الفنان طالب محمد و«حياة الماعز»
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
رُصد فيلم «حياة الماعز» لمخرجه «باليسي» في الخليج بأكثر من عين وانطباع، لا سيما وأنّه نال خمس جوائز في مهرجان كرييتف كريتكس السينمائي. فقد تماهى البعض مع السرد الدرامي المُتنامي والتصوير الأخاذ في الصحراء العربية، بينما نظر بعض آخر للمآرب المُختبئة وراء الإمعان في تنميط صورة الخليجي في علاقته المُعقدة بالقوى العاملة الوافدة، كما نُمط من قبل في بعض الأفلام المصرية، بظهوره في الملاهي الليلية في صورة من ينثر المال فوق رأس الراقصة!
وإن كان ثمّة جذر واقعي لكل هذه التصورات، إلا أنّ فرادة الفن تكمن في التقاطه الجوهر الأكثر حساسية من المتن العام.
تسنت للمخرج فرص كثيرة لكسر التصور النمطي، لكنه فضل تكشير الأنياب، فتمثل الشر المطلق في البدوي الذي علّمت خشونة الصحراء طباعه، وإن بُرر ذلك فنيا، فكان بالإمكان أيضا أن يتحلى أحد المارّة أو أحد رجال الشرطة بقليل من الرحمة. لكن حتى الرجل المهندم الذي أنقذه، أخذه ليتركه في الشارع دون أن يسأل عن سر آلامه وخيباته! ومُدبر قصّة الهروب كان من جنسية غير عربية أيضا، ليُمعن المخرج في شرح الصورة.
هذا لا يعني انتفاء الشر أو انعدام العنصرية من هذه البقعة، كما لا يعني براءة صناع الأفلام من تمرير رسائلهم المُضمرة.
بالمقابل لا نستطيع أن ننكر أنّ الفيلم قدّم لوحة بديعة للصحراء، فقد لعب «باليسي» على تقلبها المستمر كحرباء، بين قسوة برودتها ليلا وحرارة رمالها نهارا، وحوشها الضارية وأشباح فراغها المذهل، فتبدت كانعكاس حاد لتدهور أوضاع الضحية الذي خرج من الهند العامرة بخضرتها وتدفق مياهها إلى الندرة التي تضطره لأن يغسل نجاسته بالتراب!
كما أنّ العلاقة التي نشأت بين الضحية والمواشي، رُسمت بعذوبة لافتة، أنقذته من يأسه، حتى الطيور الجارحة التي نهشت لحم من سبقه علّمته درس النجاة. انعكاس بؤسه في عدسة عين الجمل، ورأسه المائل وهو يرد الماء كما ترده الأنعام، وانتهاء إلى حضن الوداع النهائي بينه وبينها.. كل هذا أضمر أسباب عيشه لثلاث سنوات.
ما لا يُمكن الاختلاف عليه هو الدور الذي أضاءه الفنان العُماني طالب محمد، الشر المطلق، والقسوة والشراسة التي نبتت من عينيه، ثمّ ما لبثت أن نمت في يديه التي تضرب وقدميه التي ترفس، والخبث الذي جعله يصطاد فريسة شديدة الهشاشة والاغتراب من مطار المدينة المُشعة بالفرص الوردية إلى صحراء قاحلة، ثمّ تمثله لشظف العيش في مكان يشح فيه الماء والطعام. وقد استثمر المخرج حاجز اللغة بين البدوي والضحية ليُضاعف المعاناة ويُعبئ الحدث بالهواجس، إذ غدا هامش سوء الفهم مُتاحا بصورة متناسلة.
أكاد أجزم أنّ طالب محمد تمكن من إرعابنا، جعلنا نُصدقه. تكفي تلك المواجهة بينه وبين فريسته عندما شاهدناه راكضا فوق الجمل مُلاحقا ضحيته، وهو مشهد خطير، وقد بلغ الرابعة والستين من عمره. وكذلك في آخر الفيلم، عندما جعل الفوران يتصاعد فينا، بينما نيران الرغبة الدفينة فيه كجلاد يشرئب لتمزيق الضحية إربا إربا لولا سلطة القوانين التي منعته من ذلك.
قد تُجيب هذه التجربة على أكثر أسئلتنا جموحا حول خيبة الدراما العُمانية ومآزقها اللانهائية. فكم مرّة تساءلنا إن كان مرد ذلك: النصّ الرديء أو الإخراج الباهت أو التمثيل السطحي أو تنوعنا اللهجي. فلقد ذُكرت أسباب شتى، لكن أكثر ما يتم تجاهله هو غياب المشروع الرصين والمتكامل، وإلا لماذا يبدو ممثلنا العُماني في الخارج لافتا ومؤثرا في غابات النصّ البصري!
