غياب حكومة السودان عن جنيف: من له حكومة لا يتشرد في الآفاق
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
لمح المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرييلو إلى أن الفلول هم من وراء امتناع القوات المسلحة عن الوفود إلى جنيف. وهذا منزلق إلى سوء ظن بالجيش من جهة، ونسبة أمور إلى الفلول تعطيهم قدراً فوق قدرهم من جهة أخرى.
امتنعت القوات المسلحة عن تلبية الدعوة إلى حضور مؤتمر جنيف الذي عقد الأربعاء الماضي والذي رتبت له الولايات المتحدة والسعودية.
تقدمت القوات المسلحة بشروط أرادت التوافق عليها قبل حضورها مفاوضات جنيف. فأرادت أن يكون ما اتفق عليه مؤتمر جدة في مايو 2023 لوقف العدائيات والغوث الإنساني أساساً للمحادثات في جنيف، بل لم تستحسن نقل طاولة المفاوضات من جدة إلى جنيف. كذلك أصرت على أن يكون وفدها للمفاوضات ممثلاً للحكومة السودانية لا القوات المسلحة وحدها.
ورأى كثير من الناس في تمنع الجيش دون المفاوضات جرجرة للأقدام من دون إيقاف الحرب بتلميح غير خافٍ بخضوعه للفلول، أنصار نظام الإنقاذ، في هذا الموقف. ورأوا في غيابه إهداراً لفرصة سنحت كان عليه اغتنامها، فترفع مخرجاتها أهوال الحرب عن السودانيين.
مؤكد أن جنيف كانت فرصة منتظرة لرفع المعاناة عن السودانيين إلا أنه بإمكاننا القول إن الصحف لم تطو ولم تكسر الأقلام مع ذلط . فما قبل انعقاد التفاوض، مما طلبته القوات المسلحة، سياسة في قوة ما يجري خلالها وما بعدها. وكان حكيم سوداني يقول هناك كلام في حوش المحكمة وكلام آخر أمام القاضي. فكلام خارج المحكمة هو الذي يفضي إلى نتيجة أفضل في المحكمة.
تثير اعتراضات القوات المسلحة على الإجراءات السابقة لانعقاد التفاوض قضايا صح اعتبارها لا لكسب الجيش فحسب، بل أيضاً لكسب وقف للحرب مؤكد وحاسم.
يستغرب المرء لعدم توفيق بيرييلو في استصحاب الجيش إلى المفاوضات بينما صدرت عنه في الماضي نظرات استحقت الموالاة لينفذ بشيء من الشك بالأطروحة الأميركية من أن الحرب في السودان هي صراع مأسوي بين جنرالين من أجل الحكم. فذكر مرة أن الجيش مؤسسة تاريخية وعتيقة، ونقول مروراً أنها احتفلت بعيدها الـ70 الأربعاء الماضي. لو توقف بيرييلو شيئاً قليلاً عند تقريره لقِدم الجيش هذا لأدرك أن الجنرال البرهان مسبوق إلى قيادته للجيش بـ70 سنة من القادة، بينما ليس بوسعنا قول الأمر نفسه عن الجنرال "حميدتي" الذي هو قائد "الدعم السريع" الأول وربما الأخير.
والعراقة أعراف، فكتب الروائي من جنوب أفريقيا جي أم كويتزي، قائلاً إن المهنية وحدها التي تحول دون قوى الأمن في جنوب أفريقيا وإبادة "الرفاق"، شباب أحياء السود الثائرين، عن بكرة أبيهم. وجاء عن بيرييلو أيضاً في لقاء له مع صحافيين في فبراير 2024 ما ودّ المرء لو استصحبه في ترتيبات مؤتمر جنيف. وبدا منه وكأن رفض الجيش حضور المؤتمر حزّ في نفسه فقرر، كما لا ينبغي لساعٍ في وساطة مضرجة مثله، أن الاجتماع سيعقد بمن حضر. وكان قال للصحافيين قبل ستة أشهر إن سير المعارك على الأرض لا يسمح للجيش بأن يذهب إلى المفاوضات ملمحاً إلى أهمية تحقيق الجيش نصراً على الأرض. وقال "يحتاج الجيش إلى أن يجلس إلى الطاولة مرفوع الرأس بعد تعديل الوضع في الميدان".
وأضاف شوقي عبدالعظيم الذي نقل فحوى اللقاء الصحافي أن وضع الجيش السوداني تضعضع أكثر مما كان عليه منذ ذلك اللقاء الذي جرى في فبراير 2024، واستولت قوات "الدعم السريع" على ولايات جديدة وأبقت حاميات عسكرية تحت الحصار الشديد. ويود المرء لو أن بيرييلو اعتبر في تدابيره لجنيف قولته الناضجة تلك عن الجيش وحفظ له رفعة الرأس فيها. ويتمنى المرء أن لو كانت محادثة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع البرهان الأربعاء الماضي قد أماطت الأذى عن طريق الجيش ليشارك في مؤتمر جنيف.
