاد العالمي، وهذه مسألة فـي غاية الأهمية لرجل ذي خلفـية اقتصادية، وسوف يحلل الأمور الاستراتيجية من خلال فريقه الجديد فـي البيت الأبيض من خلال بحث عدد من الملفات المعقدة التي فشلت إدارة بايدن فـي إيجاد حلول لها، ومنها العدوان الإسرائيلي الهمجي على الشعب الفلسطيني وأيضا ضد الشعب اللبناني، وقد تكبدت الخزينة الأمريكية مليارات الدولارات من دافع الضرائب الأمريكي، وهناك أصوات فـي الولايات المتحدة الأمريكية تنادي بوقف الدعم اللامحدود للكيان الإسرائيلي على حساب الشعب الأمريكي. إن فترة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب تعد مفصلية فـي البيت الأبيض وكما أن هناك عوامل موضوعية لتنفـيذ وعود ترامب الانتخابية فإن هناك مؤشرات لتخلي ترامب عن وعوده وهذا سوف يسبب إحباطا لملايين الناخبين وأيضا للملايين من الشعوب فـي المنطقة الذين يتطلعون إلى إقرار السلام الشامل والعادل وإنهاء الحروب والصراعات، التي أنهكت الشعوب ومقدراتها وكرست الكراهية. ويظل السؤال قائما: هل ينتهز ترامب تلك الفرصة الذهبية ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه فـي ظل فرصته الأخيرة فـي البيت الأبيض أم يدخل فـي إطار الإشكالات السياسية ومزاج السياسيين وجماعات الضغط الصهيونية داخل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي خاصة حكومة نتنياهو المتطرفة؟ |