كان إبراهيم المازنى (1889–1949) وهنرى لويس مِنكِن Henry Louis Mencken (1880–1956) شخصيتين مؤثرتين فى ثقافتهما المختلفة، ومعروفين ببراعتهما فى السخرية وتحليلهما النقدى للمجتمع. على الرغم من أنهما جاءا من أجزاء مختلفة من العالم – المازنى من مصر ومِنكِن من الولايات المتحدة – فإن أعمالهما تتشارك فى تشابهات لافتة فى النهج تجاه النقد الاجتماعى والثقافي، والأسلوب الأدبى.

وُلد إبراهيم المازنى فى القاهرة فى وقت كانت فيه البلاد تحت الحكم الاستعمارى البريطانى. تلقى تعليمه الأولى فى جامعة الأزهر ثم فى دار المعلمين فى القاهرة، مما أتاح له التعرف على كل من التقاليد الأدبية الإسلامية والغربية. تأثرت أعمال المازنى بالنهضة الفكرية والثقافية فى مصر التى سعت إلى التوفيق بين التراث العربي-الإسلامى التقليدى والحداثة والتأثير الغربى.

أما هنرى لويس مِنكِن، فقد وُلد فى بالتيمور، ميريلاند، فى فترة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية. نشأ فى عائلة ألمانية-أمريكية وتأثر بشدة بالثقافة واللغة الألمانية. إزدهرت مسيرة مِنكِن كصحفى وكاتب مقال خلال عشرينيات القرن الماضي، وهى فترة شهدت تغيرات اجتماعية كبيرة فى أمريكا. غالباً ما كانت أعماله تعكس التوترات فى مجتمع يتجه بسرعة نحو الحداثة، لا سيما الصراعات بين القيم التقليدية والحركات الثقافية الجديدة.

يقول إبراهيم المازنى انّنا فى عالم الأدب والفنون، نجد تجليات عميقة للإنسانية تفوق بكثير ما يمكن أن تحققه السياسة من ضجيج وصخب وانّه لو كان بوسعه أن يملأ الدنيا سروراً لفعل، فهو يشعر برثاء عظيم للبشرية.

ومن خلال نافذته الأدبية، يرى المازنى أن قيمة الأمم تكمن فى الفرد البارز، وليس فى الكتلة البشرية الكبيرة. هذا الفرد هو الذى يضفى على أمّته قيمة ومعنى، بينما تظل الجماهير مجرد كتلة بدون روح إذا خلت من البارزين (هل يمكننا أن نرى فى نظرة المازنى هنا أثرا لأفكار الفيلسوف نيتشه عن «السوبرمان»؟)

وفى سياق مشابه، يتناول الكاتب الأمريكى هربرت لويس مِنكِن مواضيع الحب والسياسة والحياة بشكل ساخر ولاذع. فهو يصف الحب بأنه مثل الحرب، من السهل أن تبدأها ولكن من الصعب جداً إيقافها. وفى مجال السياسة، يرى مِنكِن أن الهدف الرئيسى للسياسيين هو إبقاء الشعب فى حالة خوف دائم، ما يدفعهم للمطالبة بالقيادة، وذلك عن طريق خلق تهديدات وهمية لا نهاية لها.

وفيما يتعلق بحل المشكلات، يذكر مِنكِن أن لكل مشكلة معقدة حلاً يبدو واضحاً وبسيطاً، لكنه فى النهاية غالباً ما يكون خاطئاً. هذه الرؤية تعكس نظرة عميقة وساخرة للواقع الذى نعيش فيه، حيث البساطة الظاهرة قد تكون خادعة، وتؤدى إلى نتائج غير مرغوبة.

بهذه الأفكار، تجسّد كتابات المازنى ومِنكِن رؤى متنوعة للحياة والسياسة، حيث تتقاطع الحكمة مع السخرية لتقديم صورة أوضح للعالم من حولنا.

