الوعي والأمل والطموح في معنى التغييرات الجذرية
تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT
التغيير حين يحدث، يبدأ أولا تحت الجلد، أحيانا تبدو الأمور على السطح هادئة وطبيعية إلى أقصى درجة، وتظهر الشعوب خاملة وكأنها جثث تنتظر الجوارح كي تنهشها، إلا أنه في حقيقة الأمر لا شيء ثابت، الحركة الدائمة هي سيدة الحقائق، واكبر حقيقة اليوم هي الحركة الشعبية التي تحركها شعبنا اليمني العظيم في ثورته وصموده وتحديه ومواجهته لدول العدوان والحصار، والخروج الشعبي المليوني لدعم ومساندة غزة، أغلب الناس لا يلاحظون هذه الحركة رغم حدوثها، لكنهم سوف يتفاجأون بالتغيير الحر ويتعجبون كيف حدث، لأنه تغيير كان يعتمل في الداخل، رغم كل الكوابح والمعوقات الظاهرة، لهذا وعلى ضوء مفهومية ” التغييرات الجذرية” التي أطلقها السيد القائد، علينا أن ندرك أن هناك أناساً سوف تبدأ بإطلاق مشاعر الأمل في المستقبل، وأيضا هناك ناس سوف تبدأ بإطلاق الخوف من المستقبل، وهذه المشاعر وأن اختلفت سوف تسبب لجميع الناس القلق، والقلق يخلق الاستعداد لتقبل الإيحاءات، وخاصة تلك الإيحاءات المغلوطة والمضللة التي يرسلها ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي حول أن التغيير الجذري مهمته عزل فلان وتعيين علان، وهنا سوف يبدأ الناس بتصديق أي حاجة.
لذلك باعتقادي الشخصي، إن مفهوم التغييرات الجذرية التي تحدث عنها السيد القائد لا تعني بأي حال من الأحوال أن التغيير يعني تغيير الأشخاص أو الأفراد أو تعيين فلان بدل علان – وان كان ذلك مطلوب نوعا ما – ولكن التغييرات الجذرية التي فهمتها تعني أنه بعد بحوث ودراسات وتجارب ونقاشات وجهد جهيد تم الوصول – علميا وعمليا – إلى المستوى الأعلى والأرقى في فهم الأساليب ومعرفة الطرق والأدوات الانجع والأنجح والأفضل التي تحقق الجودة الأعلى في أداء وسلوك وعمل وخدمة القيادة والإدارة للوظيفة العامة في مؤسسات الدولة، وزيادة الإنتاج في كل شيء إيجابي، والابتعاد عن كل شيء سلبي، وتحسين الدخل العام، وتوفير الخدمات العامة، وإحقاق الحقوق، ودفع الناس لأداء واجباتهم، والإدراك والالتزام التام بمعايير السلوك والقيم العليا وعلى رأس ذلك النزاهة في العمل والكفاءة في التعيين، وتفعيل قيم المعرفة الدينية والأخلاقية والشعبية والقانونية في ممارسات وتصرفات موظفي الدولة التي تؤلف قلوب الناس لاحترام الدولة والقانون ومؤسساتهم وموظفيهم..
وحتى نفهم أكثر، علينا أن نعترف انه ربما قد يبدو للوهلة الأولى عند بعض اليائسين والخائفين من المستقبل، أن الحالمين في التغييرات الجذرية في ظل الظروف الصعبة الناتجة عن الحرب والعدوان والحصار مجرد مجانين، وفي أحسن الأحوال مجموعة من المنظرين الذين لا يفهمون ما يحدث على أرض الواقع، لكن في الحقيقة هذه نظرة عجلى وسطحية بالأساس، وإذا أردنا أن نعرف لماذا، فعلينا أن نأخذ رأي الجهة الأخرى، رأي اليائسين الذين يرون أنه لا فائدة مرجوة من التغييرات الجذرية، ولا يوجد أي أمل في حدوث أي تغيير مهما حاولنا، فماذا يقدم هؤلاء بهذه الواقعية الرثّة التي يتحدثون بها.. ؟ ماذا يفعلون برصدهم لواقع اليأس وإعلان صعوبته وعدم القدرة على تجاوزه ولو بعد ألف عام..؟ هؤلاء أشبه بتجلط الدم، يعيقون حركة المسيرة والدولة والمجتمع في الوقت الذي يعتقدون أنهم أكثر أبناءه وعيا، لأن تصورهم مجرد رصد للواقع، حتى وإن كان رصدا مصيبا، إلا أنه لن يغير من الأمر شيئا إذا توفرت الإرادة والعزيمة والتوكل على الله..
