تحرَّر من قيود التردد
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
منذ الصغر، تبدأ معالم الشخصية في التكوّن بشكل تدريجي، حيث قد يظهر لدى بعض الأطفال ميل للتردد والخوف في المواقف الاجتماعية. هذه السلوكيات ليست مجرد سمات طفولية مؤقتة؛ بل يمكن أن تكون إشارات مبكرة لنمط سلوكي قد يتطور مع مرور الوقت ليؤثر بشكل كبير على حياة الفرد في مختلف جوانبها.
ومع دخول الطفل مرحلة البلوغ، قد يجد نفسه أكثر ارتباطًا بهذه المخاوف التي تتزايد حدتها بمرور الوقت. هنا، يبدأ الشخص في تجنب الأنشطة التي تتطلب تفاعلًا اجتماعيًا مباشرًا، سواء كانت في المدرسة، في العمل، أو حتى في الحياة اليومية. هذا التجنب لا ينشأ من فراغ، بل هو نتيجة تجربة نفسية معقدة تتجذر في العقل منذ الطفولة. وعندما يتجنب الشخص فرص التفاعل التي يمكن أن تكون مفيدة، فإنه يعزز شعوره بالعزلة والانطواء، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من الانعزال والقلق.
ولا تقتصر الأسباب التي تساهم في تطور هذا النمط السلوكي على العوامل الوراثية فقط، التي تلعب دورًا في كيفية استجابة الفرد للمواقف الاجتماعية؛ بل تشمل أيضًا العوامل البيئية التي ينشأ فيها الطفل. الطريقة التي يتعامل بها الوالدان والمعلمون مع الطفل لها تأثير كبير على تطور سلوكه الاجتماعي. على سبيل المثال، عندما ينشأ الطفل في بيئة تدعمه وتشجعه على التفاعل بثقة، فإنه يكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية. في المقابل، تجارب الطفولة السلبية، مثل التعرض للتنمر أو الفشل في تكوين صداقات، يمكن أن تترك أثرًا دائمًا يعزز هذا الخوف ويجعله جزءًا لا يتجزأ من الشخصية.
إضافة إلى ذلك، يمتد تأثير هذا النمط السلوكي إلى الحياة المهنية أيضًا. فيجد الشخص نفسه عاجزًا عن استغلال الفرص المهنية التي تتطلب تفاعلًا اجتماعيًا نشطًا، مما يؤدي إلى تراجع في الأداء الوظيفي وإحباط متزايد. على سبيل المثال، قد يواجه صعوبة في تقديم أفكاره بوضوح أو بناء علاقات عمل فعالة مع زملائه، مما يحد من طموحاته ويعيق تقدمه المهني. هذا الشعور بعدم القدرة على التواصل بشكل فعال يمكن أن يؤثر على تقدير الذات ويعزز من الشعور بالفشل.
وعلى المستوى الشخصي، يتسبب هذا الخوف في صعوبات كبيرة في بناء علاقات صحية ومثمرة، حيث يجد الشخص نفسه غير قادر على التواصل بحرية أو التعبير عن نفسه بثقة. عندما يتفاقم هذا الخوف، قد يجد الشخص نفسه يعيش في عزلة متزايدة، مما يزيد من شعوره بالوحدة والانفصال عن الآخرين. هذه العزلة النفسية لا تقتصر على الشعور بالوحدة، بل تتغلغل في عمق النفس لتزرع مشاعر الضعف وعدم الكفاءة. مع مرور الوقت، يمكن أن تتحول هذه الحالة إلى مشاكل نفسية أكبر، مثل الاكتئاب والقلق المزمن، مما يجعل من الصعب على الشخص أن يكسر هذه الدائرة المغلقة ويستعيد حياته الطبيعية. حيث يؤدي هذا إلى تفاقم مشاعر الانطواء والعجز، ويصبح من الصعب على الشخص الخروج من هذا المأزق النفسي دون دعم أو تدخل متخصص.
لذلك.. فإن التغلب على هذه المشكلة يتطلب وعيًا وتدخلًا مبكرًا. يبدأ الحل من مرحلة الطفولة، حيث يتعين على الأهل والمعلمين توفير بيئة داعمة تعزز من ثقة الطفل بنفسه. على سبيل المثال، تشجيع الطفل على التفاعل الاجتماعي في بيئة آمنة ومحفزة يمكن أن يساعد في بناء شخصية قوية ومتمكنة. وفي مرحلة البلوغ، يمكن أن يكون العلاج السلوكي المعرفي أداة فعالة في تعديل الأفكار السلبية التي تعزز هذا الخوف. هذا العلاج يهدف إلى إعادة هيكلة التفكير السلبي وتقديم استراتيجيات جديدة للتعامل مع المواقف الاجتماعية بثقة أكبر.
