ارتبطت الشعوب منذ القدم بالوقف، وأصبح جزءا يعطي ضمانا لاستمراريّة الجوانب الأمنية العسكرية والخدمية، فكما أن هناك أوقافا للعسكر ولوازمهم، توجد كذلك أوقاف مختلفة ومتنوعة في جوانب خدمية، من هرمها الأعلى وهو الإنسان عقلا وبدنا، إلى أوقاف الحيوانات والطيور والقطط وما يتعلق بالقرى والمدن والزروع.
هذه الأوقاف أبدع فيها المسلمون قديما، واستفاد من تقنينهم لها الغربيون، وما زالت عشرات الأوقاف في العالم الإسلامي عمرها قد يتجاوز ألف سنة وأكثر، ومن اهتمامهم بالوقف كان التعليم ونشر الكتاب والمعرفة قائما عليه، كأوقاف الأزهر والزيتونة والحرمين الشريفين وغيرها من المؤسسات التعليمية.
والعمانيون أدركوا أهمية الوقف في الجانب التعليمي منذ فترة مبكرة، مثلا كما في اللباب المنسوب إلى الشّيخ مهنا بن خلفان البوسعيدي (ت 1250هـ) «أنّ الإمام سيف بن سلطان اليعربي (ت 1123هـ/ 1711م) أوقف تسعة وثلاثين أثرا من فلج دارس بنزوى للطّلاب وفق ثلاثة أقسام: الأول ينفق على طلبة العلم، والثاني لطلاب العلوم الأخرى، والثالث لحفظة القرآن»، كما أوقف بلعرب بن سلطان (ت 1104هـ/ 1692م) حصن جبرين في بهلا ليكون «مدرسة تخرج منها الكثير من العلماء مثل الشيخ خلف بن سنان والشاعر الحبسي»، كما أوقف السلطان برغش بن سعيد (ت 1305هـ/ 1888م) جميع مطبوعات المكتبة السلطانية لطلاب العلم.
كما ساهم الأفراد عموما والتجار العمانيون وسلاطين زنجبار خصوصا في دعم أوقاف وكالة الجاموس في مصر لخدمة المتعلمين، التي أسسها الشيخ سعيد بن عبد الله الجادودي من تجار جربة عام 1494م، وسميت الوكالة «لأنها تشتغل كوكالة تجارية، ريعها يقدم لخدمة طلبة العلم»، ويقال: «إن سبب تسميتها بوكالة الجاموس أنّ جلد الجاموس كان أحد السلع والبضائع التي كانت تتاجر فيها هذه الوكالة»، «وتقع الوكالة في الحي الطولوني قرب جامع أحمد بن طولون» في القاهرة، ويرى الباحث سعيد بن سليمان العيسائي في مقالته في المجلة الثقافية العمانية أنه «يتضح صلة عمان والعمانيين بهذه الوكالة منذ زمن بعيد ... وكانت تدرس في حلقات العلم بهذه الوكالة بعض الكتب الدينية لعدد من العلماء الجزائريين والعمانيين، كما قام عدد من سلاطين زنجبار بالتبرع لنسخ عدد من المخطوطات الدينية لعلماء عمانيين وجزائريين كذلك، ووقفها على طلاب العلم الدارسين في الأزهر، والقاطنين بهذه الوكالة، ودرس عدد من الطلبة العمانيين من الرعيل الأول الذين ذهبوا إلى الدراسة في الأزهر في حلقات هذه الوكالة، واستفادوا من مكتبتها».
وعلى مستوى الأفراد كان دعم وقف التعليم حاضرا في الوصايا الفردية، من ذلك مثلا وصية الشيخ خميس بن سعيد الشقصي: «بسم الله الرّحمن الرّحيم: ليعلم من يقف على كتابي هذا من المسلمين، بأنّي قد أوصيت بجميع كتبي التي أخلفها بعد موتي أن يتعلم منها المتعلمون من ذريتي، وغيرهم من المسلمين، فإذا ذهب المتعلمون من ذريتي وانقرضوا؛ فهي على رأي أهل العلم والصلاح من الأفاضل، أفاضل أهل زمانهم، وقد أوصيت بنصف أثر ماء من مائي من الميسر من سوني من الرّستاق، يصلح بغلّته ما خرب من هذه الكتب، ويجدد منه ما رث، وصار مؤبدا إلى يوم القيامة، ونصف هذا الأثر يخرج على نظر الوصي وصيتي والبالغ الحاضر من ورثتي، وما فضل من غلّة هذا نصف أثر الماء يشتري به قرطاس، ويستأجر به على النسخ وتجليد ما ينسخ من كتب الأثر الذي في الشريعة، ويكون زيادة على هذه الكتب المذكورة، وكان تمام كتاب هذه الوصية، ضحى الجمعة الشريفة لثماني ليال بقين من شهر جمادي الآخرة من سنة سبعين وألف سنة من الهجرة النبويّة، كتبته وأثبته على نفسي، الفقير الله خميس بن سعيد بن علي الشّقصي بيده».