أنجز هذا العمل في خمس سنوات، واشتغل فيه أكثر من مائة فني، وعولج النصّ الأصلي مرارا، وخسر البطل الكثير من الوزن حتى لم يعد قادرا على شد بنطاله حول خصره. فلكيلا نُنمط، علينا أيضا أن نُقدم أنفسنا، في أكثر الطرق المُتعرجة حدّة ووعورة، فالفن كما قال آرنست فيشر: «لا يعوض الواقع ولكنه يُكمله ويُغذيه».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
القاتل هو الضحية: من غزة إلى لبنان
استعاد الكاتب الأمريكي الأسود جيمس بالدوين (1924 – 1987) في إحدى حواراته في فيلم وثائقي مهم عنوانه «لست زنجيّك» أخرجه راؤول پيك في 2017، لحظة مفصلية في طفولته، أدرك فيها سطوة الخطاب العنصري في الثقافة السائدة، وفي أفلام هوليوود بالذات. يقول بالدوين إنه حين كان يشاهد أفلام «الوسترن» (الغرب الأمريكي) التي يحترب فيها رعاة البقر البيض مع السكان الأصليين، كان يتماهى مع الرجل الأبيض المنتصر، ثم أدرك، في تلك اللحظة المفصلية إنه، كضحية لنظام فصل عنصري يجب أن يتماهى ويتضامن مع الهندي الأحمر ويكون في صفه وفي خندقه، لا مع القتلة، الذين صوبوا بنادقهم وسياطهم، وقوانينهم نحو السود.
تذكرت مقولة بالدوين وأنا أقرأ تقريراً نشرته شبكة «سي إن أن» مؤخراً على موقعها عن «معاناة» الجنود الإسرائيليين العائدين من غزة بعنوان عريض «ترك غزة لكن غزة لم تتركه». وركّز التقرير على إليرام مزراحي، الذي اشترك في حرب الإبادة في غزة منذ أيامها الأولى، وكان يقود جرّافة مصفّحة.
وبعد عودته من غزة بدأ، مثل الكثيرين، يعاني من آثار نفسية ومن الأرق والغضب. وكان يتلقى علاجاً نفسياً كل أسبوع. ومع ذلك فكان يستعد للعودة ثانية إلى غزة، لكنه انتحر قبل موعد التحاقه.
وحسب صحيفة «جيروزاليم بوست»، فإن رفيقه غاي زاكين، أدلى بشهادة أمام الكنيست في يونيو الماضي وصف فيها كيف أنهما، هو ومزراحي، تلقيا ونفذا أوامر، عدّة مرات بدهس مئات «الإرهابيين» حتى وهم أحياء. وتذمّر الأخ من أنّه لم يعد يأكل اللحم من جراء ذلك كله «عندما ترى كل ذلك اللحم والدم، من عندنا ومن عندهم، فإنه يؤثر عليك».
أما شقيقة مزراحي فقالت «ربما قتل شخصاً ما. نحن لا نلقن أطفالنا أن يفعلوا أموراً كهذه، فلربما حين فعل ذلك كانت صدمة له». بعد انتحار مزراحي، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد كان قد وضعها على حسابه الشخصي يظهر فيها وهو يتبجح ويتباهى بالبنايات التي دمّرها.
يحفل التقرير بتفاصيل أخرى كثيرة تؤدي وظيفتها في أنسنة الجندي الإسرائيلي وتصويره على أنه مدنيّ مسالم اضطر لهجر حياته وعمله لخوض الحرب وأنه هو ضحيتها الأولى. فلا وجود للمدنيين على الجانب الآخر في نهاية المطاف، فكلهم إرهابيون.
ويذكّرنا هذا بمقولة رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير (1898- 1978) «يمكن أن نغفر للعرب أنهم قتلوا أطفالنا، لكننا لن نغفر لهم أنهم أجبرونا على قتل أطفالهم».
وأنسنة المستعمر في حروب الغزو والإبادات وتصويره كضحية هو ما تشترك فيه الثقافة السائدة في الولايات المتحدة وفي إسرائيل، والأمثلة كثيرة. يكفي أن نذكر، مثلاً، أن هذه الثقافة السائدة احتفت بفيلم «خزانة الألم» من إخراج كاثرين بغلو 2008) وهو من أهم الأفلام الأمريكية التي أنتجت عن غزو العراق، فامتدحه النقاد وحصد الجوائز، بضمنها ست جوائز أوسكار، ووضعوه في خانة أفلام ضد الحرب.
