لجريدة عمان:
2025-07-12@07:54:02 GMT

العلاقة مع الآخر .. ميزان على كف متأرجح

تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT

في كل الحوارات مع الآخر؛ يحدث أن يكون هناك جس نبض لمجموعة من الترددات النفسية الصادرة من كلا الطرفين، هذه الترددات ما كان لها أن تكون، أو يتوهم أنها تكون؛ لولا الصورة النمطية المرسومة سلفا عن مجمل العلاقات القائمة بين الناس، وهي الناتجة؛ أصلا؛ عن كثير من التداعيات التي حدثت ولا تزال تحدث، وأثرت في النفوس بصورة سلبية.

ولأن النفوس هي التي تُقَيِّمْ هذه التداعيات والإخفاقات في مختلف هذه العلاقات، فإن هذه النفوس لرهافتها وحساسيتها، لن يكون أمر الإنصاف عندها يسيرًا، وبالتالي فعليها أن تتجاوز مختلف هذه التداعيات، ولو على سبيل «حسن الظن بالآخر» وقد قيل: «إن القلوب إذا تناثر ودها؛ مثل الزجاج كسرها لا يجبر» فهذا التشبيه الرقيق الحساس هو انعكاس للحالة النفسية الناتجة عن مجموعة من المواقف، ومجموعة المواقف هي المؤصلة بالخبرة التراكمية لهذه العلاقة في تصادماتها وتقاطعاتها المستمرة، ولعله من أصعب الجبر؛ كما جاء في بيت الشعر؛ هو جبر الخواطر، حيث تحتاج إلى زمن طويل حتى تتعافى، وقد لا تتعافى إطلاقا، حيث يظل الجرح نازفا بلا توقف، وكلما صادف شخصا أساء إليه، هذه ثيمة بيولوجية في النفس البشرية، لا يمكن إنكارها، حتى وإن حاول الفرد تجاوزها لأمر ما، فسيظل هذا التجاوز مؤقتا «مثل الزجاج كسره لا يجبر» إلا إن كان هناك عامل لا يمكن تجاوز تأثيره في العلاقة بين الطرفين.

الجانب الآخر في المسألة، وهذا ما هو شائع؛ وهنا في جانبه المادي البحت، هو مجموعة الصدمات التي يتلقاها الطرف الآخر، عندما تظهر سلوكيات العلاقة غير المتوقعة، حيث يظن كل طرف بالطرف الآخر خيرًا، وتأتي الممارسات لتتصادم مع هذا التوقع، عندها لا تقف المسألة عند هذا الحد، بل تتفاعل إلى تجاوز كل المكاسب التي حصلت في زمن العلاقة السوية، ويظل التركيز فقط على المساوئ، وكما يقال: «الناس يرسمون عيوبك على النحاس، وفضائلك على الماء» ففي لحظات تقترب من التجلي في علاقتك مع الآخر، فإذا بهذا الآخر يصدر منه سلوك مغاير للتوقع، ينسف كل بناءات الثقة التي تشكلت خلال فترة زمنية معينة، ومن هنا أيضا يأتي التحذير بصورة مستمرة، ألا يسلم الشخص نفسه للآخر بمجرد تشكل ثقة في لحظة زمنية فارقة لم تتأسس على عهود ومواثيق وتجربة حياة طويلة، مع أن حتى هذه «التجربة للحياة الطويلة» يمكن لها أن تتضعضع في موقف غير متوقع، وترتبك عواميدها التي سكنت إليها النفس في فترتها الزمنية، وإن طالت هذه الفترة، والسبب في ذلك أن الإنسان بحكم فطرته البشرية هو من الأغيار، أي المتغير بصورة دائمة، حيث تتحكم في سلوكياته مجموعة العوامل النفسية، والبيولوجية، والبيئة المحيطة التي تضغط بقوة التأثير، فلا تترك فرصة للنفس لكي تراجع تفاعلاتها، فتنتصر للصواب، وتتجاوز الأخطاء، هذه فطرة، لا يمكن غض الطرف عنها، ولذلك فالذين يعاتبون الآخر عتابا قاسيا؛ هم واقعون في ذات المأزق، ولكنهم في لحظات عتابهم يتناسون حقيقة أنفسهم.