أما إذا انتقلنا إلى جهة الحالمين الممتلئين بالأمل في المستقبل، ولا أقصد بالحالمين المنظرين الذين ينفصلون عن الواقع تماما، ولكن أقصد بالحالمين هنا من يعرفون حقيقة الأمر على أرض الواقع لكنهم لا يستسلمون للوضع القائم، ويأملون في التغيير ويسعون نحوه دائما، وإذا ضربهم إحباط المحبطين ويأس اليائسين وخوف وقلق المنظرين يستحضرون الهمم والعقل والتوكل على الله ودروس التاريخ كي تشحن نفوسهم نحو المستقبل، يشاهدون كيف خرجت أمم وحضارات من قاع التخلف والجهل والاستبداد لتجلس على رأس الأمم، هؤلاء هم صانعو المستقبل، هؤلاء هم أصحاب رؤية ونظرية التغيير الجذري الذي نأمله ونحلم به، أما المنظرون ومن يدعون الواقعية والممتلئون بالإحباط والخوف والقلق فلن يفعلوا شيئا سوى تعطيل المسيرة والدولة والشعب في كل الأحوال..
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: التغییرات الجذریة
إقرأ أيضاً:
لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)
تكشف متابعة "الخطاب الديني" عبر قرنين، في الأمة العربية والإسلامية عامة، عن عدد من المحدِّدات أو العوامل التي أسهمت في كل مرة -بدرجات متفاوتة- في منح هذا الخطاب خصائصه وشاكلته التي تبدّى عليها، ويمكننا من متابعة هذا التطور اكتشافُ بعض نقاطٍ فاصلة واصلة؛ نقاطِ جدال ثقافي وسجال فكري، تبلورت فيها ألوانُ الخطاب الديني: مرجعياته ومنطلقاته، ومنهجيات احتجاجه وآليات منازعته، وقابلياته ومكناته.. الأمر الذي يمكن ترتيبه حسب معيارين: أحدهما يتعلق بمجال الخطاب؛ وهو القضايا محل السجال ومحل إنتاج الخطاب وإعادة إنتاجه، والآخر يتعلق بالتطور التاريخي الواصل؛ وهو التطور التاريخي ومحطاته المتكررة أو المتجددة. ويمكن تبيُّن ثلاثة أنماط من اللحظات التاريخية الموضوعية في هذا الصدد:
- اللحظات الفارقة: وهي التي تمثل العُقد الأساسية في تطور قرنين من الزمان، واللذين يبدآن بلحظة فارقة مهمة تتمثل في الحملة الفرنسية على مصر والشام؛ يتوالى على إثرها عدد آخر من اللحظات الفرقانية التي تفرق بين ماضٍ وآتٍ، وبين موروث ووافد، وبين مقاوم ممانع من جهة ومساير متابع من جهة أخرى، ولعل أهمها اللحظة التحديثية، ولحظة الحملة الإنجليزية، واللحظة التغريبية في منعطف القرن العشرين، ولحظات الاستقلال المنقوص والقاصر للدولة العربية التي نشأت مشوهة ومشوشة، حتى لحظة الحملة الأمريكية مجددا التي تجلت في مواقف عدة؛ أعلاها اللحظة النماذجية التي يمثلها ترامب وسياساته.
