الحديث عن مطرح لا تكفيه هذه المساحة من الكتابة، لذلك سأتجاوز كثيرا من التفاصيل، وأرحّل بعضها لموضع آخر.. والحديث هنا يقع بين أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات.. فمطرح الولاية، يتطلب تناولها حديثا عن مدينة مطرح، إلى ريام وإلى دارسيت وروي والوادي الكبير وغيرها في ما عرف بـ (مطرح الكبرى). أما عن مطرح العتيقة فلعل سوقها التاريخي بحد ذاته حكاية عميقة، لذلك سأفرد له مساحة خاصة.
قربتني مطرح من البحر، وخلعت على لساني مفردات غير مفردات الصحراء والواحات، لأتعلم منها أن العالم أرحب مما كنت أتوقع، وأن ثقافته أغزر وأعقد مما استوعبه عقلي ومداركي، ولأتعلم منها أننا يمكن أن نعشق مدينتين، ونعدل بينهما، ويمكن أن تشكل هاتان المدينتان حالة عشقية لوطن واحد.
عشقتها رغم أنها لم تكن حبي الأول.. (زمنيا على الأقل) فقد سبقتها المضيبي، قريتي ومدينتي، التي كانت أول مكان حفظته ذاكرتي، وعرفت منها معنى الانتماء لوطن داخل الوطن.. أحب ذاكرة المدن.. تفاصيلها وأجزاءها، أحبها بكبائرها وصغائرها.. فهي أجمل النساء وأشد الرجال. ولأن المدن حالة جمعية، فهي كائن يستحق، بل وينبغي أن نحبه بشكل جمعي، فهذا جزء من حقها علينا.. المدن هي المحبوب الذي نهوى رؤيته بوجهين. فللمدن وجهان كقطعة القماش، وخاصة تلك العريقة، التي تملك ذاكرة عظيمة، وهوية يندر أن تشابه غيرها.. وفي قطعة القماش تلك نُظهر للآخرين الوجه الخارجي، وسيبقى الوجه الآخر ملاصقا لأجسادنا.. تلك هي الحالة الطبيعة.. أما الاستثناء أن نحب كذلك الوجه الآخر له، لدرجة التفضيل أحيانا، وقد نرى فيه أيضا وجها يستحق أن يراه الآخرون.. نعم، نحب دفء الأشياء التي تلتصق بأجسادنا.
مطرح هي تلك المدينة التي أحبها أهلها وعابروها بوجهيها.. وفي طفولتي المطرحية احتجت إلى إجابات على أسئلة كثيرة فأتاني بعضها بعد عشرات السنين، فالسؤال الذي يلح عليك لا تلغيه ذاكرتك حتى تجد إجابته مهما طال الوقت.
ليس لهذه المدينة بداية ونهاية. فهي ليست من المدن المستحدثة، التي تُرسم بخطوط مستقيمة على طاولة مكاتب الاستشارات الهندسية.. أحب المدن التراكمية، التي لا يعرف أحد متى ولدت وتكونت وكبرت ككائن حي، حتى فرضت شخصيتها بهويتها، وثقافتها، وألوانها، وروائحها.. مطرح تبسط يدا للبحر وأخرى لما وراء جبالها، ورغم ضيق جغرافيتها إلا أنها تملك استعدادا مذهلا لاستيعاب كل الناس، وكل اللغات، والقوميات والثقافات، والأديان، والمذاهب.. إنها تتركب من كل ذلك.. (مطرح) على وزن (مسرح)، وعلى وزن توأمها وشقيقتها التي تشبهها كثيرا (مسقط).. إنه ليس وزنا لغويا فحسب، بل هو وزن حياة. هي مسرح كبير، كواليسه بين فراغات جبالها وفضاءات شعابها، التي لطالما شكلت ستارا عملاقا لا يتزحزح، لا يسدل ولا يرفع إلا بهزات كبيرة. ذلك المسرح الذي إذا أردت متابعة عروضه يجب أن تتخذ كراسي من خيال على صفحة بحرها، فمنها تستطيع مشاهدة المكونات العامة من الديكور والإضاءة والسينوغرافيا المتقنة.. ولكن ولمزيد من المتعة فلا بد أن تكون مشاركا في العرض، وأحد شخوصه لتكتمل لديك قصة ليست من نسج الخيال وإنما تقاربه. فأجمل القصص هي تلك التي تتأرجح بنا بين الحقيقة والخيال، ونخشى الوقوع في أحدهما.