في مفهوم آخر؛ لفحوى العلاقات يجب في كل ما يشار إليه؛ إلى أن العلاقات يجب أن تقوم على التكافؤ، والحرص على التكافؤ هنا؛ ليس الهدف منه عدم تفكك العلاقات بين الأطراف، فهذا أمر وارد أيضا؛ مهما كانت معززات البقاء والاستمرار، وإنما لو حدث تفكك فإن مستوى الخسارات الناجمة عن التفكك ستكون قليلة، حيث إن طرفي العلاقة لهما من المعززات ما يكفي عن التعويض عن أية خسارات ناجمة عن هذا التفكك أو فقدان طرف من قبل طرف آخر، بخلاف لو لم يكن هناك تكافؤ، وكان أحد الطرفين أقل مستوى من الآخر، والمقصود بالمستوى هنا هو كل ما من شأنه أن يوجد فارقًا موضوعيًا (ماديًا/ معنويًا) بين طرفي العلاقة، وبالتالي فلو حدث تفكك عند عدم التكافؤ يكون قاسيًا ومؤلمًا، لحاجة أحدهما إلى الآخر، وقد ينظر في هذه الصورة أيضا إلى مستوى الرابط بين الطرفين، فقد يكون الرابط نسبًا، وقد يكون زمالة عمل، وقد يكون صديق جرته الصدفة في موقف ما لأن يكون الحاضر دون غيره «وقت الضيق» فيقدم على عمل يصنف على أنه شجاع بما يرافق ذلك من تضحيات، وبالتالي يُقَيَّمُ ذلك على أنه ذو فضل، وهذا الفضل يجب أن يحفظ، ولا يفرط فيه، ومسألة وجود «فضل» في المسافة التي تفصل بين الطرفين مسألة في غاية الأهمية؛ لأنها محرجة إلى درجة كبيرة، ويظل هذا الفضل «يزن» على الذاكرة، ويقلق سكونها: «كيف تعادي من كان له فضل عليك؟»، «كيف لا تتغاظى عن خطأ ارتكبه ذو فضل عليك قد يكون في حالة ضعف؟»، «كيف تفرط في علاقة شخص وقف معك يوم لم يقف معك أحد؟» وتظل هذه الدفوعات من الأسئلة تضغط عليك بقوة، فتستسلم لها؛ في أغلب الأحيان؛ مع عدم قناعتك بمبرراتها؛ لأنك تواجه موقفا مختلفا من صاحب هذه العلاقة أو تلك، لا تتيح لك فرصة المقارنة، وترجيح الكفة بين متقابلين: فضل مدفوع – استهلك زمانه – وشر ماثل – حاضر زمانه – ومقلق إلى حد بعيد؛ ترى فيه أنه قوض كل ما تم بناؤه في فترة زمنية ماضية، ما يقينك الذي بنيته عبر تجربتك وخبرتك في الحياة، أن لا شيء ثابت، وأن كل شيء قابل للتغير، والإنسان بطبيعته «حمَّالُ أوجه» لا يستقر على حال، وذلك انعكاس لمجمل الظروف التي تمر عليه في اليوم والليلة، المتناوبة بين فرح وحزن، وسعادة وتعاسة، فإنَّ له أن يستمر على حالة ثابتة، وهو يتلقى صدمات من هنا أو هناك، وإن تخلل ما بينها من حالات هي أقرب إلى الرضا، والتعايش والقناعة، ولكن كما يقول أبو العلاء المعري: «وحزن في ساعة الموت؛ آلاف سرور في ساعة الميلاد» وبما أن المواقف المحزنة؛ وإن قلت، فإن تأثيراتها أقسا على النفس من مواقف المسرة والبهجة والانشراح.

يُلْتَفَتُ إلى كثير من المعايير في مختلف العلاقات القائمة بين الناس ودورها الكبير والمؤثر في شأن ديمومات العلاقات بين الأطراف، قد يكون المعيار القيمي هو أول ما يطرح لتقييم العلاقة، هذا إذا قيست المسألة من جانبها العاطفي، أما إذا قيست من معيار مادي، فإن هنا المسألة تقف عند مفهوم السوق (الربح والخسارة) وعند هذه المسألة تكون مزعجة بالفعل، عندما ننزل علاقاتنا مع الآخر هذه المنزلة، وخاصة إذا كانت ما بين حاضنتها الاجتماعية، كمسألة «المقابل» إذا زارني زرته؛ وإذا أسدى إليَّ معروفًا في أمر ما، أسدي إليه معروفًا مقابلًا، وإذا استنكر عليَّ شيئًا؛ استنكرت عليه أشياء، وإذا عاداني أعاديه، «فهو ليس أكثر أهمية منى» وهكذا تستمرئ الأنفس وفق هذه الصورة المتعبة والمنهكة، وأصفها بذلك؛ لأنها لا تستنشق عطر حريتها، وقراراتها المنفصلة عن هذه الموازنة المقيتة، ولعل المأزق الأكبر في العلاقات هي هذه المتوازنات، والحرص على استحداث كفتي ميزان في كل المواقف توزن من خلالها مجموعة التناظرات السلوكية، بين الطرفين، ولا يترك أي أفق مشرق يتجاوز هذه المظان المهلكة، ولذلك يروج بصورة دائمة لمفهوم «لا تخبر صديقك عن اليد التي تؤلمك؛ فقد يأتي زمان ويلويها» حيث لا أمان بالمطلق.

