مفاوضات جنيف العرجاء حول السودان ... هل تثمر؟!
تاريخ النشر: 19th, August 2024 GMT
على مدى أكثر من عشرين شهرا، منذ اندلعت المواجهات المسلحة بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو وشهرته «حميدتي» وبين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، تفاوتت حدة المواجهات بين الجانبين، وتوقف ذلك في الواقع بجانب منه على عوامل عديدة، منها محاولات التدخل الخارجي إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، ومحاولات توفير الدعم اللوجستي والغذائي والتسليحي تارة باسم الأخوة العربية وتارة باسم المصالح المشتركة وثالثة باسم الأمن القومي العربي، وذلك بالرغم من أن طرفي المواجهة يحاولان نفي الطرف الآخر من معادلة التنافس والصراع على السلطة الذي تم تغليفه بشعارات براقة على هذا الجانب أو ذاك، غير أن الجانب الشعبي أو الجماهيري السوداني لم يثق في أي من تلك المحاولات التي رأى ولمس فيها تدميرا للمدن وللبنى الأساسية الضعيفة، كما لمس فيها تنافسا وصراعا شخصيا على السلطة، خاصة مع استمرار الطرفين في عمليات القصف والتدمير دون حرص كاف أو مقنع للحد من التدمير أو العمل الجاد من أجل وقف القتال حرصا ومراعاة لمصالح الشعب السوداني والحد من معاناته على نحو أو آخر.
ومع أنه من المعروف أن قوة التيار الشعبي السوداني كانت قوية فور سقوط الرئيس السابق عمر البشير إلا أن الخلافات بين القوى السودانية وتصارع الجيش والدعم السريع أثّر سلبا على قوة التيار المدني الذي يحاول رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك إعادة بنائه وكسب ثقة أكبر قطاع ممكن من الشعب السوداني مرة أخرى في محاولة لاستعادة ولو جزء من القدرة السابقة على التأثير التي تمتع بها من قبل بشكل ما. ومع الخسائر العالية ماديا وبشريا ودرجة التدمير الكبيرة في العديد من المؤسسات والمرافق التي يحتاج إليها السودان الشقيق بشدة فإنه من المؤسف القول إن العشرين شهرا الماضية من الحرب والاقتتال لم تفلح سوى في تعميق الخلافات بين الجانبين المتحاربين، ويبدو أنهما عادا الآن إلى المربع الأول وذهبت كل الخسائر سدى وسيتحملها الشعب السوداني من قوْتِه وعلى حساب قدرته على إعادة بناء حياته وتنميتها في السنوات القادمة خاصة مع تدهور الجوانب الاقتصادية والصحية والاجتماعية في السودان.
وبينما نشطت في الآونة الأخيرة اتصالات ومحاولات سودانية وإقليمية ودولية في محاولة لاستئناف المفاوضات بين الجيش السوداني والوسيط الأمريكي وقوات الدعم السريع، وذلك اعتمادا على الدعم العربي والإفريقي في إطار إعلان جدة، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب، أهمها: أنه بالرغم من تعدد الأطراف التي تحاول الإسهام في حل الخلافات بين البرهان وحميدتي إلا أنه من غير الممكن التغاضي عن أن تعدد الأطراف يعني بشكل أو بآخر تعدد وتداخل بل وتضارب المصالح المباشرة وغير المباشرة، خاصة وأنه ليس من الممكن حتى الآن على الأقل، القول بأنه يمكن حسم الصراع عسكريا لصالح أي من الطرفين، خاصة وأن قوات الدعم السريع تسعى بسبل مختلفة لتقوية قدراتها العسكرية سواء من خلال محاولة امتلاك مسيرات حديثة، أو من خلال زيادة عدد قواتها العسكرية بحجة العمل على حماية المدنيين السودانيين ضد الهجمات التي يتعرضون لها، ومن المفارقات الغريبة أن الجانب الذي ارتكب ويرتكب الكثير من أعمال العنف ضد المدنيين على امتداد الأشهر الماضية هي قوات الدعم السريع التي تفتقر إلى الالتزام القوي بتقاليد الاشتباك والعمل العسكري، وذلك بحكم تكوينها المبدئي من ميليشيات الجنجويد، وإدانة بعض أفرادها باتهامات استخدام العنف المفرط ضد المدنيين وارتكاب أعمال مخالفة لقواعد القتال بشكل أو بآخر. وبالتالي فإن توسيع وزيادة أعداد قوات الدعم السريع التي أعلن عنها حميدتي قبل أيام وبشكل يدخل حيز التنفيذ بشكل فوري هو في الواقع محاولة لزيادة عدد القوات العاملة معه في مواجهة قوات الجيش السوداني. ومعروف أن حميدتي اعتمد من قبل ولا يزال على تجنيد الميليشيات والمرتزقة من دول مجاورة للسودان، وتتوفر له الأموال اللازمة لتمويل ذلك من مصادر سودانية وغير سودانية أيضا. وهو ما سيؤدي في الواقع إلى زيادة تعقيد الصراع خاصة وأن حميدتي نفى قبل أيام وجود حكومة شرعية في السودان، ويأتي ادعاء حماية المدنيين ليكون مدخلا لحرب أهلية ستتسع بالضرورة حسبما يتوفر من تسليح للعناصر التي ستنضم إليها.
