يبحث البشر في هذه الرحلة الصحراوية القاحلة عن بقعة الضوء والحياة، التي يمكن لها أن تسمى كذلك. وفي الرحلة الطويلة هذه -كأي رحلة أخرى- يشاهد المرء ويجرب صنوفا من الرؤى واللذات والآلام، المطر والجفاف، الجوع والشبع، والوَجْدِ والفقد. يجد بعضهم ملاذه في التجوال، وآخرون في التأمل والسكون والاعتزال، وآخرون في المحادثة واللقاء والاتصال؛ بينما تجد ثلة من البشر ملاذها في الكتب والقراءة وإجالة النظر في آثار المتقدمين والمتأخرين.
تنقسم هذه الفئة الأخيرة إلى فئتين؛ فئة تلازم الكتب السماوية التي تؤمن بها وتزهد ما سواها، وفئة تجمع بين الكتب السماوية والكتب البشرية وتأخذ من كل منهما حكمة وشعلة وضوءًا تعبر به قفار الوحشة الجارحة لهذه الرحلة الطويلة. تمنحنا الكتب السماوية الطمأنينة الإلهية والسكينة الروحية التي تحمينا من المطر الهاوي بشدة. وتمنحنا الكتب البشرية وصفات التعامل مع المرارة والألم أكثر مما تمنحنا إياه حال السعادة والرضا؛ فالبشر ميَّالون بطبعهم إلى اجتناب الآلام وعلاجها ومواجهتها، فيبحثون عن التجارب المشابهة لما يشعرون ويفكرون ويمرون به، أكان شعرا أم نثرا. وعلى النقيض؛ فلا تمثل السعادة شيئا ينبغي التعرف على كيفية التعامل معه أو محاولة فهمه، فنحن نريد أن نشعر بالسعادة فحسب وهذا ما يهمنا.
كان الشعر، القرآن البشري لأسلافنا العرب، أي ذلك المأثور الذي يلهجون به عند كل نازلة ومصيبة وحادث جلل. وقبل أن تظهر مدارس النقد ومناهج الطُّرق الشعرية والفنية والفكرية؛ كانت التجربة البشرية الصادقة هي ما تحفظ النص وتواريه عن لصوص الفناء «النسيان والاندثار». ولأن العرب أمة جعلت الشعر في مرتبة أعلى من النثر، وذلك لسهولة حفظه واستحضاره لاشتماله على النغمات الصوتية الموسيقية؛ كان للشعر النصيب الأوفر من الحفظ والبقاء والخلود.
ومع تقدم الزمان، وتطور النشر والترجمة والتحقيق؛ ظلت التجارب الصادقة تعرف طريقها وتحفره بتؤدة واستمرار نحو القلوب العطشى لتلك التجارب؛ أكانت بلغتنا الأصلية أم مترجمة. ولم تعد المكانة الزمنية للنص هي الحاكم في بقائه أو اندثاره؛ إنما الصدق والشعور المفعم الفيَّاض بالحياة والألم على السواء. ولأنني أميل إلى الكتب العربية الأصيلة أكثر من المترجمة؛ أجدني ومن هم على شاكلتي نردد مرثية مالك بن الريب ونشعر بها وقد نبكي على إثرها. وكأن تلك القصيدة كتبت لكل إنسان حي يستشعر دنو أجله واقتراب الرحلة من نهايتها. ونتذكر أبيات زهير بن أبي سلمى من معلقته:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش
ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
ونقرأها إلى آخرها، فنجدها مليئة بالحكمة الصافية التي انتزعها صاحبها من مرارة الأيام ومكابدة الشقاء. ونجد الناس تتمثل بهذه الأبيات أكان تمثلا أدبيا صحيحا، أي باقتباسها اقتباسا، أم تمثلا معنويا باختلاف طفيف.
ظلت الكتب التي تعالج الجانب النفسي الشعوري للناس حاضرة. فكتاب ابن حزم الأندلسي «طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف» لا نظير له في معرفة الحب وفهم أحواله المبهجة والمؤلمة على السواء. ورسالة يعقوب بن إسحاق الكندي «في الحيلة لدفع الأحزان» المنسية مع شهرتها، وكتاب «تهذيب الأخلاق» لمسكويه؛ تعالج الجانب المظلم للنفس البشرية، وتقربنا من فهم أنفسنا وتفكيك مصادر الألم وردمها، وإحياء موارد البهجة والرضا وسقيها.
الكتب الملاذ، هي الكتب التي نجد فيها انعكاس أرواحنا، ومورد الرَّواءِ لظمئنا، والصديق الأقرب إلينا كما هو حال الجاحظ الذي وصف هذه الكتب بأعذب عبارة، وأصدق إشارة حين يقول في كتابه «المحاسن والأضداد»: «الكتابُ هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغْريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والمستميح الذي لا يَسْتِريثُك، والجار الذي لا يَستبْطِيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمَكْر، ولا يَخْدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب... والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمْتاعك، وشحذ طِباعك، وبسط لسانك، وفخّم ألفاظك، وعمَّر صدرك، ومنحك تعظيم العوامِّ وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرْم، ومن كدّ الطلب، ومن الوقوف بباب المُكتَسِب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خُلُقا، وأكرم منه عِرْقا، ومع السلامة من مُجالسة البُغَضاء ومُقارنة الأغبياء... والكتاب هو الذي يُطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويُطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يَعتلّ بنوم، ولا يَعتريه كَلال السهر... وهو المعلّم الذي إن افتقرت إليه لم يُخْفِرْك، وإن قطعت عنه المادّة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عُزِلْتَ لم يَدَعْ طاعتك، وإن هبّت ريح أَعاديك لم يَنقلب عليك، ومتى كنتَ منه متعلّقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل، كان لك فيه غِنىً من غيره، ولم تَضْطَرَّك معه وَحْشةُ الوَحْدةِ إلى جليس السُّوء... ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلّا منعُه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة بك، مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخَوْض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صِغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرّديّة، وجهالاتهم المذْمومة، لكان في ذلك السلامةُ، ثم الغنيمةُ، وإحرازُ الأصل، مع استفادة الفرع».
وأحسب أن وصفه هذا، للكتب الملاذ أولا قبل سائر الكتب. الكتب التي نجد فيها الهدوء لطمأنينتنا القلقة، والدفئ الوافر لبرودة الخارج القارسة، والبستان النَّضِر الخالي من هوامِّ الصيف ودوابِّه المؤذية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذی لا ی
إقرأ أيضاً:
كوريا الجنوبية ترسل الصندوق الأسود للطائرة المنكوبة إلى واشنطن
أعلنت حكومة كوريا الجنوبية، اليوم، أنها سترسل مسجل بيانات الرحلة الخاص بطائرة "جيجو إير" المنكوبة إلى الولايات المتحدة لتحليله وكشف ملابسات الحادث.
ونقلت وكالة "يونهاب" للأنباء عن وزارة النقل الكورية، أن الجدول الزمني الدقيق لنقل مسجل الرحلة (الصندوق الأسود) سيتم تحديده بالتشاور مع المجلس الوطني الأميركي لسلامة النقل.
وقد تعرض "الصندوق الأسود" الذي تم انتشاله في وقت سابق من حطام الطائرة المنكوبة في مطار موان الدولي لبعض الأضرار الخارجية، وفقاً للتقارير.
ومع ذلك، قالت الوزارة في وقت سابق إن السلطات قد انتهت من استخراج البيانات من مسجل صوت قمرة القيادة، الذي وجد في حالة أفضل نسبياً، وبدأت في تحويله إلى ملفات صوتية.
وكانت الطائرة المنكوبة قد هبطت في المطار دون عجلات أو معدات الهبوط يوم الأحد الماضي، وانفجرت بعد عجزها عن التوقف واصطدامها بسرعة عالية بهيكل خرساني، مما أدى إلى مصرع 179 شخصاً من أصل 181 راكباً كانوا على متنها.
المصدر: وام