لكن الفيلم لم يكن كذلك البتة. بل جاء خطابه متناغماً مع الرواية الرسمية ولم يشكك بها قط. بطل الفيلم هو الجندي الأمريكي المثالي، المتفوق أخلاقياً، الذي يحاول إنقاذ الحياة والدفاع عنها في ظروف قاهرة. لا حاجة للسياق التاريخي ولا حاجة لإشغال المشاهدين بالسياسات والظروف التي حولت العراق إلى ساحة حرب. المهم هو أن هناك جنديا أمريكيا، ترك مدينته البعيدة وحياته، وقطع المحيطات ليحط في بلد صحراوي، ويحاول نزع فتيل المتفجرات. ألا يجدر بالجمهور أن يتعاطف معه؟
والجدير بالذكر أن عنوان الفيلم مقتبس من قصيدة لشاعر أمريكي كان قد اشترك في غزو العراق هو برايان ترنر واختارها عنواناً لمجموعته الشعرية التي استقبلت بحفاوة، واعتبرت أيضاً قصائد ضد الحرب مع أن الكثير منها كانت تشبه تقارير عسكرية مُشَعْرَنة، أو قائمة إرشادات عسكرية مثل تلك التي وزّعتها وزارة الدفاع على الجنود، والتي تختصر العراق والعراقيين وثقافتهم في صور نمطية وعنصرية.
خذ، مثلاً، هذه المقاطع من قصيدة «ما يجب أن يعرفه كل جندي»: هناك قنابل تحت جسور الطرق السريعة/في أكوام الزبالة، والطابوق، والسيارات/ هناك قنابل وعبوات مدفعية/مخاطة إلى جثث حيوانات نافقة/هناك كتابات بالصبغ على جوانب الطرق: سأقتلك أيها الأمريكي/رجال يرتدون ثياباً ملغّمة بالمتفجرات/يقتربون منك ويرفعون أيديهم ويقولون: الله أكبر/هناك رجال يكسبون ثمانين دولاراً/مقابل الهجوم عليك وخمسة آلاف لقتلك/ أطفال صغار يلعبون معك/شيوخ بأحاديثهم، ونساء يقدمن لك الشاي/ وأي واحد منهم/قد يرقص على جثتك غداً».
كل مدني، سواء كان طفلاً، أو امرأة، أو شيخاً، مهما عبّر عن إنسانية أو كرم، قد يحتفل غداً بوحشية بالقتل. في المحصلة النهائية: ليس هناك عراقي لا يصنع الموت أو يحتفل به ويشجّع عليه.
وثيمة الجندي الأمريكي وصورته كضحية سائدة في روايات ومذكرات الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في غزو العراق واحتلاله وعادوا ليصبحوا أدباء. هناك استثناءات قليلة، من أبرزها، روس كابوتي، الذي اشترك في معارك الفلوجة، لكنه بعد عودته من العراق كرّس حياته لفضح الجرائم التي اقترفها الاحتلال الأمريكي ونشر، بالاشتراك مع آخرين كتابا بعنوان «سلب الفلوجة: تاريخ شعب» (دار نشر جامعة ماساتشوستس 2019).
أما في السياق الإسرائيلي، فلعل أحد أبرز الأمثلة سينمائياً هو فيلم «فالس مع بشير» (آري فولمان 2009) الذي حاز جائزة غولدن غلوب ورشح للأوسكار والسعفة الذهبية في كان، واحتفى به النقاد آنذاك. يتمحور الفيلم حول استعادة الذكريات المكبوتة لمخرج الفيلم ورفاقه الذين اشتركوا في غزو لبنان في 1982 واحتلال بيروت، وينتهي بمجزرة صبرا وشاتيلا. لكن السياق التاريخي مغيّب (وبالتالي المسؤولية الإسرائيلية).
ولا وجود للمدنيين من الفلسطينيين واللبنانيين الذين قتلهم الغزو. فالضحية هو الجندي الإسرائيلي ومحنته ومعاناته وذاكرته هي البؤرة، لذلك أدرج الفيلم في جنس يعرف بـ «نطلق الرصاص ونبكي» وهو ما ذكره الصحافي اليساري جدعون ليفي الذي انتقد الفيلم ومخرجه بشدة فكتب: «أطلقنا النار ثم بكينا. وكم بكينا! وكأن ايدينا ليست هي التي أراقت هذه الدماء». وذكر ليفي جبن وتواطؤ فولمان الذي لم يذكر غزّة التي كانت تتعرض يومها لهجوم إسرائيلي حين استلم جائزة الغولدن غلوب.
القدس العربي