البحر لصيق بها، إلا أنها تكاد لا تعرف السواحل والشواطئ الرملية لأنها لا تعرف الفواصل، إنها تجيد الخطاب المباشر. مدينة كبيرة نسبيا، تفرعاتها كثيرة. حاراتها التي تحيط بالسوق، تعيش في كنف تلك الجبال السود، التي تكاد تنطق من شدة صمتها! وكأنها كائنات خرافية أسطورية عملاقة تتوج رؤوسها أبراج تناغم قلعتها، تحكي قلق أو أمجاد الحقب التي مرت بها.. تنظر للبحر وخلف ظهرها صحارٍ ومجاهل ووديان وواحات، يأتي بأخبارها الركبان الذين تصل قوافلهم وقد نال منهم التعب والنصب.
هي البندر الذي يحلم الناس بالعيش فيه، وهي مقصد التجار، وأولئك الذين يبحثون عن فرصة للعمل، مثل والدي الذي انتقل إليها عندما كنت لا أزال وحيده الذي لا ينافسني على حبه إخوة ولا أخوات، بعدما جرب الغربة كغيره، فأخذته السفن الشراعية ثم البخارية إلى بلاد قصية، في سبيل امتلاك القليل من قروش ماريا تريزا والبيسة السودا أو البرغشية أو الروبيات الهندية.
على مشارف سبعينيات القرن العشرين، مطرح تئن من وطأة العزلة التي طال أمدها...فالمدن أيضا تصيبها الشيخوخة، فتبدو على وجهها التجاعيد، وتصاب مفاصلها بالروماتيزم ويبدأ شعرها في التساقط، ولا تقوى ركبها على حملها. ولكن وإن فقدت شيئا من حواسها، تظل حاسة البصر متوقدة، فعينها كعين الإنسان الذي تزداد حدقته اتساعا كلما دخل في الظلام أكثر. والبلاد لا زالت تسمى سلطنة (مسقط) و(عُمان). وبما أن بوادر التغيير تلوح في الأفق فقريبا ستصبح كلها (عُمان).
وعندما يحدث انفراج السبعين سيتغير كل شيء، كل شيء، ستصبح الوجوه أكثر بشاشة، وسنتعلم الأناقة من الرمز والمعلم الذي يقود الأمة ويستنهضنا للنهضة، لتزيد الشوارع طولا وجمالا، وتكثر المدارس والطلبة، وتتنوع تخصصات المستشفيات، وتكبر الأسواق وتكثر الأعمال والوظائف، وسيملك الناس سيارات تملأ الشوارع، ومساكن خاصة بها كهرباء وماء وهواتف، وستصبح لدينا ملاعب وبطولات رياضية، وسنسمع الإذاعة ونشاهد التلفزيون ونقرأ الصحافة، وسنجرب السفر فوق السحاب. وعلى ربوة في مطرح الكبرى سيظهر مبنى أبيض كبير اسمه (مجمع الوزارات) تُدار منه معظم الخدمات. وغير ذلك الكثير مما نعرفه جميعا.