وإضافة إلى ذلك، فإنَّ التعرض التدريجي للمواقف الاجتماعية يُعد وسيلة فعالة لمواجهة هذا الخوف بشكل منهجي. يمكن أن يبدأ الشخص بتحديات صغيرة ومواقف اجتماعية بسيطة ثم يتدرج إلى مواقف أكثر تعقيدًا، مما يساعده على بناء الثقة تدريجيًا. وكذلك تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق يمكن أن تكون أدوات مساعدة أيضًا في تقليل التوتر والقلق المرتبطين بهذه المواقف.
ومن ناحية أخرى، فإن تعزيز الثقة بالنفس يلعب دورًا حاسمًا في هذا المسار. حيث إن أهداف صغيرة والاعتراف بالإنجازات، مهما كانت بسيطة، يمكن أن يسهم في بناء صورة ذاتية إيجابية ويعزز من الشعور بالقدرة على التعامل مع المواقف الاجتماعية بثقة. يجب أن يدرك الشخص أن كل خطوة صغيرة نحو التغلب على الخوف هي بمثابة تقدم يستحق التقدير، ويشكل جزءًا من عملية أكبر لتعزيز الشخصية وتطويرها.
من هنا يؤدي المجتمع دورًا محوريًا في دعم الأفراد الذين يعانون من هذه المخاوف. من خلال خلق بيئة تشجع على التفاعل الإيجابي وتقدير الفروق الفردية، يمكن للمجتمع أن يقلل من شعور هؤلاء الأشخاص بالعزلة والانفصال. وبدلاً من التركيز على النقد والضغوط الاجتماعية، ينبغي على المجتمع أن يشجع ويدعم الجهود الفردية المبذولة في التغلب على هذه المخاوف. هذا الدعم يمكن أن يكون العامل الفارق في مساعدة الشخص على التغلب على التحديات التي تواجهه.
وفي الختام.. يمكن القول إن الخوف من التفاعل الاجتماعي ليس حتمًا يجب القبول به كجزء من الشخصية. فمن خلال الدعم المناسب، سواء كان من الأسرة أو الأصدقاء أو المختصين النفسيين، يمكن للفرد أن يتجاوز هذه التحديات ويعيش حياة مليئة بالتواصل الإيجابي والفرص الجديدة.
الحياة مليئة بالفرص للتعلم والنمو، ومع العمل الجاد والإصرار، يمكن لكل شخص أن يحقق تقدمًا ملحوظًا في تجاوز المخاوف التي تعيق تفاعله الاجتماعي، ليتمتع بحياة أكثر انفتاحًا وسعادة، ويصبح أكثر قدرة على المشاركة الفعالة في المجتمع.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
زمن الخوف انتهى.. ماذا قيل في أول ستاند-أب كوميدي سوري بعد إسقاط الأسد؟
في أول عرض عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد، سخر ممثلون كوميديون من النظام السابق ورئيسه، ومن قمع المخابرات وملاحقة المعارضين، متجاوزين خطوطا حمراء لم يجرؤوا يوما على تخطيها.
حين بدأ ملكي مارديني (29 عاما) فقرته الافتتاحية منطلقا من واقعة أن "النظام سقط"، لم يتفاعل الجمهور معه، فسارع الى سؤالهم "أما زلتم خائفين؟"، ليرتفع بعدها التصفيق وقهقهة الحاضرين من شبان وشابات توافدوا إلى "غاليري زوايا" لحضور عرض احتفى بسوريا ما بعد الأسد.
عندما أجرى مارديني حوارا مرتجلا مع أحد الحاضرين، سأله عن مهنته، فأجابه بأنه طبيب نفسي. فما كان من الممثل الكوميدي إلا أن وصفه بأنه أحد "لوردات" سوريا الآن، بعدما سلّطت إطاحة الأسد الضوء على أوجه عدة من معاناة السوريين خلال حكم عائلته على مدى أكثر من 5 عقود تركت ندوبا عميقة في نفوس السوريين.
ويقول مارديني على هامش العرض "منذ سنتين ونحن نقدم عروضا في ظل حكم الأسد، ولم نكن نتخيل أنه سيأتي يوم نتحدث فيه بهذه الطريقة وهذه الراحة".
