د. صالح الفهدي
في خضمِّ أحاديثي عن الهُويَّة الوطنية؛ سواءً كانت مقالات أم مقاطع مرئية، تُبهجني الرُّدود التي تأتيني من مختلف أطياف المجتمع، وفئاته المختلفة، كما يسعدني التجاوبُ مع الطرحِ سيِّما وأنَّه يتعلَّقُ بهويَّتنا العُمانية، وخصوصية شعبها.
إنني أعتزُّ بكلِّ صوتٍ غيورٍ على عُمان؛ هويَّةً، وأصالةً، وتاريخًا، أعتزُّ بمن يحملُ في قلبه الغيرة على دينهِ، ووطنه، ولغتهِ، وتاريخه، وعراقته، وأعتزُّ بمن يرفعُ صوتهُ عاليًا بهذه الغيرة ليصحِّح مسارًا قد انحرفَ مشوِّهًا الهوية الوطنية التي نعتزُّ بها، وحاقنًا فيها مفاهيم مغلوطة، وأفكارًا غير سويَّة بحجَّةِ الانفتاح على الثقافات الأخرى.
أَفخرُ بكلِّ عمانيٍّ غيورٍ على مقدِّساته ومكتسباته، من الإرث العظيم الذي نلنا شرفه، وأكرمنا الله بعطائه، لنثبت على مبادئنا الشريفة في المواقف الصعبة، ولا نرضى لأنفسنا أن نُدفَعَ إلى التنازل عنها قيد أُنملة، بل نشعرُ أن تلك المباديءُ هي ذاتُنا، وجوهر هويتنا، بل هي وجودنا الأصيل على هذه الأرض.
إنَّ المهدِّدات المحدقة بالوطن باتت جسيمة، والتحديات عظيمة، بيدَ أن جبهة الوطن تقوى بغيرةِ أبنائه عليه، وعدم رضوخهم لتلكم المهدِّدات والتحديات، فأصواتهم عالية، وأفعالهم أكيدة، لا يرتضون لوطنهم أن يناله طاعنٌ بكلمةٍ، أو كائدٌ برصاصةٍ.
الغيرة الوطنية هي رأسُ مالنا في هذا الوطن، فهي كالسُّور الشاهق الذي يحمي مقدِّراتنا، وذواتنا، ولا شكَّ بأنَّ كل غيورٍ هو لبنة من لبنات ذلك السُّور العظيم.
لم يُصلح الأوطان، ولم يَبْنِها سوى الغيورين عليها من أبنائها الذين تحملهم الحميَّة على أن يدافعوا عن ما يمسُّ أوطانهم، وتعلو بهم النخوة للذود عن أوطانهم، وهم الأُصلاء الذين أخلصوا النيَّة والعمل لأوطانهم، غير راجين شكرًا ولا تقديرًا إنَّما باعثهم إلى ذلك سلامة أوطانهم، والحفاظ على مكتسباتهم، ومقدِّراتهم، وفي هذا تقول هديل عبدالمجيد الزير:"تتميَّز المجتمعات المتحضرة والأفراد الأصحاء بالشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع الذي يعيشونه، بغض النظر عن المردود النفعي على المستوى الشخصي المباشر، وبالحرص على المحافظة على سيرورة المجتمع من أي خلل قد يضرب القيم الأساسية فيه، وبالتحلي بمقدار كافي من الوعي يميِّز فيه الأفراد بالحد الفاصل الذي يفصل الحرية الشخصية عن المسؤولية الجماعية التي تقيِّدها".
أحترمُ كلَّ صوتٍ يرتفعُ مدوِّيًا لكلِّ هجمةٍ خسيسةٍ على الوطن غير خارجٍ عن طورِ الأدبِ الذي نشأ عليه، وأقدِّر كل شخصٍ غيورٍ على ما يمسُّ مجتمعهُ من سلوكيات منحرفة، أو تصرفات مخزية، وأشدُّ على يد كل صاحبِ مشروعٍ من أجل صيانة الهوية، والأخلاق، والآداب، واللغةِ، والقيم الوطنية.
إن الوطنيَّ المخلص هو الذي يغارُ على وطنهِ فيصدُّ الشَّماتةَ، ويردُّ المكيدةَ، ويدفعُ المكر، ويدتثُّ الشر. الوطني المخلص هو الذي يرقى فوق الأهواءِ والمصالحِ والأمزجة ليجعل مصلحة الوطن في مقدمةِ مصالحه. الوطني المخلص هو الذي يبرأ لوطنه من أيِّ تصرُّفٍ غير حميدٍ، وسلوكٍ غير سويٍّ، منزِّهًا وطنهُ من لغطِ الجاهلين، وخبث الكائدين.
