د. الشفيع خضر سعيد
فعلا، كما قال الدبلوماسي السوداني الوطني الحصيف، رفض الذهاب إلى محادثات جنيف أمر لا يتسم بالحكمة، ودائما الأفضل أن تذهب الأطراف المتصارعة، والتي كل المؤشرات تشير إلى استحالة حسم صراعاتها بانتصار طرف على الطرف الآخر، بينما المنتصر هو دمار الوطن وهلاك الناس، الأفضل أن تذهب إلى حل صراعاتها هذه عبر التفاوض دون قيد أو شرط، وأن تضع على طاولة التفاوض كل شروطها وطلباتها.
هذا هو المطلب الأول والرئيسي للشعب السوداني الذي يريد من الطرفين وقفا لإطلاق النار وتدفقا للمساعدات الإنسانية درءا للمجاعة وتفشي الأوبئة، مثلما يأمل أن تتوقف الجرائم والانتهاكات المريعة والتي لقوات الدعم السريع القدح المعلى فيها. والشعب السوداني مصمم تماما أن الذهاب إلى جنيف أبدا لا يعني القبول والتسليم بعودة الأطراف المتحاربة إلى نفس مكانتها وأوضاعها قبل الحرب فيما يختص بإدارة السياسة في البلد. فكما كررنا كثيرا، لا القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها من الحركات المسلحة، ولا قوات الدعم السريع وحلفاؤها من الحركات المسلحة، هم من سيحددون مصير السودان ومستقبله السياسي، فهذه مسؤولية القوى المدنية والسياسية السودانية وحدها، وهي المناط بها تصميم وقيادة العملية السياسية والتي بدونها لن تضع الحرب أوزارها.
إن انتقادنا لتلكؤ بورتسودان في الذهاب إلى جنيف لن ينفي إشارتنا إلى أن طلب السودان إجراء لقاءات تشاورية مع الولايات المتحدة قبل لقاء جنيف المقترح، هو طلب مشروع، بل وضروري وكان لابد منه، لأن من شروط نجاح أي لقاء أو حوار أو تفاوض بين أطراف متصارعة، عسكريا أو سلميا، أن تسبقه مشاورات واسعة يجريها الوسيط مع هذه الأطراف، يتم فيها الاتفاق على طبيعة اللقاء وأهدافه وجدول أعماله وكيفية إدارته ومستوى الوفود المشاركة…الخ، وذلك على النحو الذي أوردناه في مقالنا الأسبق. صحيح تم الانتباه إلى هذه النقطة في الثواني الأخيرة والتي احتضنت لقاء جدة التمهيدي، ولكن كما كان متوقعا، جاء اللقاء مخيبا للآمال ومضاعفا للشحنة السالبة، حسب فهمنا لتقرير رئيس وفد حكومة بورتسودان الذي قدمه إلى الوسائط الاجتماعية قبل تقديمه إلى قيادته في بورتسودان، مشفوعا بتوصية مقاطعة جنيف. من ناحية أخرى بدا لنا الأمر وكأن الجانب الأمريكي، لا يملك استراتيجية متكاملة حول العملية التفاوضية ومراحلها.
وفي كل الأحوال، إذا التأم منبر جنيف الراهن أم لم يلتئم، أرى ضرورة وأهمية أن يعكف الطرفان، السوداني والأمريكي، على الدخول في مناقشات ثنائية قبل أي جولات قادمة، علها تسهم إيجابا في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، وتلافي بعض الأخطاء والعثرات التي لازمت تعامل الجانب الأمريكي مع الشأن السوداني. فمن خلال هذه اللقاءات يمكن أن يقدم الجانب الأمريكي تصورا كاملا حول الموقف من تنفيذ اتفاق جدة، مايو/أيار 2023، وأن يتقدم بمواقف أكثر عمقا وصراحة حيال المطالب والتساؤلات السودانية.
الشعب السوداني مصمم تماما أن الذهاب إلى جنيف أبدا لا يعني القبول والتسليم بعودة الأطراف المتحاربة إلى نفس مكانتها وأوضاعها قبل الحرب فيما يختص بإدارة السياسة في البلد
ومن ناحية أخرى، فإن أي مباحثات أو تفاهمات مع الإدارة الأمريكية يجب ألا تنفصل أو تكون بمعزل عن الرؤية الاستراتيجية الكلية للجانب السوداني في إدارة ملف التفاوض، بل هي أولى خطواته الأساسية والهامة، واضعين في الاعتبار انعكاس هذه التفاهمات وتأثيراتها في المفاوضات مع قوات الدعم السريع.
هذا الأمر لم يتحقق في جدة، ولن يتحقق إذا ظلت الأمور على حالها دون تغيير ودون وجود رؤية واضحة وموحدة عند الجانب السوداني تجاه ما ينبغي عمله والوصول إليه.
بالنسبة للقاء جنيف الراهن، كان واضحا منذ البداية ضرورة التشاور حول المراقبين، مصر والإمارات، من حيث قبول الطرفين لهما ولدورهما وصلاحياتهما في اللقاء. ومع ذلك، ليس مفهوما، بل ومستغربا، اعتراض السودان على وجود الإمارات كمراقب في المحادثات.
فالقاصي والداني يدركان أنه ليس متصورا حدوث اختراق جدي في ملف حرب السودان بمعزل عن دولة الإمارات التي يهمها مسار التفاوض ونتائجه لعلاقتها الوطيدة بما يجري في السودان. وهي ظلت تربطها علاقات وطيدة مع قيادات طرفي الحرب قبل أن تتحدث التقارير عن دعمها العسكري المباشر لقوات الدعم السريع.
وفي الحقيقة، كان ولايزال من الضروري، في إطار التمهيد لأي منبر تفاوضي، إجراء محادثات مباشرة وصريحة بين السودان والإمارات حول دور الأخيرة في الحرب، وذلك بدلا عن التصريحات المتشنجة والتي لا طائل منها ولا تعكس سوى الشعبوية ممزوجة بغياب الحساسية القيادية تجاه ما يحدث في الوطن من هلاك ودمار. وكان ظننا أن الاتصال التلفوني بين الفريق عبد الفتاح البرهان والشيخ محمد بن زايد جاء بمثابة إشارة لبدء محادثات عميقة بين الدولتين حول لماذا تدعم الإمارات قوات الدعم السريع، وماذا تريد من السودان.
أما مصر، فأيضا ليس متصورا حدوث اختراق جدي في ملف الحرب بمعزل عنها. فبالإضافة إلى وشائج الصلة والعلاقات التاريخية والتكاملية مع السودان، تنظر مصر إلى الأمر من باب حماية أمنها القومي في ظل التوترات السياسية والعسكرية المتصاعدة على حدودها مع إسرائيل ومع ليبيا وفي البحر الأحمر، وكذلك التوترات المتعلقة بمياه النيل، إضافة إلى ما تعانيه من استنزاف في مواردها بسبب استقبالها لأعداد مهولة من طالبي الأمن والأمان القادمين من سوريا والسودان وفلسطين وليبيا واليمن ودول أخرى.
وبالنظر إلى الأهمية القصوى لمسألة الأمن القومي هذه، يمكننا تفهم علاقة مصر الوطيدة مع القوات المسلحة السودانية وتمسكها بوحدتها باعتبارها المؤسسة العسكرية الشرعية في البلد.
وكما أشرنا في مقالات سابقة، فإن ما يعزز من دلالات حديثنا هذا هو أن وجود مصر والإمارات في محادثات العاصمة البحرينية المنامة كان مفصليا في ولادة ذلك الاتفاق الموقع بالأحرف الأولى ولكنه قتل في مهده.