اللحظة الفارقة تحث الذهن على أن يفرق ولا يغرق ولا تلتبس عليه الأمور؛ أن يقوم بعملية فرقان؛ كحالة من البيان الحق الواضح بلا اشتباه، لحظة فرقان تؤدي إلى فائدة وعي "الكيان"؛ الوعي بالذات وبحال الوهن والضعف المستولي عليها، والوعي بالمكنات والإمكانيات التي تقدمها الذات الحضارية لإعادة مياه الحياة إلى مجاريها (اللحظة النابليونية). إن اللحظة الفارقة تولد مفارقاتٍ وتصنع مفارق طرق رئيسة.
متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة
- اللحظات الكاشفة: وهي اللحظات الكاشفة لطبيعة القضية نفسها داخل التطور الزمني والموضوعي للخطاب، يتم فيها تتبع التطور أو التجديد في الخطاب والفكر والأداء داخل القضية الواحدة، أثناء اللحظات الفارقة وفيما بينها. فليس معنى "التطور" أن نتمادى وراء المتابعة الزمنية للقضية، ولكن ينبغي أن نقف أيضا عند لحظات كاشفة تتميز فيها الخطوط الفكرية والتوجهات التجديدية بقدرٍ قلما يتكشف في التطور التالي بعد تلك اللحظات الكاشفة. وبالطبع، يستحيل في حدود هذا المقام المضيّق أن نستقصي كل هذه اللحظات؛ والنسب في هذا المقام الوقوف عند بعض اللحظات الأكثر "كشفا".
- اللحظة المقوّمة: وهي اللحظة التي تتبدى فيها استجابات الخطاب النابع المعبِّر عن الذات تجاه الخطاب المقتحم، وتجاه الخطاب التابع، وهي لحظة تدخلنا في ثلاث قضايا مهمة أو ثلاثة أنماط أطرا لمواجهة الخطاب التغريبـي:
أ- الأطر الناقدة للأفكارِ التابعة الوافدة من نسق معرفي وافد: تعيب غيرها ولا تبني نفسها.
ب- الأطر الدفاعية المقتصرة على الدفاع عن الرؤية التجديدية الذاتية ولا تنتج تجديدا.
ج- الأطر البنائية للرؤية الإسلامية التجديدية، أو على الأقل الأطر البيانية المبيِّنة لهذه الرؤية (الرؤية البيانية البانية).
والمقصود في هذا المقام أساسا هي الرؤية البنائية، والتي في إطارها فقط يمكن قبول الرؤيتين "الناقدة" و"الدفاعية" إذا عملتا في الإطار البنائي، ولا يمكن قبول الرؤيتين الأخيرتين أو الاكتفاء بهما إلا في ظل هذه الرؤية البنائية، أو على الأقل في إطار عملية البيان. إن هذه اللحظات -خاصة المقوِّمة- تمثل الأعمدة لبناء سقف التجديد في الخطاب وتوجهاته، التي تمكننا من أن نستخلص مجموعة "السنن الحاكمة/القوانين المسيِّرة" للخطاب الديني وعمليات تجديده، حيث تتوفر ثلاثة مستويات أو خرائط في هذا الصدد:
أ- خريطة رصد الاتجاهات العامة التي تتفارق وتتفتق عنها اللحظات الفارقة الكبرى.
ب- خريطة الاتجاهات لكل قضية، والتي تكشف فيها درجات تمثل كل اتجاه لمقولاته ومبادئه وحفاظه عليها وسعيه لتفعيلها وإقرارها.
ج- الخريطة المتشابكة الجامعة للقضايا وللتوجهات حولها (الخريطة الشبكية، شبكة الخطاب).
وفي مسار البحث البصير عن الأطر البنائية والبيانية، يلاحظ أنه كانت هناك محاولات لإبرازها عبر الأزمات التي مر بها الخطاب الديني.. لكنها لم تكن بالمستوى الذي يسمح لها أن تُحدث حالة من حالات التكافؤ مع الأزمة.. هذه المحاولات قد تُحدث نوعا من الوعي، ولكنه محدود.. وقد تُحدث نوعا من السعي؛ لكنه مؤقت..
لقد أبرزت اللحظات الفارقة افتراقا بين توجهين أساسين تجاه القضايا والأزمات المختلفة التي عبر عنها تطور الخطاب الديني في الأمة عبر قرنين:
- التوجه العلماني التغريبي الحداثي: بين الإدبار عن الذات والبحث عنها في الآخر.