أما بالنسبة لقوات الجيش السوداني فإن اعتماده على استخدام الطيران التابع للجيش لا يكفي في الحقيقة ما لم يتم تعزيز قدرات عناصره ووحداته الأخرى لتعزيز قدراته الآن وفي المستقبل، وهو أمر لا غنى عنه في الواقع إذا أريد المحافظة على نوع من توازن القوى بين الجانبين خاصة وأن حميدتي يسعى إلى تعزيز قواته بأسرع وقت ممكن، وهو ما قد يدفع البرهان إلى التفكير في الاستجابة لمطالب خارجية طرحت من قبل وقد يقبل بها بشكل أو بآخر تحت ضغط الضرورة العملية والحفاظ على السودان في مواجهة المخاطر المحدقة به. وفي الحالتين فإن الخاسر في الواقع هو السودان في الحاضر والمستقبل خاصة أن هناك من يتربص به، وهم يريدون الحصول عليه. ثانيا، إنه إذا كان من المعروف أن المفاوضات تجرى عادة بين طرفين أو أطراف معنية، فإنه من غير الممكن ولا الطبيعي أن تتم مفاوضات بين طرف واحد في غياب الطرف الآخر أو الأطراف المعنية الأخرى؛ لأنها في هذه الحالة ستكون المفاوضات عرجاء لأن الطرف الآخر غير موجود، وليس هناك من يعبر عن مصالحه. وبرغم حضور قوات الدعم السريع التي حضرت مفاوضات جنيف لتدافع عن مصالحها ولأسباب أخرى، فإنه من الغريب أن تدعو واشنطن إلى مفاوضات جنيف حتى وإن كانت بدون حضور الحكومة السودانية، وهو ما تم بالفعل قبل أيام. صحيح أن واشنطن أعلنت عقد مفاوضات جنيف حتى دون الحكومة السودانية كنوع من الضغط عليها ولدفعها للاستجابة ولكن الواقع هو أن عدم مشاركة الحكومة أو الجيش يجعل من هذه المفاوضات مفاوضات عرجاء تقف على قدم واحدة لأن طرفا واحدا هو الدعم السريع من حضر اللقاء دون الطرف الآخر الجيش، مما يجعل المفاوضات غير مكتملة بل وغير معترف بها في الواقع. فكيف تم تبادل وجهات النظر وعلى أي أساس؟ ومن عبّر عن وجهة نظر جانب الجيش؟ وحتى إذا كانت واشنطن تريد الوصول إلى نتيجة ما فإن التضحية بمشاركة الجيش في المفاوضات يعني ببساطة أن واشنطن تفاوض قوات الدعم السريع وحدها، وتعني حماسة قوات الدعم السريع للمفوضات في غيبة قوات الجيش رغبة واضحة من حميدتي لتعزيز علاقته بواشنطن على حساب الجيش؛ ويفسّر ذلك أنه كرر كثيرا قبيل وأثناء المفاوضات أنه يؤمن بالسلام، وأنه يمكن صنع السلام في السودان، وأنه لن يغلق الباب أمامه وعلى الجيش الاستجابة حتى يمكن صنع السلام، وهي شعارات مختارة بعناية خاصة أن الكثيرين لم ينسوا بعد من بدأ القتال في أبريل من العام الماضي، ومن ساعد على اتساع نطاق الحرب وهدد بتقسيم السودان. وعلى أي حال فإن هناك خلطا للأوراق ومحاولات خداع وصلت إلى حد محاولة اغتيال البرهان باستخدام طائرة مسيرة أثناء تخريج دفعة من طلاب إحدى الكليات العسكرية واتهام قوات الدعم السريع بالتورط في الحادث قبل عدة أيام رغم إنكارها لتلك المحاولة بحجة عدم امتلاكها لهذا النوع من الطائرات حتى الآن على الأقل، ومن المرجح أن فشل المحاولة هو ما يفسر حماس حميدتي للمشاركة في مفاوضات جنيف العرجاء وبدون مشاركة الجيش.