لهذا بقي وقف التّعليم حاضرا في العقل الجمعي العماني حينا من الزمن، فنجد العديد من الأوقاف المتعلقة بالمتعلمين والكتاتيب والكتب ونسخها، كما نجد العديد من المكتبات حاضرة، حتّى وقت قريب جدّا، كمكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي (ت 2012م) بولاية السيب والتي افتتحت عام 1986م، ومكتبة الندوة ببهلا افتتحت عام 1996م، ومكتبة وقف الحمراء وأصلها مكتبة الشيخ محسن بن زهران العبري (ت 2012م)، ومكتبة الشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي (ت 2006م) في المركز الثقافي بولاية إبراء، وغيرها من المكتبات الشخصية والأهلية.
بيد أنّ الوقف التعليمي والعلمي اليوم أصبح أكثر تفرعا وتعقيدا، ويحتاج إلى قاعدة محكمة، ومؤسسات معنية به، فالوقف في عالمنا العربي توقف في صوره التقليدية، بينما تطور في الغرب بشكل كبير، وكما يذكر عبد الوهاب جودة الحايس في بحثه «الوقف العلمي واستثماره» أنّ الدول الغربية أدركت «هذه الأهمية للأوقاف ودورها الفاعل، فنهجت مؤسساتها التعليمية نهج الأوقاف من خلال توفير رؤوس أموال كبيرة خصّصت لدعم أنشطة هذه المؤسسات العلمية والبحثية؛ فعلى سبيل المثال بلغت قيمة أوقاف جامعة هارفرد الأمريكية خلال عام 2008م ( 36.556 مليار دولار)، في الوقت الذي نلحظ فيه زيادة لهذا الدور الفاعل للوقف في مؤسسات ومراكز البحث الغربية، نجد غياب أو ضعف هذا الدّور في مؤسّسات التعليم والبحث العلمي المعاصرة في العالم الإسلامي»، «واحتلت جامعة ييل الرتبة الثانية عالميا من حيث قيمة الوقف العلمي وأصوله، إذ حققت أوقاف جامعة ييل نتائج كبيرة نسبيا خلال عام 2008 من العوائد الاستثمارية من 4.5% وأرباحا استثمارية بليون دولار، وزادت الأوقاف من 6.6 بليون إلى 22.9 بليون دولار خلال العشر سنوات الأخيرة».
بيد أنّ غالب مؤسساتنا التعليمية والجامعية ما زالت معتمدة على الدولة الريعية، ومازال الوقف في صوره التقليدية، بل تراجع في العقل الجمعي، وتصور أنّ مساهمته في مثل هذه الجوانب أقل أجرا عند الله تعالى، ولم يعد حاضرا في وصاياهم ونفقاتهم بالشكل الأفقي الكبير، لهذا وجود حاضنة كمؤسسة سراج الوقفية في الجانب التعليمي ضرورة معرفية ونقدية تأسيسية قبل أن تكون ضرورة عملية، إذ تعنى بدرجة كبرى بدراسة الوقف في الجانب العلمي والتعليمي بما يتناسب والمرحلة التي نعيشها، والتقدم الكبير في الجانب الاقتصادي ووسائله الوقفية، فالتعليم أساس تقدم المجتمعات، ولا ينبغي أن يقتصر عند الدولة الريعية، فإذا كان كذلك سيكون تقدمه بمقدار إمكانات هذه الدّول وحسن إدارتها، فإن ضعفت مواردها ضعف وربما انهار، كما أنه لا يكون مستقلا قائما بذاته.