- التوجه الديني الإسلامي التأصيلي: أزمة المسلمين، والتجديد القاصر والقصير والمقصور.
هذه هي الإشكالية التي لا تريد أن تنفضَّ حتى الآن لغلبة الجانب النقدي أو الدفاعي على حساب الجانب البياني والبنائي في الرؤية التجديدية الإسلامية وخطابها.
من هنا نأتي إلى السؤال الشامل للأطر الثلاثة (البنائي/ الدفاعي/ النقدي) وهو: على أي أرض نقف: تجديد الخطاب الديني، مفرق الطرق يعود مع الحملة الأمريكية المستجدة؟
إن متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة.. إن تجزيء المسألة بالوقوف عند الخطاب دون الأمة، وبالوقوف عند القضايا فرادى يتامى لا رحم لها ولا أم ولا أمة، إنما هو خضوع للمعايير الأمريكية.
دراسة الخطاب الديني وتجديده والتي تفتتح متابعتها بدءا من الحملة الفرنسية، وتتوسط سبيلها حملة إنجليزية، تنتهي بالحملة الأمريكية مجددا: مفترق طرق وافتراق في الأدوات والأساليب.. ومن هنا نتساءل:
هل سنجدد الخطاب الديني تحت أزيز الطائرات الأمريكية والحضور العسكري اللافت؟ ومن سيجدده: هل هم هؤلاء الذين يتواردون الواحد تلو الآخر على "المذبح الأمريكي" أو ينبطحون في معيته وأمام سياساته؟
إن الأمر في حقيقته لا يمكن إلا أن يستحث الوعي والسعي لاستحداث خطاب ديني يقوم على قاعدة من الممانعة والمواجهة والمقاومة، وهكذا يكون الخطاب الديني لأمة المسلمين. إن خطاب الإقصاء أو الإخصاء أو "الإسلام منزوع الفتيل" لم يعد له مكان داخل سياج جوانتانامو الكونية الأمريكية.. فإن ذلك مما لا يعد تجديدا، بل تبديدا ونكوصا؛ فننتقل بذلك من خطاب إحياء الأمة وبعثها إلى خطاب تهدئة الخواطر وتهرئة الخمائر أو تهيئة الأرضية لاستقبال القادم، فإنه قد يتبدى أن من الواجب علميا وعمليا التركيز على عدد من الأسئلة:
- ما دور السياق الإقليمي والعالمي ووعي المفكرين المسلمين به، في تحديد خصائص خطابهم الديني، وفي تطورات سجالات تياراتهم حول تجديد الفكر أو إصلاحه؟
- ما هي أنماط هذه السياقات؟ وأنماط الاستجابة لها عبر هذين القرنين؟ بمعنى كيف كان للاقتراب الغربي المطّرد -عبر القرنين- من عالم المسلمين: من الالتفاف إلى الاحتلال، آثاره في خصائص هذا الخطاب وسجالاته؟ وكيف كان للاقتراب المصري كذلك من الغرب: انتباها (الحملة الفرنسية)، ثم مشاهدة (البعثات) ثم التقاء واصطداما (الموجة الاستخرابية) آثارها ومآلاتها؟
- ما أهم القضايا التي أثيرت ضمن "الخطاب الديني" عبر القرن؟ وما المرجعيات التي تساجلت حولها؟ وما مناهج إنتاج الخطاب في كل مرجعية؟ وكيف تطورت كل هذه المحددات للخطاب؟
هذه أسئلة رئيسية دونها أسئلة كثيرة، لكن ما ينبغي التوكيدُ عليه هو أن المناط التاريخي والموضوعي الجامع والمعلِّل للتطور الذي حاق بالمسألة التجديدية عامة وبالتجديد في الخطاب الديني بخاصة، هو أن هذا التجديد جاء متأثرا بالاحتكاك الحضاري الذي وقع بين عالم المسلمين والغرب؛ حيث صار ثمة تحدٍّ حضاريُُّ مفروض وماثل للعيان ومتصاعد الوطأة مع الزمن، خاصة أن هذا الالتقاء جاء على حينِ انكسارة وترهل في الذات الحضارية، لم تكن عناصر التجدد الذاتي تعمل بنفس كفاءتها المعتادة، كانت مفاتيح التجدد والمواجهة قد علاها صدأٌ ثقيل، وخصائص الذات غير متميزة بوضوح، اللهم إلا عند نفر قليل عزَّ ظهورهم، وكُبّل سعيهم بوطأة الحال وتفشي الوهن في القوم وسراتهم.