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الولايات المتحدة جامعة الأزهر

إقرأ أيضاً:

النقد.. محتوى مختلف فيه

هل تصدقون أن هناك من يتهم المحتوى على أنه المقوض للوحدة والاتفاق، مع أن المحتوى هو من صنع الجماهير؟ وهل يوجد محتوى أوجد نفسه بنفسه حتى يوجد إشكالية النقد بينه وبين منتقديه؟ وهل تنساق الجماهير وراء محتويات غير ذات قيمة قبل أن تدخل معركة نقدها والاختلاف معها قبل التسليم المطلق لها؟ هناك جماهير غاضبة، لأن نوع من المحتوى يتصادم مع كثير من قناعاتها، مع أن هناك جماهير أخرى تتقاسم المحتوى ذاته ولا تتصادم معه كحال الأولى، إذن الإشكالية ليست في المحتوى، وإنما الإشكالية في الوعي الجماهيري، ووجود بون واسع بين الجمهورين، وإن تقاسما البيئة ذاتها، واستظلوا بذات السماء، وجمعتهم صفوف أو قاعات المحاضرات، وتلقوا المادة المعرفية نفسها الذاهبة إلى تصويب الأخطاء، وفك الرموز المغلقة، وتبسيط الإجراءات، وإنارة العقول، وإطفاء شمعات الجهل المشتعلة في الرؤوس. كل ذلك عائد أكثره إلى مخزون ذاتي، لا علاقة له كثيرا بالمؤثرات الخارجية، فأي رسالة تصل إلى الذات، فإنها سريعا ما تذهب إلى المختبر الذاتي لتبدأ مجموعة من التفاصيل تمحص، وتفند، وتقبل/ ترفض، وتجهز لمشروع طويل من النقاش، وإبداء المسوغات، سواء للقبول أو للرفض، ومن ثم تطغو المواقف على السطح. وهذه العملية الذاتية ربما لا تستغرق كثيرا من الوقت، ولكنها تؤثر في النتائج، ولذلك فكثير منها يأتي غير متزن، وانفعالي، وردات فعله قد تكون متهورة، لا تحتكم على رؤية مدركة لمآلات النتائج، ولذلك فكثير منها ما يسقط في مأزق «عقلية القطيع» الموسومة بالشطط والتسرع، والانسياق دون وعي، وهذه لحالها إشكالية موضوعية في مجمل عمليات النقد التي يقيمها الناس على كل ما يتلقونه من محتوى، ويختلفون عليه، ولا يتفقون، وقد يصل الخلاف إلى خلاف بيني كبير ومعقد.

ولكم أن تحضروا جلسة نقاش واحدة ليتبين لكم هذا التفاوت في الفهم والإدراك للمحتوى المطروح للنقاش، وفي إدارة المناقشات، وفي تفاعلات المجموعة المحتدمة الكثير من الأمثلة، ولأن حرب غزة التي بادرت بها حماس، بشجاعة باسلة، وغير معهودة للتفاوت الكبير في الإمكانيات وفي الدعم، بين الضحية الجلاد، والمآسي يراكمها الواقع المأساوي، ولاقتراب من تمام سنتها الأولى، إلا أنه لا تزال هناك أصوات تنتقد حماس، وتسوغ ردة الفعل القاسية التي يقوم بها الجلاد ـ الأفعى التي تضرب بذيلها يمنة ويسرة من هول المعاناة والعجز واليأس والانهزام ـ فالحرب محتوى واضح الدلالة والتأثير، ومع ذلك لا يزال هذا المحتوى لم يتفق عليه على كل المستويات الجماهيرية بصورة مطلقة، ولأن ليس هناك اتفاق قطعي، فلا تزال مآسيه مستمرة، وبقسوة نتائجه حيث تذهب التقديرات إلى انتهاء أحد الطرفين انتهاء مطلقا لا عودة بعده، فإما هزيمة مطلقة أو انتصار مطلق لأي طرف من طرفي النزاع. وهذا ما يتخوف منه أطراف كثيرة حاضرة على المشهد، وتعي الحقيقة، ومع ذلك لا تزال تختلف على مآلات المحتوى الختامية، ولكنها مكبلة بقيود الاستسلام والرضوخ والانبطاح، والله غالب على أمره.

