معركة الهوية وطبيعة الصراع بين التاريخ والجغرافيا
تاريخ النشر: 19th, August 2024 GMT
في وقت تتصاعد فيه المطالبات بإثراء العملية التعليمية من خلال دمج التكنولوجيا وتطوير المناهج لتواكب العصر، تعلو بعض الأصوات، بقصد أو بدون قصد، محاوِلة هدم القيم التعليمية ومطالِبة بإلغاء المواد الأساسية التي تشكل هوية المجتمع ووعيه. تلك الدعوات لا تكتفي بالحديث عن تطوير التعليم، بل تسعى لاقتلاع جذور الهوية وطمس معالم الوعي لدى الأجيال الجديدة.
هذه الأصوات تطالب بإلغاء العلوم الإنسانية والمواد الأدبية والفلسفية، متسائلة عن جدوى التاريخ والجغرافيا في المناهج الدراسية. لهؤلاء نقول: الأدب هو مرآة تعكس الروح الإنسانية بكل أحلامها وتناقضاتها، وهو النافذة التي نطل منها على عوالم الفكر والخيال. كيف يمكننا أن نفكر في حذف الأدب من مناهجنا، وهو الذي يعلمنا كيف نكتب تاريخنا بأيدينا ونرسم مستقبلنا برؤى مستنيرة؟
أما التاريخ، فهو ذاكرة البشرية وسجل الأمم، من خلاله نتعلم من أخطائنا ونستلهم من نجاحاتنا. حذف التاريخ من المناهج هو كالسير في الظلام دون خريطة أو بوصلة، متجاهلا دروس الماضي التي تسهم في توجيه قرارات الحاضر ومسارات المستقبل.
الجغرافيا، ذلك العلم الذي يتجاوز حدود الأماكن، يربط الإنسان بالطبيعة والمجتمع. فهم الجغرافيا يمكننا من استيعاب التحديات البيئية والاقتصادية التي يواجهها عالمنا اليومK فكيف لمجتمع يجهل تضاريس أرضه أن يبني جسور التواصل مع العالم؟
الأدب، التاريخ، والجغرافيا ليست مجرد مواد دراسية، بل هي أسس تربوية تشكل وعي الفرد وهويته. التعليم الحقيقي يبني الإنسان بشكل متكامل، يجعله فردا واعيا بماضيه، متفهما لحاضره، وقادرا على بناء مستقبل أفضل.
كيف يمكننا أن نتجرأ على إقصاء التاريخ، وهو الذي يعيد صياغة حاضرنا في ضوء الماضي ليمنحنا رؤية أوضح للمستقبل؟ وكيف نهمش الجغرافيا، وهي التي تربط الإنسان بالأرض وتفتح له آفاقا من الفهم العميق للعالم من حوله؟
عند إلغاء التاريخ، كيف ستعرف الأجيال الجديدة عن ثورة يناير التي أطاحت بحكم مبارك بعد ثلاثين عاما؟ من سيذكر الشعوب بثورات الربيع العربي التي أسقطت رؤساء كانوا يظنون أن نهايتهم بعيدة؟
عندما يطالبون بإلغاء التاريخ والجغرافيا، فمن سيرسم للناس حدود الأماكن، ومن سيذكرهم بأن مصر استردت سيناء وطابا بعد جولات من المفاوضات، ومن سيؤكد على مصرية تيران وصنافير رغم التلاعب السياسي؟
إلغاء التاريخ والجغرافيا يعني نسيان سير الأقوام السابقة ونهايات الظالمين، وإغفال حتمية سيادة العدل وزوال الظلم مهما طال الزمن.
تأتي هذه الدعوات في وقت نحن بأمسّ الحاجة فيه لتلك العلوم، فهي جزء أصيل من طبيعة الصراع. حرب الصهاينة ضد فلسطين هي حرب عقدية تنطلق من الجغرافيا والتاريخ.
وعند إلغاء هذه العلوم، من سيذكّر الناس بصمود شعب فلسطين أمام الآلة الصهيونية ورفضهم بيع أراضيهم وترك ديارهم؟ من سيحكي قصص تضحياتهم من أجل قضيتهم؟
في الختام، علموا أولادكم أن الأدب، والتاريخ، والجغرافيا ليست مجرد صفحات في كتاب، بل هي فصول من حياة ونوافذ على عوالم مليئة بالتجارب والدروس. الحفاظ على هذه المواد هو الحفاظ على ذواتنا وعلى مستقبل أبنائنا، فمن ليس له ماضٍ، لن يكون له حاضر، ولن يُصنع له مستقبل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات التعليمية الهوية التاريخ الجغرافيا مصر مصر التاريخ التعليم الهوية الجغرافيا مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التاریخ والجغرافیا
إقرأ أيضاً:
تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية
منذ أيام ولا تتوقف برامج "توك شو" عن مناقشة وتحليل تسريبات الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، حول إظهار عبد الناصر حالة الإحباط التي يشعر بها تجاه مواقف الرؤساء والملوك العرب، بعد هزيمة 1967، ورغبتهم في خوض مصر الحرب، دون أن يقدموا الدعم اللازم لذلك، في مقابل خطابات "شعبوية" على حد تعبير عبد الناصر، لا طائل منها.
هذا الحوار كان بمناسبة نية عبد الناصر قبول مبادرة وزير الخارجية الأمريكي السابق روجرز، والتي تهدف إلى وقف إطلاق النار بين مصر والاحتلال الإسرائيلي.