لا يفهم المرء لماذا تعسرت الاستجابة لطلب القوات المسلحة أن تكون الحكومة السودانية هي من يمثلها في جنيف. فما الحكمة في إلغاء الحكومة، عنوان الدولة، في السودان من قبل قوى دولية حارت دليلاً حيال ظاهرة الدولة الفاشلة والمنهارة.
ويسأل المرء أليس الحفاظ على ما تبقى من دولة السودان حتى استكمالها بوقف الحرب خطة للمدى الطويل لا ينبغي أن تغطي عليها الاعتبارات السياسية ليومنا كما سنرى. وعليه فليس مطلب القوات المسلحة بالاعتراف بأنه حكومة أيضاً بـ"الغبي" كما ذهبت إلى ذلك الصحافية رشا عوض. فلم ترَ في المطلب سوى مؤامرة من الفلول "على المفاوضات تحت لافتة وفد الحكومة على رغم عدم وجود حكومة منذ الـ25 من أكتوبر (2021)، بل يوجد وزراء مكلفون وخلايا كيزانية".
من الصعب على الزاعم غياب الحكومة عن السودان ليومنا قبول حقيقة أنه اتفق، أراد أو لم يرد، مع "الدعم السريع" الذي قال إنه خرج لإسقاط حكومة دولة 1956 كما تتجسد في دولة الفريق ركن عبدالفتاح البرهان. بل سبق هذا الزاعم، طالما ألغى الحكومة، بعقد النصر عليها لـ"الدعم السريع" بينما لا يزال هو بحاجة إلى وقت إضافي ليقضي عليها برمتها. ناهيك عن تعزيز من رمى بالحكومة في سلة المهملات لموقف "الدعم السريع" في هذه المسألة والذي جاء على لسان مستشار لها في الـ30 من يوليوالماضي. فقال المستشار إنهم سيتفاوضون مع الجيش ولن يسمحوا لأي كيان سوداني آخر مثل وزارة الخارجية بالدخول في هذه المفاوضات، أو مساعي وقف الحرب.
واتفق المستشار مع رشا عوض بأنه لم تعُد في السودان حكومة منذ انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021. ورأي "الدعم" هذا في الحكومة قديم وغير مستغرب ممن خرج لإسقاطها بالطبع. بل نجحت "الدعم" في مفاوضات جدة الثانية في إبعاد السفير عمر صديق من جلسات التفاوض بزعم أنه من حكومة في السودان بينما جاؤوا هم للتفاوض مع الجيش. وها هو مستشار "الدعم السريع" يعيد القول الآن عن رفضهم تطفل وزارة الخارجية على المفاوضات.
والاستغناء عن الحكومة مهما بلغت من السوء "مي بشارة" كما يقول السودانيون عن النبأ التعيس. وغني عن القول إنه حيث وجدت الحكومة في السودان في يومنا قامت بفروضها بقدر مستطاعها. ففوّجت حتى حجاج بيت الله هذا العام ناهيك عن خدمة التعليم والصحة والميناء والجوازات والعلاقات الدبلوماسية. فضيق موارد منظمتها للعون الإنساني في أماكن سيطرتها لم يسقط عنها واجب استقبال سيول البشر الفارين من وجه "الدعم السريع".
ويتمتع المواطنون في "حكومة الأمر الواقع" كما يسمونها بالأمن بالقدر المتاح في بيئة حرب ضروس بما لا ينطبق على المناطق التي تسيطر عليها "الدعم السريع". فمحمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات "الدعم السريع"، نفسه من نعى انفلات الأمن فيها في خطابه للسودانيين حول قبول قواته المثول في مفاوضات جنيف. فقال إنه ظل يحارب على جبهتين هما القوات المسلحة والمتفلتون الذين روعوا الناس. وقال إنه بينما انتصر على الفلول، القوات المسلحة، إلا أن المتفلتين "أرهقونا في معارك ما زلنا نخوضها بعزم وجدية". وعليه قرر إنشاء قوة خاصة في مواقع سيطرته لحماية المدنيين توفر الأمان الشامل للناس وعودتهم لمنازلهم مكرمين. وهذه مرته الثانية يعلن الناس عن قيام آلية ترد عن المدنيين من سماهم "المتفلتين". والتفلت هو أعلى مراحل تلاشي الدولة.
لمح بيرييلو إلى أن الفلول هم من وراء امتناع القوات المسلحة عن الوفود إلى جنيف. وهذا منزلق إلى سوء ظن بالجيش، من جهة، ونسبة أمور إلى الفلول تعطيهم قدراً فوق قدرهم من جهة أخرى.
ونسمي هذا التعظيم من ملكة الفلول في خطابنا السياسي "لوثة الكيزان". وهي لوثة تجرد كل كيان عداهم من فكر أو مصلحة يؤوي إليها وعزيمة لبلوغها. فشكا بيرييلو في كلمة قصيرة مسجلة الأربعاء الماضي ممن يقومون بأدوار سلبية ويعجلون بوضع إجابات سياسية حتى قبل وقف الحرب. وهم يفعلون هذا، في قوله، لأنهم يعرفون أنهم لا يحظون بتأييد شعبي بين السودانيين. وهذه انتهازية منهم يطلبون النفع لأنفسهم في حين يرزح السودانيون في أكثر حالاتهم تضعضعاً.