والمتأمل في الجانب العملي لمؤسسة سراج يجد شمولية في صرفها حسب قدراتها المالية، فهناك صرف للطلبة المعسرين، وفي البحث والابتكار ودعم الموهوبين والمبدعين، وفي دعم الكراسي البحثية، وفي توفير مرافق دراسية وتطويرها، وفي دعم البعثات الدراسية، وبجانب كونها مستقبلة للتبرعات من الأفراد والتجار ورجال الأعمال؛ بيد أنها أيضا تربط ذلك بالاستثمار، ليكون عملا تنظيميا مؤسسيا دائما، مع تشجيعها للمساهمة في السهم الوقفي لشراء العقارات، ومع عمرها الصغير إلا أنّها استطاعت أن تخلق جوّا وقفيّا أكثر تنظيما وتقدّما، مع ربطه بالجانب الرّقابيّ، وحضور العقل الشّبابيّ فيها.
وقد تكون بداياتها بسيطة، لكن تحركها وفق رؤية واضحة، وأداة محكمة، ورؤية عقليّة استثماريّة بعيدة المدى؛ يخلق فيها قاعدة عريضة كصورة عمليّة للتّنظيم الوقفيّ ليس في الجانب التّعليميّ فحسب، بل في جوانب أخرى أيضا، وقد تشجع على خلق كفاءات مؤسّسيّة وقفيّة أخرى، في هذا الجانب، أو غيرها من الجوانب، خصوصا وأنّه قد أعلن قريبا عن إنشاء مؤسّسة وقفيّة جامعة، حيث إدارة الوقف في عمان أصابه كغيره من دول العالم العربيّ شيء من التّراجع والتّرهل، مع ضعف كبير في الجانب الاستثماريّ في الوقف، وعدم وجود رؤية واضحة له، مع ضعف الرّقابة والمساءلة، واليوم أصبح الكلّ مدركا لأهمية هذا الجانب في النهضة الحديثة والشراك المجتمعي، والعلم أولى ما يعتنى به، ووجود مؤسسات كسراج خطوة في مجال التصحيح، كما أن اهتمام الجامعات والكليات، حكومية أم أهلية بتنمية ذاتها وقفيا؛ طريق حسن لتطورها واستقلالها وديمومتها.
ـ من مراجع المقالة بحث لأحمد مهني مصلح حول الوقف العلمي في عمان، منشور في كتاب الوقف العلمي واستثماره ضمن ندوة الوقف في عمان بين الماضي والحاضر، من قبل مركز الدراسات والبحوث العمانية في جامعة السّلطان قابوس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الوکالة فی الجانب الوقف فی فی عمان
إقرأ أيضاً:
رئيس جامعة مصر للمعلوماتية: البحث العلمي يمكنه حل مشكلات المجتمع
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكدت الدكتورة ريم بهجت رئيس جامعة مصر للمعلوماتية، امتلاك المجتمع العلمي القدرة على حل المشكلات التي تواجه المجتمع والارتقاء بالاقتصاد القومي، ومساندة جهود الدولة في تحويل التجمعات السكنية الي مدن ذكية تعتمد في إدارة أوجه الحياة بها على انترنت الأشياء، وهو ما يتطلب تركيز أبحاث أعضاء هيئات التدريس بالجامعات ومشاريع تخرج طلاب الكليات العلمية على المشكلات التي تواجه المجتمع.
وقالت انه اتساقا مع هذا الهدف فان أعضاء هيئات التدريس بكليات جامعة مصر للمعلوماتية، نشروا مؤخرا أبحاث في الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء تقدم حلولا لمشكلات عانى منها لسنوات قطاعي الإسكان والزراعة، وهي تتواكب مع خطط الدولة في الارتقاء بهاذين القطاعين، حيث يقدم البحث الأول الذي أعده الدكتور يسري حسن أستاذ مساعد الرياضيات البحتة بكلية الهندسة، آلية رقمية للرقابة على عمليات البناء وكشف أي انحراف او مخالفة لمعايير الأمان والسلامة بالقطاع العقاري، أما البحث الثاني وأعدته رانيا مصطفي توفيق مدرس مساعد بكلية الهندسة فيقدم آلية الكترونية لمتابعة حالة الأراضي الزراعية مما يحسن من طرق زراعتها ويرفع غلة محاصيلها.
وأشارت الى ان هذه الأبحاث هي نتاج للبيئة المحفزة للبحث العلمي التي ارستها الجامعة ليس فقط لأعضاء هيئات التدريس وإنما أيضا لطلبة الجامعة، حيث حرصنا على توفير أفضل المعامل البحثية المزودة بأحدث المعدات والأجهزة البحثية، كي تساعدهم في إجراء أبحاثهم، بجانب شبكة من الاتفاقيات مع كبرى الجامعات العالمية للتعاون في البحث العلمي وتبادل الخبرات.