لقد كان سبيل التجديد بين خيارين:
- إما الالتفات إلى الذات وأمرها، وفق قواعد التجدد الذاتي الحضاري الإسلامي؛ بالتفتيش عن مصادر الوهن، وتلمس مفاتيح التجدد النابع، فيكون الصحو من الغفلة، والنهوض من الرقدة، والمضي قدما في سبل الكرامة والتقدم بعد المكوث في الذيل والذل.
- وإما الالتفات بانبهار ووله وولع إلى الآخر بمنطق المغلوبية والولع بالغالب (وفق السُّنة التي كشف عنها ابن خلدون)، وإدارة الظهر للذات وأمارات العزة والاعتزاز فيها، فيكون التغرب والتغريب، والغرق في الآخر والتبعية له.
إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين
إن ناظم المسألة ومناطها هو الوعي بـ"عناصر التجدد الحضاري الذاتي"، والسعي بها في البحث عن مخرج من المأزق الحضاري الذي فرضه الاحتكاك بالآخر. إن جوهر الأزمة -كما كشف عنه مسار التجديد عبر قرنين- تمركز في "مناهج التفكير ومناهج التدبير ومناهج التغيير"، وأن بعض الذين أبدوا استعدادا لتلمس هذه المناهج والعناصر التجديدية قدموا جهودهم ومحاولاتهم؛ إما على نحو "لا يكفي" وإما على نحو "لا يكافئ" المستويات التي كانت أزمة الأمة قد بلغتها.
من هنا يمكن تضمين قضايا القرنين -بل كذلك القضايا التي ستجدُّ من بعد- في هذا الإطار: ضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيا غير قاصر ولا جزئيا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره. إننا بهذا نقف بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكنات التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضاء بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).
التجديد النابع لم يكمل متسلسلة أسئلته من جهة، ولم يواجه واقعه بالوسائل المكافئة من جهة أخرى، فظل يتعامل مع القضايا إما تجزيئيا أو كردِّ فعل، ولم يلتفت إلى أن فضيلة المنظومة الإسلامية الأساس إنما هي في منظوميتها ووحدتها كنسيج لا ينقض غزله وهو على حاله؛ ومن ثم لم يكن ممكنا تناول القضايا المنبثقة عبر المسير بعيدا عن نسيجها الحضاري المتماسك. هذا الإغفال -أو هذه الغفلة- كان مجالا للخطاب التابع ليعيد تسكين القضايا في أطر الآخر وبعيدا عن الذات.
إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين.
لقد عبرت مسيرة القرنين أو يزيد؛ عن حالة من الاشتباك على مائدة قضايا واحدة، لكن بين صفين أو شبكتين من المفاهيم: بين من أراد أن يداوي أزمة الواقع لكن من صيدلية الغرب والهجرة عبر المكان، ومن أراد أن يصنع أدوية الواقع المعتل من خلال الهجرة عبر الزمان. إن هذا يذكرنا بالمقولة الذهبية لابن القيم للجمع بين نوعي الوعي أو الفقه: "الفقه فقهان: فقه في الأمور الكلية، وفقه في الحوادث الجزئية، ولا بد أن نعطي الواجب حقه من الواقع، والواقع حقه من الواجب"، وهذا ما لم يفعله الفريقان إما كليا وإما جزئيا. حديث الخطاب الديني وعمليات تجديده هي في قلب تلمس طريق النهوض ومسالك الإصلاح ومشاتل التغيير.
x.com/Saif_abdelfatah