ثالثا، أنه في الوقت الذي لا يمكن فيه وصف جولة مفاوضات جنيف بأنها جولة مفاوضات حقيقية بسبب الخلافات وعدم مشاركة الجيش، فإن استمرار الخلافات بين حميدتي والبرهان وضعف الوسطاء رغم كثرتهم إنما يعود إلى عدم جدية الوسطاء أنفسهم بشكل أو بآخر وميلهم أو بعضهم على الأقل إلى تحميل السودانيين مسؤولية تعثّر المفاوضات منذ التوصل إلى إطار إعلان جدة في مايو من العام الماضي بالمشاركة بين أمريكا والسعودية، التي استضافت المفاوضات بين الجانبين المتصارعين لبعض الوقت حتى شعرتا بعدم الجدية، وعدم نوفر إرادة الحل لدى المتنازعين، والمماطلة حتى تتغير الظروف على الأرض لصالح أي منهما. وهو ما لم يتم بشكل كاف لتغيير الواقع ومن ثم استمرت المواجهات المتفرقة بينهما. وإذا كان إعلان جدة قد شكّل إطارا يتضمّن خطوات تمهد للتهدئة ولحماية المدنيين ولإدخال المساعدات وللحد من النزوح والهجرة الداخلية أو إلى دول الجوار، فإن استمرار الخلافات بين حميدتي والبرهان عرقل إمكانية التنفيذ العملي في ظل تبادل مستمر للاتهامات، ومحاولة كل طرف إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر. ومع استمرار معاناة الشعب السوداني الشقيق ومع عجز الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن تستمر الأزمة في السودان دون تقدم إيجابي والمستفيد في الحقيقة هي الأطراف غير السودانية على حساب الأمن والمصالح السودانية في الحاضر والمستقبل. وطالما استمر الوضع على هذا النحو فلن تثمر المفاوضات لأنها ببساطة مفاوضات عرجاء بغض النظر عن مكان عقدها، فهل يمكن أن نأمل في تكرار نموذج الفريق أول سوار الذهب مرة أخرى قبل أن يضيع السودان أو ينهش المتربصون به بعض أجزائه وعندها سنندم كثيرا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الجیش السودانی الشعب السودانی مفاوضات جنیف الخلافات بین بین الجانبین الطرف الآخر فی السودان قوات الجیش فی الواقع وهو ما
إقرأ أيضاً:
تصعيد ميداني بين الجيش و الدعم السريع و تحشيد كبير حول الفاشر ومدني
في تطور ميداني، رفع طرفا النزاع في السودان من وتيرة التحشيد العسكري حول مدينتي الفاشر ومدني، فيما تواصل القوات التابعة للجيش والقوات الموالية للدعم السريع تعزيز مواقعها في تلك المناطق الاستراتيجية.
التغيير ــ وكالات
وتأتي هذه التحركات في وقت حساس، حيث مر عام كامل منذ أن سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة مدني، التي تعد مركزاً اقتصادياً مهماً في البلاد.
و مع دخول الحرب في السودان عامها الثاني، يزداد التصعيد العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مناطق حيوية من البلاد، حيث تركزت الأنظار في الأيام الأخيرة على مدينتي الفاشر في دارفور و”مدني” في ولاية الجزيرة، في وقت تزايدت فيه الاشتباكات والضربات الجوية بشكل مكثف.
وفي الفاشر، آخر معاقل الجيش بإقليم دارفور، أفادت مصادر ميدانية بتقدم جديد لقوات الدعم السريع داخل المدينة، مما يعزز من وضعها في الإقليم الحيوي الذي يشكل نقطة وصل بين السودان وكل من تشاد، أفريقيا الوسطى، وليبيا.
ويثير هذا التطور مخاوف من تزايد النفوذ العسكري لقوات الدعم السريع في المنطقة.
قتلى ودمار جراء الضربات الجويةفي الأثناء، واصلت الغارات الجوية التي ينفذها طيران الجيش السوداني قصف مناطق متعددة في دارفور، ما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص خلال الأيام الأربعة الماضية، وفقاً لتقارير من منظمات حقوقية.
ومن أبرز الهجمات، الهجوم الجوي على سوق مزدحم في بلدة “كبكابية” شمال دارفور، والذي أوقع عدداً كبيراً من القتلى في صفوف المدنيين.
ووصفت منظمة العفو الدولية هذا الهجوم بـ “جريمة حرب”، مؤكدة أن قصف السوق المزدحم بالمدنيين لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، حتى في حال وجود جنود من الطرفين المتنازعين في المنطقة. وصرح تيغيري تشاغوتا، المدير الإقليمي للمنظمة، قائلاً: “استخدام المدنيين كدروع بشرية أو استهدافهم بشكل متعمد يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني”.
الوضع الإنساني المأساويتفاقم الوضع الإنساني في السودان، حيث قدرت بيانات كلية لندن للصحة العامة أن أكثر من 60 ألف شخص قد لقوا مصرعهم منذ بداية الحرب في أبريل 2023، كما أُجبر نحو 14 مليون شخص على النزوح من ديارهم.
وتعاني البلاد من أزمة غذائية حادة، حيث يواجه أكثر من نصف السكان، الذين يقدر عددهم بحوالي 48 مليون نسمة، تهديدات جسيمة تتعلق بالجوع.
مواقف دولية ودعوات للتفاوض
في هذا السياق الميداني والإنساني المأساوي، كررت الولايات المتحدة وبريطانيا دعوتهما إلى العودة إلى طاولة المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ومع استمرار التصعيد العسكري وغياب أي حل سياسي يلوح في الأفق، تزداد المخاوف من أن يؤدي هذا الصراع المستمر إلى المزيد من التدهور في الوضع الأمني والإنساني في السودان.
في وقت يواجه فيه الشعب السوداني معاناة شديدة من القصف والدمار والتهجير، ويبدو أن فرص الوصول إلى اتفاق سلام أو هدنة تتضاءل بشكل كبير.
الوسومالجيش الدعم السريع الفاشر تصعيد ود مدني