لعل الصادم في كلام عبد الناصر، رائد القومية العربية وزعيمها، هو حديثه عن أن على الفلسطينيين أن يقوموا بقضيتهم، وأن قضيته هي تحرير الأراضي المصرية التي احتُلت بعد هزيمة 1967، وإن كان الكلام اجتزئ من سياقه، إذ إن الرجل وللأمانة كان يعبر عن حالة إحباط لا استسلام، حتى ولو أن نيته كانت تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يخصهم من القضية العربية- الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يتم على أرض الواقع، ولا يدري أحد؛ لأن المنية كانت أسبق من أن ينفذ معتقده، أم أن كلامه في التسريبات كان من قبيل الغضب والكبت والإحباط، لا سيما وأن الهزيمة أوقعت رمزا كبيرا في مخيال الأمة العربية.
ويأتي الجدل حول التسريبات بسبب توقيت خروج هذه التسريبات، إذ إن الفلسطينيين ولا سيما المقاومة في غزة والضفة يعيشون أزمة كبيرة، جوهرها الخذلان؛ لا العدو والخسائر التي خلفها من عدوانه سواء على غزة أو الضفة، في وقت تطالبهم القوى العربية الكبرى؛ بأن يلقوا سلاحهم، ويتركوا مساحة لوقف العدوان من خلال مفاوضات إرضاء العدو، وهو ما أحدث هذا الجدل، سواء على مستوى الحاضر في دعوة العرب للمقاومة إلقاء سلاحها، أو على مستوى استشهاد من يرى ذلك بما تم تسريبه من لقاء عبد الناصر والقذافي، إذ يرى هؤلاء أن ذلك عين العقل، حيث يوفر قرار إلقاء السلاح وقف نزيف الدم والأرواح للمدنيين في غزة والضفة.
دارت السجالات بين من رأى أن عبد الناصر كان واعيا ومقدرا للموقف أكثر من كل حكام العرب، في حينها، وهو الخط الذي سار عليه السادات من بعده، ولحقه كل العرب فيما بعد، ما يؤكد رجاحة عقله وثبت زعامته، وأن القومية لا تعني العنترية أو سحب البلاد إلى مغامرات غير محسوبة، وبين من يرى أن مغامرات عبد الناصر أودت بالعرب إلى ما هم عليه الآن، وأنه سبب الهزيمة في 1967 وما قبلها، وأنه هو من أدخل العنترية واللامنطقية إلى ساحات السياسة، وأن إسقاط موقف عبد الناصر و"حكمته" على الحالة الفلسطينية اليوم لا يمت للعقل ولا مقتضى المنطق. كما أن بحث كل قُطر عن مصالحه والانكفاء على حل مشاكله، ليس واجب الوقت كما يدعي أصحاب الرأي الأول.
وبين هؤلاء وهؤلاء يبرز تساؤل كبير حول الهوية والقضية، وما إذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية العرب كلهم، كما يرى القوميون والعروبيون، أم هي قضية الفلسطينيين، كما يرى أنصار تيار التغريب والليبرالية و99 في المئة من خيوط القضية في يد أمريكا، أم هي قضية دين وعقيدة، كما يرى الإسلاميون، أم هي مسألة صراع سياسي كما كل الصراعات، كما يرى دعاة الحياد والأكاديمية.
لقد كانت القضية الفلسطينية بنت العروبية والإسلاموية، تتنازعاها، فالأول يرى أن أرض فلسطين هي أرض عربية اغتصبها شذاذ الآفاق وعلى القومية العربية أن تثبت هوية عروبتها، وهم في ذلك باحثون عن قضية جامعة رافعة لأيديولوجيتهم، التي جاءت على أنقاض الخلافة العثمانية "الإسلامية". فالقضية سابقة على ميلاد فكرهم بمئات السنين، وربما بما يقارب الألف عام، حين فتح عمر بن الخطاب القدس، لذا فإن الإسلاميين يرون أنها قضية إسلامية بدأت مع نزول الوحي وإسراء الله سبحانه بنبيه إلى المسجد الأقصى، وبالتالي هم أولى بالقضية من غيرهم. وعلى مستوى القضية الفلسطينية في العصر الحديث، فإن أول طلائع المقاومة على المستوى الشعبي، كانت مدفوعة بالعقيدة والتاريخ، وحتى على المستوى الرسمي، كما يقول البعض، كانت مدفوعة برغبة الملك فاروق في استعادة زعامة العالم الإسلامي بقيادة الجيش المصري للجيوش التي سافرت إلى فلسطين للذود عن حياض الأقصى وفلسطين.
القضية ليست يا سادة في تسريبات عبد الناصر، ولا من موقفه، ولا من الدفاع عنه أو إدانته، القضية بل الأزمة الحقيقية أننا كأمة أصبحنا لا نعرف من نحن، وماذا نريد. لقد مرت الأمة بقرن من أصعب القرون مرت عليها، وأصبح حالنا حال من يتخبطه الشيطان من المس، لا نعرف إن كنا عروبيين، أم إسلاميين، أم كما بعضنا انحاز إلى حضارة كانت على أرضه ولم يبق منها إلا بعض الحجارة والأساطير، فهذا فرعوني، وذاك آرامي، وهؤلاء سومريون، حتى أصبحنا أمة تبحث عن ذاتها، بل صار السؤال الكبير هو: هل نحن بالفعل أمة؟
هو السؤال الذي سنجيب عنه في سلسلة من المقالات إن شاء الله في الأسابيع القادمة..