وأضافت أن العالم يشهد حاليا سباق محموم على الابتكار خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي بعد ما شاهدناه من قفزة في أداء الصين على سبيل المثال وما أحدثه أحدث برامجها ديب سيك، من تأثير على شركات التكنولوجيا العالمية.
وأكدت ان الجامعة تفخر بوجود العديد من العلماء والباحثين ضمن أعضاء هيئة التدريس بكلياتها المختلفة، والذين أسهموا ببحوثهم في وضع مصر للمعلوماتية بين جامعات العالم الأكثر ذكرا واستشهادا في الدوريات العلمية، ومن هؤلاء العلماء الذين نشروا أبحاث في 2024 في المجالات العلمية ذات التصنيف الأول Q1 كل من الدكتورة هدي مختار عميد كلية علوم الحاسب والمعلومات والدكتورة امل الجمال والدكتورة هالة زايد والدكتور حسن الشيمي والدكتور رامي تقي الدين الأستاذ المساعد والدكتور محمد طاهر الرفاعي المدرس بكلية علوم الحاسب والمعلومات، والدكتور يسري حسن أستاذ مساعد الرياضيات البحتة بكلية الهندسة الذي اختير بقائمة ستانفورد لأفضل 2% من علماء العالم الأكثر استشهادا بأبحاثهم علي مستوي العالم.
وحول بحث الدكتور يسري حسن حول تطوير عمليات البناء أشارت إلى أن البحث نشر بمجلة De Gruyter في نوفمبر الماضي وهي من أشهر المجلات العلمية وتصدر بألمانيا، حيث توصل البحث لمعادلة رياضية تحكم الرقابة على عمليات البناء والتشييد فهي تساعد في تطوير التصميمات الهندسية الانشائية، وتحدد بدقة المكونات المثلى من حديد التسليح لأي هيكل خرساني مما يرفع من نسب الأمان والسلامة للبناء وهو ما يساعد في تحسين عمل العديد من الجهات وعلى رأسها الأجهزة الرقابية المسئولة عن قطاع التشييد والبناء وأيضا شركات المقاولات والمهندسين والاستشاريين.
من جانبه قال الدكتور يسري حسن أن المعادلة الرياضية الجديدة تسهم في تقليل وقت مراجعة التصميمات الهندسية التي كانت تتم الكترونيا عبر 16 جهازا للحاسب الآلي والتي كانت تستغرق بين 3 الي 9 أيام ونتائجها بمعامل خطأ سالب 3، ومع المعادلة الجديدة نحصل على النتيجة خلال دقائق فقط وبمعامل خطأ 10 أس سالب 16.
وأضاف ان البحث يندرج ضمن ديناميكا الانشاءات أحد أفرع الهندسة المدنية، وهو يقيس أكبر ثقل يمكن تحميله للهيكل الخرساني، خاصة في القمرة الخرسانية الواصلة بين كل عمودين من الخرسانة، طبقا لعدد اسياخ الحديد المستخدمة ونوعيتها حديد تسليح عادي ام حديد صلب، وبالتالي يمكن تحديد مدى سلامة الهيكل الخرساني، لافتا الي ان نتائج البحث والمعادلة الرياضية تقدم حلولا سريعة لمشاكل هندسية معقدة كانت تستغرق أيامًا من العمل.
من جانبها أشارت رانيا مصطفي توفيق المدرس المساعد بكلية الهندسة إلى أن بحثها يمكن الاستفادة منه في تطبيقات إنترنت الأشياء مثل تحديث قطاع الزراعة عبر ادخال برامج ومعدات الكترونية لتطوير أساليب العمل بالقطاع، حيث تساعد في جمع بيانات عن طبيعة الأرض الزراعية من حيث درجة الحموضة والاملاح بجانب تحسين عمليات الري لتتم حسب درجة الرطوبة، وهذه البيانات التي توفرها مجسات توضع بالأرض يتم جمعها عبر طائرة دون طيار والتي تنقل المعلومات بدورها الي المركز الرئيسي، أيضا فان البحث يطبق خوارزمية TSO تعمل علي تقليل استهلاك الطاقة للطائرة دون طيار التي تقوم بجميع البيانات لاسلكيا عبر تردد لموجات الراديو وكذلك علي تقليل الطاقة المستهلكة لتلك المجسات أثناء إرسال البيانات، من خلال تحديد أفضل نقاط التوقف للطائرة اثناء جمع البيانات.