نحن بحاجةٍ اليوم إلى إظهار غيرتنا على وطننا، وهويتنا التي يحتويها الوطن بما فيها من عناصرَ تشكِّل رؤوس أموالنا الحقيقية من عقيدةٍ، ولغةٍ، وتاريخٍ، وقيمٍ، على أن تكون غيرتنا متناغمةً مع مبادئنا السَّامية التي أنشأنا عليها وطننا فلن تبرَّر الغيرة الوطنية لمتهجِّمٍ بالألفاظِ، ولا لمتجاوزٍ في النقدِ، ولا لمتهوِّر في ردَّةِ الفعل، بل أن يجسِّد الغيور أنموذجًا راقيًا لقيم ومُثُل وطنه، فهو الحكيمُ إن ردَّ، الحصيفُ إن حاور، الكيِّسُ إن دافع.
نحن بحاجةٍ إلى الغيورين على الوطن فقد اختلطَ الحابل والنابل في وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن أصبحت هذه الوسائل مصدرًا من مصادر تشكيل ثقافات المجتمعات، وعنصرًا من عناصر إعادة غرس المفاهيم والأفكار فيها، كما تحوَّلت إلى أبواق تُنفثُ منها السُّموم لهذا وجبت الغيرة الوطنية لكي تزيح الباطل، وتُحقَّ الحقَّ، كما إنّها تمحِّصُ الزائفَ من الأَصيل، والغثَّ من السمين.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
صحف عالمية تغادر منصة إكس.. ما الذي حدث؟
القرارات الأخيرة التي اتخذتها وسائل إعلام كبرى مثل "الغارديان" و"لا فانغوارديا"، وأخرى متخصصة مثل "سيكس تك غايد"، بمغادرة منصة إكس، سلطت الضوء على معضلة جديدة تواجه الإعلام العالمي: هل عليهم البقاء على منصة شعبية أصبحت مصدرًا رئيسيًا للأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية للحفاظ على أهميتهم؟ أم يغادرونها حفاظًا على مسؤولياتهم الأخلاقية؟
كانت منصة إكس (المعروفة سابقًا باسم تويتر) هي المكان المفضل لأي نقاش عالمي، لكنها شهدت تحولًا كبيرًا في سمعتها تحت قيادة الملياردير الجنوب أفريقي إيلون ماسك، الذي يصف نفسه بأنه "مدافع مطلق عن حرية التعبير".
هذا التدهور الأخلاقي لمنصة إكس تفاقم بشكل كبير مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، إذ أعلن ماسك عن دعمه الواضح لدونالد ترامب وحركة "اجعل أميركا عظيمة مجددًا"، مما حول المنصة إلى منبر لنشر الكراهية، العنصرية، وكراهية الأجانب.
مع بروز حسابات النازيين الجدد والقوميين البيض، وظهور السلوكيات العنصرية، وعمليات الكشف التعسفي عن البيانات الشخصية (doxxing)، وغيرها من الإساءة اليومية على المنصة، قرر العديد من وسائل الإعلام – بالإضافة إلى ملايين المستخدمين – مغادرة إكس بشكل نهائي. بالنسبة لهم، فإن مغادرة إكس كانت تعبيرًا واضحًا عن موقف أخلاقي ضد العنصرية والكراهية، وضد إساءة استخدام منصة كانت تُعتبر في السابق الساحة العامة العالمية.
إعلانولكن، هل يمثل انتقال وسائل الإعلام إلى بدائل، مثل: "بلوسكاي" حلًا حقيقيًا؟ أم أن ذلك يخلق مشكلات جديدة، مثل الفقاعات الأيديولوجية، والخسائر المالية، وتراجع التأثير؟
بالنسبة للكثيرين، فإن البقاء على إكس يُعتبر بمثابة موافقة ضمنية على الاتجاه الذي اتخذته المنصة تحت قيادة ماسك. بالنسبة لبعض وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تتفاخر بهويتها التقدمية وقيمها الصحفية، فإن الانتماء إلى منصة مرتبطة بالجدل وبدعم ترامب أمر غير مقبول.
ولكن لا تزال منصة إكس تمتلك جمهورًا عالميًا واسعًا لا يمكن لأي منصة اجتماعية أخرى أن تضاهيه. قدرتها على الوصول إلى جمهور عالمي وتعزيز الرسائل لا يمكن تجاهلها. المغادرة الكاملة قد تعني قطع الصلة مع جمهور ضخم ما زال يعتمد على المنصة للحصول على الأخبار، مما قد يترك فراغًا يمكن أن تملأه مصادر أقل مصداقية أو حتى ماكينات الأخبار الكاذبة.
بالنسبة لأولئك الذين قرروا مغادرة إكس، ظهرت منصة "بلوسكاي" كخيار جذاب. هذه المنصة اللامركزية تقدم بيئة تكون فيها الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية أقل انتشارًا. هيكلها يَعِد بحوارات أكثر صحة وتوافقًا مع القيم. النقطة ليست أن "بلوسكاي" خالية تمامًا من الأخبار الزائفة أو خطاب الكراهية، ولكن طريقة عملها تقلل من انتشار هذا المحتوى بدلًا من الترويج له. بالإضافة إلى ذلك، توفر أدوات إضافية للمستخدمين للتحكم بشكل أفضل في المعلومات والمحتوى الذي يستهلكونه.