أختم هنا بمقولة: «العلاقة بين الناس كالبيوت؛ بعضها يستحق الترميم البسيط، وبعضها يستحق الهدم وإعادة البناء، وبعضها الآخر يجبرنا أن نكتب عليها للبيع» – انتهى النص – وهي التي تقف عند ثلاثة مستويات من مستويات التعاطي مع الآخر، هذا الآخر الذي أعيا الآخر المماثل، فأضحت الصورة باهتة، مشحونة بكثير من الألم، وعلى الرغم من التجربة الإنسانية الطويلة في الحياة، لم يستطع أن يرممها بالصورة التي تبدو جلية مشرقة من الشوائب والمكدرات، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین الطرفین مع الآخر

إقرأ أيضاً:

لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي في تونس أن يكون ديمقراطيا؟

إن الحديث عن يسار وظيفي (وهو يسار متشكل من كيانات ماركسية وقومية ناصرية وبعثية) يعني منطقيا وجود يسار غير وظيفي، أي وجود يسار قد نختلف في توصيفه؛ فهو عند البعض يسار وطني وعند آخرين يسار ثوري أو يسار جديد، ولكننا لن نختلف في أنه لن يكون متذيلا للمنظومة الحاكمة ولا خادما لها بالمعنى التقليدي الذي تحدث عنه بول نيزان (كلاب الحراسة الذين كانوا يتشكلون زمن نشر الكتاب -سنة 1932- من الفلاسفة والمنظرين والمثقفين)، وبالمعنى الذي وضعه من بعده سيرج حليمي (كلاب الحراسة الجدد الذين يتشكلون من الإعلاميين والصحفيين والخبراء والمحللين).

فحراسة النظام والتقاطع الاستراتيجي مع نواته الصلبة ومع الخيارات التأسيسية للدولة-الأمة، ولو رافق ذلك أحيانا اتخاذ مسافة نقدية من الواجهة السياسية لمنظومة الاستعمار الداخلي أو التحرك ضدها في بعض القضايا الخلافية، تجعل من اليساري وظيفيا بالضرورة، أي فاعلا جماعيا يحدد مواقفه واقعيا ويتحرك في مختلف القطاعات -مهما كانت دعاويه نظريا- لخدمة تلك المنظومة ومنع أي مشروع ثوري/إصلاحي قد يُعرّض مصالحها المادية والرمزية لأي خطر وجودي. وهو أمر أكدته الثورات العربية بما فيها الثورة التونسية.

الديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي
ليس الهدف من هذا المقال شيطنة اليسار أو بطر حقه باعتباره حاملا لمشروع ثوري أساسه العدالة الاجتماعية وعنوانه الأكبر التحرر الوطني، وليس هدفنا أيضا أن نختزل اليسار في البعد "الوظيفي" الغالب على مكوناته وترذيل تلك الأصوات الفردية التي تتحرك ضد الاتجاه العام للفكر اليساري "المُتَونس" على أعين اليمين، ولكن هدفنا هو طرح بعض الأسئلة مشفوعة ببعض النقاط التي قد تصلح لتعميق النقاش العمومي فيها: لماذا تحوّلت أغلب مكونات اليسار إلى أجزاء وظيفية في منظومة الاستعمار غير المباشر/ منظومة الاستعمار الداخلي منذ عهد المخلوع واستمرت كذلك حتى بعد "الثورة"؟ لماذا ارتضت أغلب مكونات اليسار أن تكون "وكيلا مؤقتا" للمنظومة السابقة خلال المرحلة التأسيسية وطيلة ما يسمى بـ"عشرية الانتقال الديمقراطي" المجهضة؟ ما الذي دفع أغلب مكونات اليسار إلى إنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لإنهاء "الفسحة الديمقراطية" والانقلاب عليها؟ ولماذا ساندوا "تصحيح المسار" رغم أنه ينهي الحاجة إلى "الديمقراطية التمثيلية" وإلى أجسامها الوسيطة في كل المجالات؟ هل يمكن لاستصحاب ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي أن ينتج حقلا سياسيا طبيعيا يمكّن اليسار وغيره من الانعتاق -ولو بعد حين- من هيمنة النواة الصلبة لمنظومة الحكم بصرف النظر عن واجهتها السياسية؟

رغم دوران تعبير "الجمهورية الثانية" على ألسنة بعض النخب بعد الثورة، فإن مصيرها لم يختلف عن مصير الشخصية السياسية المعارضة التي ارتبطت بها، أي المرحوم طارق المكي؛ زعيم "حركة الجمهوية الثانية". فهذه الشخصية المعارضة لم تستطع أن تتموقع في الحقل السياسي الجديد، وكان مصيرها التهميش حتى بعد وفاتها. فقد غابت عن جنازته -بعد وفاته بـ"سكتة قلبية"- كل الوجوه السياسية والحقوقية والنقابية المعروفة، ولكنّ أغلب تلك الوجوه حضرت "جنازة" الجمهورية الثانية بإجماعها على إدارة الثورة بمنطق "استمرارية الدولة"، وهو منطق جعل الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية ضربا من أحلام اليقظة التي تشرعن نفسها وتتلبس بلبوس الحقيقة عبر شعار "الاستثناء التونسي".

ورغم أن اليسار الوظيفي لم يكن هو الطرف الأوحد الذي "طبّع" مع المنظومة القديمة ومع رموزها تحت غطاء "استمرارية الدولة"، فإن هذه المقولة كانت تسمح له بتحقيق مكسبين: أولا، منع أي إعادة تفاوض جذري على "المشترك الوطني"،أي الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، وجعل تلك الأساطير خارج النقاش العمومي ورفعها إلى مستوى "المقدس الوطني" الذي يُخون كل مُطالبٍ بمراجعته؛ ثانيا، فتح مجال أمام ورثة المنظومة القديمة -باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية- لتقلد أهم مناصب الدولة في المرحلة التأسيسية، وذلك لمواجهة مشروع "أسلمة الدولة" الحقيقي أو المتخيل، وللاستقواء بهم ضد "العدو الوجودي" المتمثل في حركة النهضة ومجمل حركات الإسلام السياسي.

مهما كانت الأسباب التي دفعت بحركة النهضة إلى القبول بمنطق "استمرارية الدولة" -أي إدارة المرحلة التأسيسية بالرأسمال البشري التابع للمنظومة القديمة- فإنها قد حددت مسارها ووضعها الحالي منذ تلك البداية "التوافقية". ونحن هنا نتحدث عن خيار "استمرارية الدولة" باعتباره أصل كل سياسات التوافق اللاحقة، وذلك على الضد من كل الأطروحات التي تؤرخ للتوافق بالتحالف البراغماتي بين حركة نداء تونس وحركة النهضة بعد انتخابات 2014. فتوافق باريس بين "الشيخين" هو مجرد لحظة من لحظات إعادة التوازن للخيار التأسيسي: قبول النهضة بأن تتحول هي الأخرى إلى جسم وظيفي في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي، أي تحولها إلى جناح "محافظ" داخل تلك المنظومة بمنطق "الشريك"، والتخلي عن أي مشروع لهدم تلك المنظومة وإعادة بنائها بمنطق "البديل". وهكذا تحولت النهضة -بصرف النظر عن نواياها وتقديراتها السياسية تكتيكيا واستراتيجيا- إلى "وطد متدين"، أي إلى يمين وظيفي يعد بأن يقدم للمنظومة ما قدمه لها اليسار الوظيفي، خاصة الوطد" من موقع مختلف أساسه "القوة الشعبية" التي ترفد/تتجاوز القوة النوعية لليسار الوظيفي. ولكن هل يجعل هذا الخيار من حركة النهضة "عائقا" من عوائق بناء الجمهورية الثانية كما هو شأن اليسار الوظيفي؟