وتأتي الأحداث الرياضية - مثال آخر - مع الفارق النوعي بين الحدثين، ففي الأحداث الرياضية في عموميتها الجماهير تختلف على المحتوى الفني لممارسة اللعب، فهناك من يذهب إلى إلقاء اللوم على اللاعبين وإلقاء اللوم معناه النقد بكل مستوياته وهناك من يلقي اللوم على الفريق الفني والإداري، وهناك من يلقي اللوم على الحكم، وهنا من يلقي اللوم على الإمكانيات الفنية للملعب والظروف الطبيعية المحيطة. هذا في مجمله محتوى، ولكن الجماهير مختلفون حوله، ويصوب سهام النقد كل من زاويته، ومن خلال مجموعة القناعات التي عليها، ومن خلال التجارب التي مر بها، ومستوى السن الذي عليه، فهناك من يسوغ بقبول مجموعة الإخفاقات كلها، ويرى فيها أن ذلك واقعا لا يمكن تجاوزه، وهناك من لا يقبل كل ذلك بالمطلق، ويحمل الجميع مسؤولية الإخفاقات، وإن تحقق نصر ما، فقد يتم التغاضي عن بعض مما يثير الحفيظة لدى طرف آخر أقربهم حيادية ولكنه في المجمل هناك نقد غير متفق عليه، فكل ينظر من زاويته الخاصة جدا، بغض النظر عن مآلات النقد، وهل ستكون له غايات يسعى الجميع إلى تحقيقها؟ أما أنه مجرد تفريغ مجموعة من الانفعالات اللحظوية، لتهدأ عاصفة التشنج؟ ويحضر البعد الاجتماعي كأهم المحطات لتنوع المحتوى من ناحية، ولتنوع جماهيريته من ناحية ثانية، وعددها الضخم من ناحية ثالثة، ومن هنا تأتي جملة: «رضى الناس غاية لا تدرك» ومن هنا يشار إلى العودة إلى القناعات الشخصية، وعدم التماهي في رأي الجماهير، وكل ذلك يعكس عدم القدرة على اتفاق على محتوى ما يطرح حول مجموع الإشكاليات التي تتدافع على زوايا المجتمع الأربعة، ولعل الإشكالية الأكبر أن هناك من ينتقد ولا يقدم الحلول، وذلك حال كل المناقشات التي تثار على مجمل الموضوعات في الحياة العامة في شؤونها المختلفة.

ويذهب التقييم غالبا وهذه لحالها معضلة كبرى، على أن كل ما يثار من مناقشات هو مجرد تنظير لا قيمة له، ولأنه لا قيمة له، فلذلك لا يتفق على أهمية المحتوى، مع أن النقاشات ساخنة، وتحظى بتفاعلات كبيرة وكثيرة، وهناك من يجهد نفسه في المناقشات، وهي الإشكالية ذاتها التي تواجهها المجالس التشريعية، وعلاقتها بالسلطة التنفيذية، حيث ترى الأخيرة أن مجمل ما يثار تحت قبة السلطة التشريعية هو مجرد تنظير لا قيمة له، على الرغم من إدراكها أن ما يناقش هو ذات محتوى كبير، وعلى الرغم من تقييم المناقشين على أنهم تنظيريون، ويأتي هذا التقييم انعكاسا من عدم وجود سلطة تنفيذ القرار الذي يذهب بمناقشات المحتوى إلى التطبيق، فالقرار هو بيد السلطة التنفيذية، لأنها الأكثر إحاطة بالأرقام الصحيحة، والأكثر إحاطة بالخطط التنموية وبرامجها المختلفة، والأكثر إحاطة بما سوف تؤول إليه الأحوال من أثر تطبيق برامج معينة دون غيرها، لوجود الدراسات، والخبراء، والمستشارين، والإمكانيات المادية الكبيرة، القادرة على التنفيذ، أما السلطة التشريعية فهي غارقة في التنظير – وفق تقييم السلطة التنفيذية – مع أن محتوى المناقشات مهم بالنسبة السلطة التنفيذية لتصويب عملها الذي تتعاطى به مع الجمهور، وهذه الإشكالية بين السلطتين إشكالية تاريخية متجذرة تتوارثها السلطتان عبر مراحل فتراتها المتتالية على الرغم من أهمية المحتوى المطروح على طاولتيهما وهو محتوى التنمية، ولذلك فالتقييم هو الآخر متوارث، ويذهب كثيرا إلى المسألة الخلافي، والخروج من هذا الخلاف، كنتيجة حتمية حتى هذه اللحظة هو البقاء على إشكالية تعويم القضايا الخلافية، والإيمان بأن النقد لا يتجاوز المساحة المتاحة تحت قبة المؤسسة التشريعية.

