دعوة لإلغاء التعليم العام وتعميم التعليم الأزهري في مصر
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
التعليم هو البنية الأساسية لأي مجتمع حديث أو قديم، وهو مؤشر على مدى نهضة أو تراجع الأمم والمجتمعات. وقد كان للتعليم وتطويره في خطاب المصلحين العربي الكبار خلال مائتي العام الأخيرة نصيب الأسد، غير أن التجربة العملية أثبتت أن مؤشر التعليم المدني المصري الحديث ينحدر مع الوقت، وهو أمر مرتبط بنشأة هذا النمط من التعليم أكثر من كونه مرتبطا بأية سياسات اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية.
المشكلة التي يعاني منها التعليم المصري هي مشكلة بنيوية هيكلية لمنهجية تعليم كانت تتوق للنموذج الأوروبي من جهة، وترى في التعليم الديني التقليدي مشكلة تحتاج إلى حل من جهة أخرى. وعلى هذا المنوال سارت فلسفة التعليم الرسمي المدرسي والجامعي، ولذلك لم يكن مستغربا أن يطالب المذيع تامر أمين بإلغاء دراسة المواد الأدبية مثل الفلسفة والمنطق وغيرها من المواد. ورغم ألم الطلب إلا أن الواقع يقول فعلا بأن هذه المواد هي مثار تندر الطلاب وسخريتهم، ولا يدرسونها سوى المشكلة التي يعاني منها التعليم المصري هي مشكلة بنيوية هيكلية لمنهجية تعليم كانت تتوق للنموذج الأوروبي من جهة، وترى في التعليم الديني التقليدي مشكلة تحتاج إلى حل من جهة أخرى. وعلى هذا المنوال سارت فلسفة التعليم الرسمي المدرسي والجامعيمن باب الحفظ للنجاح في الامتحانات وليس لها تأثير يذكر على تفكيرهم وسلوكهم. وهذا ليس تأييدا لهذه الدعوة الغريبة، ولكن مواجهة لواقع أليم ينبغي التعامل معه بواقعية وليس بمثالية.
إنني متعاطف مع مدرسي اللغتين الفرنسية والألمانية الذين صُدموا بقرار أن يتحول تدريس المادتين إلى مواد نجاح وسقوط، مما يعني حرمانهم من الدروس الخصوصية، لكن ينبغي الانتباه إلى أن مثل هذه اللغات حتى في دول المغرب العربي أصبحت هناك دعوات كثيرة لإلغاء تدريسها. الأَولى للطالب المصري أن يدرس الصينية أو التركية كلغة أجنبية وليس الفرنسية الآن، وأن لا يتم هذا بشكل يحرم هؤلاء المدرسين من حقوقهم.
لقد غفلنا عن أن هناك منظومة تعليمية تقليدية دينية ممثلة في التعليم الأزهري حاربت للاحتفاظ بموقعها كمسار تعليمي منفصل، ولكن للأسف بعيدا عن النخب وعن طموحات الطبقات المتوسطة والعليا التي جنحت مع الوقت نحو المدارس الأجنبية؛ سعيا نحو تأمين مستقبل أفضل لأبنائهم ومن ثم وسيلة للترقي الطبقي والاجتماعي. ولم يعان التعليم الأزهري من المشاكل ذاتها التي يعاني منها التعليم المدني، بل بالعكس، كان قادرا على جذب طلاب من الدول الإسلامية المختلفة وله فروع في مناطق مثل غزة؛ لا يزالون يرونه تعليما مثاليا.
تنبغي مواجهة الحقائق التاريخية المجردة التي تقول بأن تجربة تحديث التعليم في مصر خلال عقود سعيا وراء تغريبه تحت ستار تطويره؛ لم تثمر سوى صورة مشوهة من التعليم الأجنبي الذي دخل مصر في عهد الاستعمار، وليست لديه مقومات الاستمرار ولا مقومات النهوض. كما أن تهميش التعليم الديني التقليدي لم يكن خيارا شعبيا بقدر ما كان قرارا نخبويا فوقيا متعاليا على الناس أثناء الاحتلال الأجنبي وأثبت الزمن خطأه.