ويصف العرض بأنه "مساحة آمنة للتعبير عن رأينا من دون أن نزعج أحدا باستثناء بشار، الذي كان التطرق في عهده إلى مواضيع متصلة بالسياسة (…) يعد من المحاذير". وكانت "دعابة عن الانتخابات أو لفظة دولار أو ذكر اسم الرئيس" كفيلة بأن تضع الممثلين في ورطة أو تجعلهم عرضة للاستدعاء.
إعلانعلى مدى نحو ساعتين، شرّح كوميديون من فرقة "ستيريا" التي يدمج اسمها بين كلمتي سوريا وهستيريا، تجاربهم في التوقيف والاعتقال والتهرب من الخدمة العسكرية والتعاطي مع الدولار الذي مرة أسموه "نعناع" ومرة "ملوخية" في اتصالاتهم الهاتفية خشية من ملاحقتهم.
"سوريا تريد الحرية"حين صعد الى خشبة المسرح المتواضع في القاعة التي زيّنت جدرانها لوحات فنية لرسامين سوريين، اختار رامي جبر أن يبدأ فقرته بهتاف "سوريا تريد الحرية"، مباركا "بأول عرض لنا نقدمه من دون مخابرات"، قبل أن يصطحب الحاضرين إلى بداية التحركات الاحتجاجية التي شهدتها مدينته حمص "عاصمة الثورة" في مارس/آذار 2011.
على مسامع الحاضرين، سرد جبر الذي كان يعمل آنذاك مندوب مبيعات لشركة عالمية، تجربته في الاعتقال لمدة شهر في فروع أمنية عدة، وما تخللها من ضرب وتعذيب بأساليب عدة بينها العصا الكهربائية وبساط الريح، بتهمة أنه "مندس".
واختتم فقرته التي قوطعت مرارا بالتصفيق بتخيل مشهد "سقوط بشار الأسد منقولا على الفضائية السورية".
وجمع العرض 13 ممثلا كوميديا، بينهم شابة، من محافظات عدة، روى كل منهم تجاربه الشخصية مع خصوصية مناطقية، لكنها تقاطعت جميعها عند نقطة "الخوف" الذي عاشه وتشرّبه السوريون طيلة عقود.
ويقول حسين الراوي في فقرته إنه لن يدل أحدا على عنوان سكنه والسبب "ما زلت خائفا من أن يعود" الحكم السابق.
خلال استراحة بين الفقرات، يلاحظ سعيد اليخشي (32 عاما) وهو تاجر مواد بلاستيكية، التحول في مضمون العرض من المرة السابقة، ويقول "اليوم لا قيود ولا محاسبة ولا خوف أو خشية من أي كان".
لا سكوت عن الحقومع وصول السلطة الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام الى دمشق، تبرز مخاوف على مستويات عدة، خصوصا على مستوى تقييد الحريات الفردية ومشاركة النساء في العمل السياسي.
وتقول الممثلة الكوميدية ماري عبيد (23 عاما)، لفرانس برس "نفرغ اليوم كل ما كان في جعبتنا، نفعل ذلك بالنيابة عن كل السوريين"، موضحة "يتحدث كل منا عن تجربته الخاصة، عن حادثة اعتقال سابقة، عن أمور حدثت مع أفراد عائلته أو أقاربه، ويتفاعل الجمهور معنا وكأن كل تفصيل حدثَ معه شخصيا".
إعلانعلى غرار كثر، تقول طبيبة الأسنان إنه لا شيء يضاهي الشعور بالحرية التي يعيشها السوريون اليوم.
لكنها تتمنى "ألا تتم مضايقتنا في فترة مصيرية ننتقل فيها من مرحلة إلى مرحلة، وأن تمضي سوريا نحو الأفضل وأن نكون يدا واحدة ونسمع بعضنا البعض".
وعن المخاوف من السلطة الجديدة، تجيب "لِنَرَ ما ستفعله هذه الجماعة وبعدها نحكم على كل شيء" داعية كل "من لديه مطلب الى أن يقوله ولا يسكت عن حقه أبدا". وتضيف "زمن الخوف ولّى".
ويشاطرها ملكي الرأي "ما من شيء يخيفنا بعد سقوط بشار الأسد ويمكننا إيجاد مساحة للتفاهم". ويتابع بنبرة حازمة "لم تحصل ثورة طيلة 13 الى 14 عاما، لتأتي سلطة لتقول لنا لا تستطيعون أن تتكلموا. عليهم أن يعتادوا وأن يسمعوا".