من يستطيع أن يجزم اليوم أن الجماهير غير واعية، وغير مدركة بما يدور حولها، وما يستجد عليها من قضايا وأحداث؟ بالتأكيد لا يستطيع أحد أن يجزم بالمطلق، ومع ذلك فنتائج الرهانات خاسرة للاتفاق على محتوى معين: سواء فارض نفسه بحكم الواقع، أو متبنى من جهة معينة، أو مجموعة معينة، وغالبا تعود مآلات هذا الاختلاف هو النزاع، والتفرق، وعدم التوافق، وربما قد يجلب مضار لمختلف الأطراف من حيث نشأة عداوات ما كان لها أن تحدث لولا نقد المحتوى المطروح وعدم الاتفاق عليه، ومقولة: «الاختلاف لا يفسد للود قضية» في واقع الأمر غير صحيحة، وهو لن يقف عند إفساد الود فقط، بل قد يتعداه إلى الأبعد من ذلك، ويكون ذلك حتى على مستوى الأسرة الواحدة إن لم يحكمها عاقل يطلب من الجميع أن يأخذ بطرف الرداء، ليضعه في مكانه الصحيح، قبل أن يتضعضع، فتسقط حبات اللؤلؤ، وينفرط العقد، مع أنه يقينا أن ما تناقشه الأسرة هو محتوى مهم، وعائده يهم الجميع، ولكن في المقابل أن هؤلاء الجميع تتحكم فيهم مشاعر مختلفة، ورؤى متباينة، وتجاذبات نفسية متفاوتة، وتجارب شخصية غير متساوية، وهذه – كما أسلفت أعلاه – منغصات تقض مضاجع المتحاورين، سواء على المستوى المجموعات صغيرها وكبيرها، أو على مستوى الأفراد عبر جماهيريتهم الواسعة، وما نراه وما نعيشه من مناقشات عبر مجموعة وسائل التواصل المختلفة ما يؤكد هذه الحقيقة، وهي ليست غائبة عن الجميع بكل تأكيد.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

مقالات مشابهة

  • الجزيرة 360 تطلق برنامجها الساخر الشبكة
  • إقالة مدرب النصر السعودي لويس كاسترو
  • الدوما: روسيا سترد بأسلحة أقوى حال توجيه ضربات عميقة ضدها
  • استقرار سعر الذهب في مصر: نظرة شاملة على الأسعار والتفاصيل
  • الطريق إلى حيد الجزيل..نظرة على قرية تُشبه القصص الخيالية في اليمن
  • كاتب برازيلي يروي ما شاهده في الصحراء المغربية..تحولات عميقة وميناء أطلسي يعزز التجارة العالمية
  • عفو مُعلّق ومفاوضات مُعقّدة: العدل والسياسة يتشابكان في قاعة البرلمان
  • الجنينة بعد عام ونصف من الحرب.. نظرة لما حدث.. شهادة لاجئة نجت من المحرقة!
  • الجنينة بعد عام ونصف من الحرب .. نظرة لما حدث.. شهادة لاجئة نجت من المحرقة!
  • النقد.. محتوى مختلف فيه