تجربة تحديث التعليم في مصر خلال عقود سعيا وراء تغريبه تحت ستار تطويره؛ لم تثمر سوى صورة مشوهة من التعليم الأجنبي الذي دخل مصر في عهد الاستعمار، وليست لديه مقومات الاستمرار ولا مقومات النهوض. كما أن تهميش التعليم الديني التقليدي لم يكن خيارا شعبيا بقدر ما كان قرارا نخبويا فوقيا متعاليا
الحل الذي اقترحه وأدعو إليه هو تعميم تجربة التعليم الأزهري على مراحل التعليم في مصر من الابتدائي وحتى الثانوي، لعدة أسباب:
أولها، أن الزحف مستمر من التعليم العام للأزهري بسبب الوضع البائس الذي وصله التعليم المدني العام في مصر، وبالتالي فمن الناحية العملية هذا مجرد تقنين لظاهرة غالبا ستزداد في الفترة القادمة.
وثانيا، أن التعليم الأزهري يشتمل على المواد التطبيقية والعلمية إلى جانب العلوم الشرعية، فلن يفقد الطالب أية مواد علمية من التي يفترض أن يدرسها، كما أن المواد الأدبية من فلسفة أو منطق سيدرسها كما يدرسها الأزهريون في إطار علوم المعقول وهي أفضل ألف مرة من المناهج في التعليم المدني.
وثالثا، أن هذا النظام التعليمي مستمر منذ أكثر من ألف عام وقائم بالفعل، ولن يكلف الدولة مغامرة الدخول في تجارب جديدة تزيد من أعباء أولياء الأمور والطلاب، كما أن التحول له سيكون إجرائيا وليس معتمدا على تغيير جذري في المناهج.
ورابعا، سيضمن أن الثقافة الدينية العامة ستكون نابعة من المنهج الأزهري الوسطي، مما يجنب البلاد والعباد مشاكل التطرف الذي خرج معظم رموزه من التعليم المدني وليس الأزهري.
ستكون هناك بلا شك بعض التحديات التي يمكن التغلب عليها بسهولة، مثل تدريب بعض كوادر مدرسي اللغة العربية لتدريس العلوم الشرعية وإشراف الأزهر بشكل كامل على التجربة، كما أن وضع الإخوة المسيحين في هذا الإطار يمكن أن يتم عبر مواد أخرى يدرسونها أو بتجنب دراستهم العلوم الشرعية.
x.com/HanyBeshr
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التعليم المصري الأزهري المدارس العلوم مصر الأزهر علوم مدارس التعليم مقالات مقالات مقالات مقالات تكنولوجيا سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التعلیم الأزهری التعلیم المدنی من التعلیم فی التعلیم کما أن فی مصر من جهة
إقرأ أيضاً:
حسين خوجلي يكتب: حكاية من دفتر الأزهري
تظل المواقف الصغيرة والكلمات للزعماء واصحاب الرئاسات هي المفاتيح الأساسية للتوثيق لحياتهم وتجاربهم وللاستفادة من أيامهم في الحكم والسيادة، بما فيها من انجازات وأخطاء ومواقف بين بين.
وللأسف أن الذاكرة الصحفية في التأليف والنشر فشلت فشلا ذريعا في توثيق هذه المفاتيح المعرفية عن شخصياتنا العامة، فاختلطت الحقائق بالأكاذيب، وهوى النفس وشحها في تعريف القيادات وتسويقها.
فمن في كل الاجيال التي تعاقبت يعرف السيرة الحقيقية للامام المهدي وللخليفة عبدالله ود تورشين، من منا يعرف السيرة الحقيقية للامام عبد الرحمن والسيد علي الميرغني والزعيم اسماعيل الأزهري والفريق عبود والمحجوب وعبدالله خليل وسر الختم الخليفة وجعفر نميري وسوار الدهب والصادق المهدي والفريق البشير وعبد الخالق محجوب وحسن الترابي وبابكر كرار والشريف حسين الهندي والشريف زين العابدين الهندي ومحمود محمد طه والرشيد الطاهر ومحمد ابراهيم نقد وكبيدة وبابكر النور وحسن حسين وبقية الأسماء التي حكمت أو حاولت أن تحكم السودان، عن سيرتهم الحقيقية أو الوجة الآخر.
إن كل الذي ورثناه عن هؤلاء مجرد تصريحات باردة كانت تردُ في الصحف اليومية والإذاعات ومجالس المديح الحزبي، تلك المجالس التي كان كل همها أن تكذب بصدق.
خطرت لي هذه الخاطرة وقد تركت ورائي كراسة قديمة سجلت فيها الكثير من الاقوال والاحداث الصغيرة والكبيرة للزعماء السودانيين من أفواه من عاصروا هؤلاء الكبار وجالسوهم، ونحن جيل محظوظ فقد شاهدنا أغلب هؤلاء واستمعنا لاصدقائهم واحبابهم ومنتقديهم وأعدائهم، نعم التقيناهم عيانا وكفاحا.
هذه الكراسة الثمينة ما زالت بعيدة، ولكن ما زال في الذاكرة شي من الحضور والالتماع النسبي الذي يضيئ كل ما ذكرنا عن تلك الشخصيات وتلك المواقف ويشحذ الذاكرة ببريقه.
ومن مئات الحكايات تذكرت هذه عن الزعيم الوطني الراحل اسماعيل الأزهري الذي جاء من زنزانته في كوبر إلى مقابر البكري وكانت مساحة الزمن ما بين السجن والمقابر عدة ساعات. وقد كرمني الله وأنا صبي أن اكون في قلب المظاهرة التي ودعت الشهيد الأزهري رافع علم الاستقلال وقد قادتها بجرأة وشجاعة الراحلة الدكتورة سعاد الفاتح متحدية مع الالاف سلطة مايو الماركسية انذاك، والتي فجعتنا في الرجل الكبير مرتين، الأولى بسجنه واغتياله والثانية ببيان محجوب عثمان وزير الاعلام يومها وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فقد اذاعت ابواقه الخبر بالعبارة الوضيعة الشهيرة (توفي صباح اليوم اسماعيل سيد احمد الأزهري المعلم بالمعارف السودانية)
قال الشاهد إن مجموعة من الاتحاديين المساهمين في الحزب بأموالهم ودعمهم في الدوائر جاءوا يوما للزعيم الأزهري وكان يومها رئيسا لمجلس السيادة ملتمسين منه الغاء أمر عسكري بارسال ابنهم الضابط إلى جنوب السودان ليخوض مع رفاقه معارك الشرف ضد المتمردين. استمع لهم الأزهري في صبرٍ وجلد رغم ما كان يعتصر قلبه من حزن وغضب من الطلب الغريب.
فامسك بمسرة الهاتف واتصل بالسيد وزير الدفاع وهم ينظرون وقال بلهجة ساخرة: ( يا سعادته ما عندكم ياخي ضابط هامل اهله ما حريصين على حياته ومارقنو للربا والتلاف يمشي الجنوب مقاتلا بديلا لضابط من اولاد المصارين البيض؟ واغلق السماعة.
وحدق فيهم في غضب مُلهم دون أن يتفوه بكلمة واحدة. وطالت دقائق الصمت والتحديق بطيئة كأنها دهرٌ، وحينها أدرك الوفد الرسالة فانسحبوا في هدوءٍ ولم يعودوا.
اتمنى من كل قلبي عزيزي القارئ أن تكون هذه الحكاية محفزة لك ومحرضة لكي تجند نفسك من الآن لتجميع هذه الحكايات الصغيرة، فتلك الحكايات هي اللبنات الصلبة التي يمكن أن نبني بها ما تبقى من صرح دولة ٥٦.
حسين خوجلي
إنضم لقناة النيلين على واتساب