لكن "بلوسكاي" ليست خالية من العيوب. قاعدة مستخدميها أصغر بكثير، ونطاقها الجغرافي أكثر اعتدالًا مقارنة بـ "إكس". كما أن تصميمها، بحسب النقاد، قد يُخاطر بخلق فقاعات أيديولوجية: إذا أصبحت "بلوسكاي" ملاذًا للمستخدمين الليبراليين والصحفيين بشكل أساسي، فقد تؤدي إلى تكرار نفس الديناميكيات المعزولة التي يقول النقاد إنها تؤثر على المنصات البديلة الأخرى.
إعلانولكن، ينهار هذا النقد عندما نفكر في البديل الذي تقدمه إكس لـ"فقاعات" بلوسكاي المزعومة: منصة مفتوحة لجميع الأيديولوجيات، لكنها مدفوعة بالكراهية.
كما كتب الصحفي والأستاذ مارسيلو سواريز، "إكس ليست ساحة عامة، إنها مركز تسوق. لا توجد مناقشات حقيقية في مركز تسوق".
بخلاف إكس، التي تعتمد على إشعال الصراعات لزيادة التفاعل، تتيح بلوسكاي للمستخدمين السيطرة على تجربتهم، واختيار ما يظهر على صفحاتهم الخاصة دون تدخل خوارزمي. إذا اختار أحدهم العيش في "فقاعة"، فهذا قرار شخصي، وليس نتيجة لفرض هيكلي.
وفي المقابل، فإن بديل إكس للفقاعات يستبدل الاتصال بالعدائية، مما يحول المنصة إلى ساحة معارك بدلًا من مساحة للحوار.
هناك حجج أخرى ضد الانتقال الجماعي من إكس إلى "بلوسكاي". كما لاحظت الصحفية صوفيا سميث غالر على LinkedIn، فإن بلوسكاي منصة صُممت لتلبية احتياجات الصحفيين أكثر من جماهيرهم.
تذكرنا هذه الديناميكية بالعصر الذي كان فيه الصحفيون يهيمنون على منظومة تويتر، حيث كانوا يتفاعلون أساسًا مع بعضهم البعض. هذه الديناميكية، على الرغم من أنها مريحة للصحفيين، قد لا تترجم إلى تفاعل ذي مغزى مع الجمهور في عالم يتجه أكثر نحو المنصات المعتمدة على الفيديو مثل تيك توك، يوتيوب، وإنستغرام.
فتح حساب على بلوسكاي قد يكون إيجابيًا للصحفيين الذين يمكنهم التفاعل مع زملاء ذوي فكر مشابه دون مواجهة المضايقات من النازيين الجدد أو منظري المؤامرة. ولكن، هل توفر بديلًا حقيقيًا لـ "إكس" بالنسبة للمنظمات الإعلامية التي تحتاج إلى مشاركة محتواها مع جمهور أوسع وأكثر تنوعًا؟
ترك منصة إكس له أيضًا تداعيات عملية ومالية على وسائل الإعلام. لا تزال منصة ماسك تُعد مصدرًا رئيسيًا للإيرادات الإعلانية. قاعدة إكس الجماهيرية الواسعة تجعلها منصة حيوية لجذب الزوار إلى المواقع الإخبارية وجذب المعلنين.
إعلانالتخلي عنها قد يؤدي إلى انخفاض التفاعل مع الجمهور، مما يؤثر على الإيرادات. أما "بلوسكاي"، و"ثريدز"، والمنصات البديلة الأخرى، فلا تزال في مراحلها المبكرة. قاعدتها الجماهيرية الصغرى، وإمكاناتها الإعلانية المحدودة، تجعلها أقل جاذبية للمؤسسات التي تعتمد على الانتشار الواسع لدعم عملياتها.
لحسن الحظ، فإن تصرفات ماسك على إكس، وعلى الساحة السياسية العالمية، تدفع الكثيرين بعيدًا عن المنصة. العديد من هؤلاء يجدون ملاذًا على بلوسكاي، مما يعني أن هذه المنصة قد تصبح يومًا ما مفيدة ومربحة مثل إكس بالنسبة لوسائل الإعلام. إذا اكتمل الخروج من إكس، وغادر كل من يعترض على تمرير الأخبار الزائفة والدعاية والكراهية كأخبار، فلن يكون لدى وسائل الإعلام الجادة أي سبب للبقاء هناك.
الخروج من إكس يعكس أكثر من مجرد تغيير في إستراتيجية وسائل الإعلام على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه انعكاس للتحديات الأوسع التي تواجه الصحافة في العصر الرقمي.
وبينما تقدم منصات مثل "بلوسكاي" بصيص أمل، إلا أنها ليست الحل لجميع المشكلات التي تواجهها الصحافة اليوم. يتطلب الطريق إلى الأمام توازنًا دقيقًا: احتضان الابتكار دون التضحية بالقيم الأساسية للصحافة، والانضمام إلى شبكات اجتماعية أقل سمية، دون التخلي عن الجمهور.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية