سودانايل:
2025-11-01@17:32:02 GMT

فن إحراز الأهداف من على دائرة السنتر

تاريخ النشر: 19th, August 2024 GMT

•     مما عرف عن أبي الغابات كامل شوقي أنه قد نشأ في اسرة من أعمدتها عمه محمد علي شوقي أحد بناة حزب الأمة، وخاله ووالد زوجته القطب الاتحادي المعروف يحي الفضلي. ومما عرف عنه كذلك طبيعته وضيقه من لولبية السياسة ولكلكة السياسيين كما كان يقول عن نفسه رحمه الله، وكردة فعل لذلك فقد اتخذ لنفسه نهجاً وسطا، بين نهج عمه القطب الاستقلالي ونهج خاله القطب الاتحادي، حفظ له "مسافة آمنه" أكسبته الاستقلالية بعيداً عنهما.


•     إن في عملية استحداث "مسافة آمنة" في العلاقات الإنسانية هي في حد ذاتها معضلة من معضلات الإنسان الاجتماعية النفسية كما يراها ويصفها الفيلسوف الألماني شوبنهاور، الذي كان هو أول من لاحظ كيفية نشوء علاقة "مسافة آمنة" بين كائنات حية في الطبيعة، وذلك حينما لاحظ في ذات يوم شتوي بارد من أيام شتاء عام 1851م، تراص قطيع من القنافذ بعضها لصق بعض طلباً للدفء. ولكنّها لما أحست بطعنات أشواكها تباعدتْ عن بعضها. وحين أضطرها البرد إلى الاقتراب من بعضها مجدداً، ما لبثت أن أحست بوخز الأشواك فتباعدت. وهكذا استمرت العملية ما بين تقارب وتباعد إلى أنْ توصلت في النهاية إلى المسافة الآمنة ضمنت لها الدفء دون حدوث أذى من الأشواك.
•     هذه العملية التي لاجظها شوينهوار على القنافذ والتي أسماها "معضلة القنفذ"، هي كناية عن حالة الفرد في المجتمع الإنساني فبالرغم من توفر نواياه الحسنة في علاقته بالآخرين إلا أن علاقاته بهم لا يمكن أن تحدث دون حدوث أذى متبادل يؤدي إلى ضعف هذه العلاقات، فليت شعري كيف تمكن أبو الغابات من تأسيس هذه العلاقة في عقر داره، ونجح مع ذلك في تأمين الدفء الأسري لنفسه والتمتع باستقلالية القرار في ذات الوقت، فات عليَّ أن أسأله رحمه الله.
•     من حكاوى نهج الوسطية القائم على فلسفة "المسافة الآمنة" التي انتهجها أبو الغابات رحمه الله، ما حدث في عام 1965م حينما اختلفت عضوية حكومة حزبي الأمة والاتحادي الائتلافية حول مَن عساه يدير هيئة توفير المياه ذات الفاعلية العالية في جلب الأصوات الانتخابية والمنشأة حديثاً وقتها، إذ لم تتفق هذه العضوية على خيار آخر وسطاً أفضل منه.
•     من مظاهر نهج لوسطيته القائم على فلسفة "المسافة الآمنة" التي انتهجها أبو الغابات كذلك أن بعض النافذين في حزب الأمة بما فيهم الوزير المسؤول عنه كمال عبد الله الفاضل المهدي طلبوا منه تعيين عضو الحزب بدرالدين هباني نائباً له، فكان رده الأولي: ربنا يهون. ولما تمت ملاحقته من قبل الوزير، لم يجد بداً من مصارحته بعدم الرغبة في تعيينه بحجة أن الهيئة قد نشأت في الأصل على أسس تفادي الخلافات السياسية.
•     بالمقابل تقدم له بعض النافذين الاتحاديين بطلب لتعيين محمد الأزهري، فذكر ذلك لخاله يحيى الفضلي وهما في الطريق لمناسبة اجتماعية فكان تعليق الفضلي: كمان عندك كلام. فرد أبو الغابات: وألف كلام، لأني لم أستشيرك وإنما أخبرتك للعلم للعلاقة التي تربطني بك، وحتى تكون على بينة عندما يصلك الخبر، فكان تعليق الفضلي مستسلماً: إنتو الموظفين بتفتكروا إيه؟
•     كان حسن عثمان قاسم نائب حزب الأمة في دائرة انتخابية مجاورة لدائرة جعفر قريش الاتحادي، ولكن لما تبين للشركة المصرية التي كانت تقوم بعمليات حفر الآبار أن أرض دائرة حسن قاسم صماء بعكس أرض دائرة جعفر قريش في بارا فقد تحولت الشركة إلى بارا، ولإزالة ما قد يطرأ من سوء فهم خاصة وأن الشركة التي تباشر عمليات الحفر مصرية والذين هم من أحباب الاتحاديين، وفي ظل وجود لغط بأن الهيئة "تُصَمِّت" آبار حزب الأمة وتُفَتِّح آبار الاتحاديين، فقد تأبط أبو الغابات خرطه التي توضح مناطق الصخور الصماء وتلك الرسوبية التي تحمل الماء، وبعد أن قام برسم الدوائر الانتخابية بالسلفان على الخرط توجه إلى حيث مقابلة السيد الإمام ليطلعه على أن المشكلة فنية، ولكن ما أن أفرد خرطه حتى بادره وزير حزب الأمة للحكومات المحلية وقتذاك السيد محمد داؤود الخليفة الذي حضر اللقاء بقوله: يعني هل هذا يبرر موقفك؟ الطريف أن كلا الفريقين، الأمة والاتحادي، كان ينظر لأبي الغابات وكأنه من شيعته، منتهى الحرفنة في الوسطية من أبي الغابات.
•     من نجاحات وسطية أبي الغابات التي تأسست على فلسفة "المسافة الآمنة"، والتي مكنته من الحفاظ على الغابات بصفته كبير محافظي الغابات (هذا مسمى وظيفة مدير الغابات قبل الاستقلال) في فجر الاستقلال، هذه الحكاية التي حدثت له حينما رنَّ جرس هاتف مكتبه في ذات صباح باكر لينقل إليه صوت زعيم الأمة الخالد إسماعيل الازهري رئيس الوزراء حينها وأستاذه في كلية غردون سابقاً. وبعد التحايا الصباحية العطرات، يقول أبو الغابات، بادرني الزعيم بصوت آمر النبرات: "لقد منحنا غابة "بانكيو" للشيخ عبد الباقي، يقول أبو الغابات بالرغم مما شعرت به من سعادة بالغة ونشوة ملأت عليَّ جوانحي لشرف محادثة رئيس وزراء سودان ما بعد الاستقلال إلا أنني لم أتردد لحظة في أن أرد عليه قائلاً: "أتمنى سيادة الرئيس أن تصبح أعظم رئيس على وجه الكرة الأرضية، أعظم وأكبر من أيزنهاور (كان رئيساً لأمريكا وقتها)، ولكني لا أتمنى أن تكون لكم سلطة تستخدمونها في منح ثروات وموارد عامة للخاصة من الناس". ويضيف أـبو الغابات: "وأرفع قبعتي تقديراً للزعيم الخالد، إذ لم أسمع منه عن هذا الموضوع بعد ذلك أبداً. وبعد أيام معدودات إذا بجرس هاتف مكتبي يرنُّ، يقول أبو الغابات، لينقل لي هذه المرة صوت ثاني رئيس وزراء للسودان بعد الاستقلال الزعيم الاميرال عبد الله خليل، الذي خلفت حكومته حكومة الأزهري بعد سقوطها المفاجئ بعد لقاء السيدين. وبعد التحايا والسلام، يبادرني سيادته بصوته العسكري الحازم: "لقد منحنا غابة "بانكيو" للشيخ عبد الباقي. ولم أتردد -يقول أبو الغابات- في أن أكرر على مسامع سيادته ما قلته للزعيم الأزهري". ومرة أخرى أرفع قبعتي إكباراً للزعيم عبد الله خليل كما رفعتها من قبل للزعيم الأزهري، إذ لم أسمع عن غابة "بانكيو" بعد ذلك إطلاقاً من أي منهما.
•     لم تكن الوسطية تعني في قاموس أبي الغابات الحيادية السلبية، ويمكن القول بإنها لم تمكن أبا الغابات من الحفاظ على الغابات فحسب بل مكنته من تحقيق الإنجازات كذلك. فقد مكنته على سبيل المثال من ترفيع الغابات من قسم إلى مصلحة، ومن تمتين قواعدها كمؤسسة ومهنة، ومن ابتدار البحوث وابتعاث الكوادر إلى جامعات العالم ذات الصيت. كما مكنته بأمر الزعيم الأزهري من نقل مصلحة الغابات من مقرها السابق بمبنى الوزارة الحالي بشارع الجامعة إلى مقر الهيئة القومية للغابات الحالي بشارع كاترينا بالخرطوم 2، وتمثل المسافة الفاصلة ما بين شارعي الجامعة وكترينا رمزية "للمسافة الآمنة" التي ابتدعها أبو الغابات في العلاقات ما بين الغابات كمؤسسة والزراعة كوزارة مشرفة.
•     للذين لم يدركوا عهد أبي الغابات ولم يستمتعوا بفنون وسطيته التي مكنته من إحراز الأهداف من على دائرة السنتر، نوصيهم بالاستئناس بسيرته الذاتية التي جمعتها الدكتورة النابهة نوال خضر موسى من إعلام الغابات، وبمنجزاته التي وثق لها شيخ شيوخ قبيلة غابات السودان البروفيسور حسن عثمان عبد النور.

تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.

عبد العظيم ميرغني

noradin@msn.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

ليست وجاهة.. خطيب المسجد النبوي: المكانة التي يصل إليها المؤثرون نعمة

قال الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي، إمام وخطيب المسجد النبوي، إن في هذا العصر الرقمي المتسارع، تشعبت المنصات، وتعددت النوافذ فأصبح الصوت الواحد يُسمع في لحظات.

العصر الرقمي

وأضاف "الثبيتي" خلال خطبة الجمعة الثانية من شهر جمادي الأول اليوم من المسجد النبوي بالمدينة المنورة، أنه يصل صداه إلى الآلاف، وربما الملايين، وبرزت وجوه وشخصيات لها تأثير وحضور عبر نوافذها الشخصية.

وأشار إلى أن قدراتها التقنية نالت القبول لأسباب متعددة: إخلاص في العطاء، أو حكمة في القول، أو نفع للناس، أو صدق في تمثيل قيم الدين، وتحصين الوطن، أو روح تبعث على العمل والتفاؤل.

وأفاد بأن هؤلاء هم من يطلق عليهم اليوم "المؤثرون"، والمشهورون في مجتمعاتهم، وليس التأثير محصورًا فيمن يحمل لقبًا أو شهادة، بل هو في حقيقته كل من يتابعه الناس.

وتابع: ويصغون إليه، ويتأثرون بكلمته، أو سلوكه، أو فكرته، أو حتى طريقته في الحياة، منوهًا بأن المكانة التي يصل إليها المؤثر نعمة، ومن النعم ما يعلو شأنه إذا قرن بالمسؤولية.

حسن هذه النعمة

وأوضح أن حسن هذه النعمة أن يستشعر أنها أمانة، وأن يقدر ما تحمله من تبعات دينية وأخلاقية ووطنية، مشيرًا إلى أنه ليس التأثير وجاهة، بل تكليف خفي يقاس بعمق الأثر النافع، لا بعدد المتابعين.

وبين أن المؤمن الحق يعلم أن الأثر الصادق هو ما يصلح ولا يُفسد، ويُوحد ولا يُفرّق، منبهًا  إلى أن ما أجمل أن يدرك صاحب التأثير، أن ما بين يديه قد يكون من أثقل ما يوضع في ميزانه، إن نوى به نفع الناس، وتخفيف آلامهم، وبث الأمل فيهم.

وأردف: وربطهم بربهم، وتنبيههم إلى ذواتهم، وشحذ هممهم للتنمية، وإنارة عقولهم بالعلم، وإيقاظ قلوبهم بنور الإيمان، فكم من كلمة صدق أحيت قلبًا خامدًا، وكم من موقف أخلاق أصلح بيتًا مضطربًا، وكم من مبادرة خير رفعت أمة، وأحيت روح التعاون في وطن كريم.

يُراجع نفسه في ما ينشر 

واستطرد: فإذا علم أن كلمته قد تغير مجرى حياة، أو أن مقطعًا عابرًا من يومياته قد يعيد تشكيل سلوك، أو أن تعليقًا عفويًا قد يصبح قرارًا في قلب متابع، فإنه من وعيه وصدقه يُعيد النظر فيما ينتج، ويُراجع نفسه في كل ما ينشر .

واستشهد بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه).

ونبه إلى أن المؤثر أصبح شريكًا في تربية النفوس، فأحرى به أن يكون على قدر هذه الشراكة، فيزرع القيم، ويُنير الطريق، ويُشجع على العمل النافع، ويغرس في النفوس حب البناء، وروح الألفة، ونبل الانتماء.

ولفت إلى أنه ليكن لخطابه أثر في صناعة الإنسان الصالح الذي يُعمر الأرض بالإيمان والعمل، نعم، في ساحتنا الإعلامية اليوم فئة مباركة، اتخذت من منصاتها منبرًا تفيض رسالتها بالخير في مجالات منها الدين والتربية والأخلاق والصحة والهوية والانتماء، والأمن؛ تحمل في محتواها روح الرحمة، وتستشعر مسؤوليتها في بناء جيل متوازن يحب دينه وأمته ووطنه.

وأوصى المسلمين في خطبته بتقوى الله ومراقبته، فإنها زاد المؤمن في دينه، وحرزه عند لقاء مولاه من تمسك بها سعد، ومن أعرض عنها شقي وابتعد.

طباعة شارك خطيب المسجد النبوي إمام وخطيب المسجد النبوي الثبيتي خطبة الجمعة من المسجد النبوي العصر الرقمي

مقالات مشابهة

  • نيابة الدراسات العليا بجامعة الحديدة تنظم صباحية شعرية بذكرى سنوية الشهيد
  • فعالية ثقافية لفرعي النفط والغاز في ذمار بالذكرى السنوية للشهيد
  • تراجع إزالة الغابات في الأمازون بالبرازيل رغم الحرائق القياسية
  • مسيرات ووقفات في ريمة وفاءً لدماء الشهداء وثباتاً على الموقف وتأكيداً على الجاهزية
  • ليست وجاهة.. خطيب المسجد النبوي: المكانة التي يصل إليها المؤثرون نعمة
  • هم يراهنون على وعد ترامب ونحن نراهن على وعد الربّ سبحانه
  • دم الشهيد سبب في الحرية والاستقلال
  • وقفة لقبائل المغلاف بالحديدة وفاء للشهداء وتأكيدا على استمرار النفير
  • وقفة لقبائل المغلاف بالحديدة وفاء للشهداء وتأكيدا على استمرار النفير في مواجهة الأعداء
  • 2,7 مليون هكتار.. الفاو تشيد بغابات السعودية في مواجهة التغير المناخي