نقلا عن االقدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع الذهاب إلى إلى جنیف
إقرأ أيضاً:
من يدعم بقاء السودان موحدا هو من يدعم بقاء الدولة
بعض القوى السياسية من جماعة (تقدم) وتحديدا من عناصر فيهم أكثر تحالفا مع مليشيا الدعم السريع تسعى لتشكيل حكومة، هناك مقولة تهكمية في رواية (مزرعة الحيوان) ننسج على منوالها هذه العبارة: (كل جماعة تقدم حلفاء للدعم السريع إلا أن بعضهم أكثر تحالفا من الآخرين)، المقولة الأصلية هي (كل الحيوانات متساوية إلا أن بعض الحيوانات أكثر مساواة من الآخرين)، هي مقولة من القواعد التي وضعتها (الخنازير) بعد ثورتها التي صورها الأديب الإنجليزي الساخر جورج أورويل.
من المهم أن تبدأ هذه الجماعة مراجعات كبيرة وجذرية، فمن يرغب منهم في تشكيل حكومة موازية لحكومة السودان الواقعية والمعترف بها ليس بريئا من حالة عامة من غياب الرشد الوطني والتمادي بالصراع لأقصى مدى هذا نوع من إدمان حالة المعارضة والاحتجاج دون وعي وفكر. وهؤلاء لا يمكن لجماعة تقدم نكران أنهم جزء منها بأي حال.
الخطأ مركب يبدأ من مرحلة ما قبل الحرب، لأن السبب الرئيس للحرب هو تلك الممارسة السياسية السابقة للحرب. ممارسة دفعت التناقضات نحو مداها الأقصى، وهددت أمن البلاد وضربت مؤسساتها الأمنية، لقد كان مخططا كبيرا لم ينتبه له أولئك الناشطون الغارقون في حالة عصابية مرضية حول الكيزان والإسلاميين، حالة موروثة من زمن شارع المين بجامعة الخرطوم وقد ظنوا أن السودان هو شارع المين.
ثمة تحالف وتطابق في الخطاب وتفاهم عميق منذ بداية الحرب بين الدعم السريع وجماعة تقدم، واليوم ومع بروز تناقضات داخل هذا التحالف بين من يدعو لتشكيل حكومة وبين من يرفض ذلك، فإننا أمام حالة خطيرة ونتيجة منطقية للسردية الخاطئة منذ بداية الحرب.
الحرب اليوم بتعريفها الشامل هي حرب الدولة ضد اللادولة، آيدلوجيا الدولة دفاعية استيعابية للجميع وتري فيها تنوع السودان كله، ولم تنقطع فيها حتى سبل الوصل مع من يظن بهم أنهم من حواضن للمليشيا، هذه حقيقة ملموسة. أما آيدلوجيا المليشيا هجومية عنيفة عنصرية غارقة في خطاب الكراهية، وتجد تبريراتها في خطاب قديم مستهلك يسمى خطاب (المظلومية والهامش).
من يدعم بقاء السودان موحدا هو من يدعم بقاء الدولة، وكيفما كانت تسميته للأمور: وقف الحرب، بناء السلام، النصر…الخ، أو غير ذلك المهم أنه يتخذ موقفا يدعم مؤسسة الدولة القائمة منحازا لها، من يتباعد عن هذا الموقف ويردد دعاية الدعم السريع وأسياده في الإقليم فإنه يدعم تفكيك السودان وحصاره.
نفهم جيدا كيف يمكن أن يستخدم مشروع المليشيا غير الوطني تناقضات الواقع، والأبعاد الاجتماعية والعرقية والإثنية، لكنه يسيء فهمها ويضعها في سياق مضلل هادفا لتفكيك الدولة وهناك إرث وأدبيات كثيره تساعده في ذلك، لكننا أيضا نفهم أن التناقض الرئيس ليس تناقضا حول العرق والإثنية بل حول ماهو وطني وما ليس وطني، بكل المعاني التي تثيرها هذه العبارات.
عليه ومهما عقدوا الأمور بحكومة وهمية للمليشيا مدعومة من الخارج، ومهما فعلوا سيظل السودان يقاتل من أجل سيادته وحريته ووطنيته والواقع يقول أن دارفور نفسها ليست ملكا للمليشيا، وأن الضعين نفسها هي جزء من السودان الذي يجب أن يتحرر ويستقل ويمتلك سيادته عزيزا حرا بلا وصاية.
والله أكبر والعزة للسودان.
هشام عثمان الشواني
إنضم لقناة النيلين على واتساب