أما بحرها فسوف يطرز بالكورنيش، ويقابله الميناء، ومشهد الرافعات والصوامع، وسترسو سفن وبوارج أكبر، وسنسمع صافراتها القادمة والمودعة أكثر وأكثر.. ما زلت أتذكر السفينة المكتبة، التي رست في ميناء قابوس بمطرح، وكم كنت محظوظا بزيارتها، ومدى الدهشة التي اجتاحتني. الدهشة من الكم الهائل للكتب وأحجامها وألوانها وهي تملأ عدة طوابق داخل السفينة. وقتها ذهب خيالي الطفولي إلى عوالم أفترضها لعالم السفن والبحار، وكيف لبناء بهذه الضخامة أن يعوم في الماء! قد لا تكون من السفن العملاقة، ولكن هكذا رأيتها، على الأقل مقارنة بالسفن الخشبية التقليدية. وربما تخيلت أن هذه الكتب يتم إنتاجها داخل السفينة، وأن مؤلفيها هم بعض هؤلاء القوم الذين يبيعون لنا الكتب. معظمها باللغة الإنجليزية وربما لغات أخرى لا أعرفها، وندرة منها بالعربية، لذلك يبدو أنني اكتفيت ببعض كراسات الرسم، أو القصص المصورة.. هل كانت سفينة تهدف إلى نشر الوعي والثقافة؟ أم تحمل أجندات تبشيرية أو سياسية؟ لست أدري، فمداركي متواضعة جدا بحكم سني. ولكن لا أستبعد شيئا من ذلك. فقد أنشأوا في بلادنا مستشفيات تبشيرية بزعم مكافحة الأمراض كمستشفى طومس، الذي توقفت مراوحه عن الدوران، واختفت تدريجيا رغم جمالها الذي كانت تضفيه على معالم المدينة.. والتهم الحريق الكبير خيام (الشجيعية) ليحل محله مبنى كبير لمواقف السيارات والمحلات الحديثة، ولكن أخفقت الجهة المسؤولة عنه لاحقا في إدارته.. ولن يعود التانكي (خزان ماء كبير عالي الارتفاع) عند لولوّة والزبادية وجيدان العلامة الأبرز التي يُستدل بها على مفارق الطرق. بينما ستبقى مطاحن الرحبيين مكانها، تعبق منها روائح البن والحبوب والبهارات.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أستاذ إحصاء: معدلات الزيادة السكانية تتناقص.. ولكن عدد المواليد ما زال مرتفعًا
أكد الدكتور حسين عبد العزيز، أستاذ الإحصاء بجامعة القاهرة، أن مصر لا تزال تشهد زيادة سكانية، لكنها تتم بمعدلات متناقصة مقارنة بالسنوات السابقة، مشيرًا إلى أن الدولة بحاجة إلى تسريع هذا التناقص لتحقيق التوازن الديموغرافي المطلوب.
وأضاف خلال مداخلة هاتفية ببرنامج «صباح البلد»، مع رشا مجدي وعبيدة أمير على قناة صدى البلد، أن مصر سجلت زيادة بنصف مليون نسمة خلال 154 يومًا، وهو معدل أبطأ من السابق، حيث استغرقت الزيادة المليونية الأخيرة 308 أيام، مقارنة بـ268 يومًا في السابق.
وتابع أن معدلات الزيادة تتناقص، إلا أن عدد المواليد ما زال مرتفعًا؛ فقد تم تسجيل نحو 768 ألف مولود خلال نفس الفترة، وهو الرقم الذي تبني عليه الدولة خططها المستقبلية في قطاعات التعليم والصحة والخدمات.
وعقب: “معدل الإنجاب الكلي للسيدات في مصر تراجع من 3.5 طفل لكل سيدة في 2014 إلى 2.4 طفل في 2024، مما يدل على تحسن نسبي في وعي المجتمع بقضية الزيادة السكانية، وتحقيق التوازن السكاني والوصول إلى معدل زيادة صفر قد يستغرق حوالي 40 عامًا إذا استمرت معدلات التراجع الحالية، لذلك يجب تكثيف الجهود لخلق مجتمع أكثر إنتاجية واستدامة".