إن الإجابة الأقرب إلى الموضوعية عن هذا السؤال هي النفي. فالاختلاف الجذري بين النهضة "الوظيفية" واليسار الوظيفي ليس في الدور الذي يلعبانه الآن-وهنا في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة، بل في الدور الذي يمكن أن يلعبه وجودهما في المستوى الاستراتيجي. ذلك أن وجود النهضة في الحقل السياسي القانوني يكسر التجانس القسري الذي فرضته منظومة الاستعمار الداخلي بين المكونات المعترف بها داخل السلطة وداخل المعارضة القانونية زمن المخلوع. كما أنه يخلخل احتكار النخب "اللائكية" بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية للفضاء العمومي، وهو -فضلا عن ذلك- يدفع إلى إعادة التفكير في معنى "العائلة الديمقراطية" بعيدا عن ادعاءاتها الذاتية. فوجود حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية -حتى وإن كان هذا التعريف مجرد معطى نظري لا محصول تحته- يعيد هندسة الفضاء العام، ويعمل بمنطق التراكم على استئناف التفكير في معنى "المشترك الوطني" وفي سياسات التحديث الفوقي وفي منطق "التنوير" وفلسفته السياسية الكامنة. وهي معطيات يمكن في المستوى "الاستراتيجي" أن تخلخل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وأن تنتج الشروط الفكرية والموضوعية للتفكير "معا"، بعيدا عن إملاءات منظومة الاستعمار الداخلي وعن أدوار "الوكالة" التي ارتضى بها كل الوظيفيين يمينا ويسارا بعد الثورة.

إذا ما أردنا صياغة ما تقدم بصورة أكثر وضوحا فإننا سنقول بأن اليسار الوظيفي هو جوهريا ضد بناء الجمهورية الثانية، على خلاف النهضة التي تضادد تلك الجمهورية "سياقيا" أو نتيجة تقديرات سياسية خاطئة. فالديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي. ولذلك لا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي وراء كل الدعوات الانقلابية منذ المرحلة التأسيسية، الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسارولا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي ذاته خادما لممثلي المنظومة القديمة في حركة نداء تونس وغيرها (وما الانتخاب المفيد للمرحوم الباجي قائد السبسي وشيطنة الرئيس منصف المروزقي ببعيد)، ولا غرابة أخيرا في أن يكون اليسار الوظيفي -بشقيه القومي والماركسي- هو من عفّن "الفسحة الديمقراطية" وأوجد الشروط الفكرية والموضوعية لـ"تصحيح المسار"؛ باعتباره نفيا للديمقراطية التمثيلية وعودة لما تسميه حنا أرنت بـ"الوحش البيروقراطي المسلّح"، ذلك الوحش الذي يلغي الحاجة لأنصاره "النقديين" قبل خصومه الراديكاليين.

ختاما، فإن الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسار في المجتمع المدني وفي المركزية النقابية وفي "الخطوط التحريرية" الغالبة على الإعلام العمومي والخاص. أما "النهضة الوظيفية" فإنها تجربة تؤكد الحاجة إلى إدارة ملف التوافق بعيدا عن الانتهازية والحسابات الضيقة، ولكنها تجربة لا تلغي الحاجة إلى الأجسام السياسية المحافظة باعتبارها ممثلا لشرائح واسعة من المواطنين الذين لا يجدون أنفسهم في أطروحات اليسار، ولا في البورقيبية أو الأجسام التجمعية الجديدة.

ولا شك عندنا في أن ما تقدم يجعلنا أمام مسألة التمثيلية أو مصادر الشرعية وعلاقتها بالرأي العام، وهي مسألة ما زال اليسار الوظيفي يصر على إدارتها بالاستقواء بالدولة العميقة بعيدا عن أي حراك مجتمعي عفوي لا تحكمه "القوة النوعية" أو "القوة العارية" ومراكز النفوذ الداخلي والخارجي. ولا شك عندنا في أن هذا الوعي السياسي يجعل من الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع مجرد فاصلة في "الجمهورية الأولى"، بصرف النظر عن واجهاتها السياسية وعن السرديات السياسية الموظفة لحماية نواتها الصلبة وما يدور في فلكها من شبكات زبونية.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • في العلاقة بين ترامب ونتنياهو...!
  • لماذا يضعك إقراض المال للأصدقاء والأقارب في مأزق حقيقي؟
  • لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي في تونس أن يكون ديمقراطيا؟
  • لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي أن يكون ديمقراطيا؟
  • ما بعد التبعية: تغير ميزان القوة بين واشنطن وأوروبا
  • ثلاث سيناريوهات متوقعة لعلاقة سوريا وأميركا المستقبلية
  • كيف تحولت العلاقة بين تبون وبن زايد إلى تبادل اتهامات وإهانات علنية؟
  • فرح شعبان تعود إلى علي غزلان بعد الطلاق: “ابني كان السبب وأدركنا أخطاءنا”
  • ربنا يكون في عونها..جابر القرموطي يدافع عن مها الصغير
  • تناول منتجات الألبان قبل النوم قد يكون سبب “الكوابيس”