قيل إنك لا تعلم اليتيم البكاء. وقياساً فأنت لا تعلم السودانيين الصراع ضد الإسلاميين.
فالإسلاميون، الفلول، مهما قلنا عنهم، أصحاب مشروع وطني في بنية السياسة والمجتمع منذ الأربعينيات. فهم فينا ليسوا جماعة مسلمين "خلوية" من كل حدب وصوب مثل ما نرى في تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش" تخرج بأمة المسلمين حرباً على المجتمع والدولة.
فهم، بعزتهم لكونهم جماعة ذات مشروع وطني تستعين عليه بالدعوة والسياسة، لم يقبلوا في الستينيات بأفكار سيد قطب الداعية إلى أن تنتبذ الجماعة الإسلامية مهجراً من مجتمعها تتقوى فيه بالتربية في عقائدها انتظاراً ليوم العودة إليه فاتحين. بل رفض إسلاميو السودان الخضوع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين حتى لا يسلموا زمام أنفسهم لإرادة خارج السودان. وكفر التنظيم الدولي حسن الترابي الأمين العام للإسلاميين جزاء وفاقاً. بل لا يتفق للإسلاميين حتى تسميتهم "الإخوان المسلمين".
واشتبك مشروع الإسلاميين مع مشاريع منافسة له في الوطن مثل الاشتراكية والقومية العربية على عهود الديمقراطية في ساحات النقابات واتحادات الطلاب والمزارعين والمثقفين. كما اشتبكت معه هذه القوى في عهود الاستبداد وتغلبت عليه. فلم يلبث الإسلاميون طويلاً حين ظاهروا الرئيس جعفر نميري في ثيوقراطية أعوامه الأخيرة. فسقطوا قبله وبيده هو ليزول حكمه هو نفسه بثورة 1985.
كذلك لم يوقر الإسلاميون الديمقراطية العائدة التي جعلتهم الحزب الثالث في البلاد، فانقلبوا عليها في 1989 ليحكموا لـ30 عاماً انتهت باقتلاعهم في أبريل (نيسان) 2019. واقتلعتهم ثورة شعبية سلمية ذات عزيمة. وكانوا صمدوا ليس فحسب أمام أميركا التي أغلقت مسام العالم أمامهم بالعقوبة بعد العقوبة، بل أيضاً أمام سلاح الهامش السوداني من كل جنس ونوع المصوب نحوهم في دارفور وغير دارفور. لقد صاروا فلولاً بإرادة سودانية.
ومن عرف سيرة الإسلاميين والسودانيين كف عن الوصاية عليهم بلفت النظر إلى دسائس لهم تنطلي عليهم، فهذه حال مما يقال فيها "أعطِ العيش لخبازه".
ليس اشتراط الشروط قبل التفاوض بدعة، وفي شروط الجيش للجلوس للتفاوض كما رأينا ما استحق الوقوف عنده لإحسان التفاوض نفسه قبل إرضاء الجيش.
صورة لجوازي الذي جاءني بعد انتظار منذ أبريل 2023. فأفسدت الحرب طلبي الأول فكان الدعم السريع أزهق مؤسسة الدولة في الخرطوم. وفتحت السفارة هنا الباب لاستخراج الجوازات من بورتسودان قبل نحو 3 شهور فتقدمت بطلب ثان. وجاءني بعد أن حرمني غيابه من أسفار لمناسبات أكاديمية عالمية وأسرية. والذي له حكومة لا يتشرد في الآفاق.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأربعاء الماضی القوات المسلحة الدعم السریع فی السودان من جهة إلى أن
إقرأ أيضاً:
فك الخلاف ما بين تحالف السودان التأسيسي و”الديمقراطيين السودانيين” والدعم السريع
بقلم: على كمنجة
تواصل معنا العديد من الأصدقاء بشأن الخطوة التي أقبلت عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ، بتوقيها على ميثاق السودان الجديد التأسيسي ، مع عدد من الأحزاب السياسية، والدعم السريع .
وأغلب المتواصلين كانو من المؤيدين للخطوة بقوة. بينما البعض ، وهم موضوع هذا المقال ، انتقدوا موقف الحركة الشعبية ، مقدمين بعض الحُجج ، أهمها حُجتين :
الحُجة الأولى : يقولون فيما معناه " أن الحركة الشعبية كان الأصح أن تحتفظ بتحالفاتها مع القوى الديمقراطية ، بدلا من تأسيها لتحالف جديد يتكون من عناصر مشكوك في ديمقراطيتها - حسب قولهم " .
اما الحجة الثانية : " لماذا تتحالف الحركة الشعبية مع الدعم السريع الذي يعتبر " حسب قولهم ايضا " مسؤولا عن الانتهاكات التي ارتكبت ضد المواطنين خلال حرب ١٥ ابريل الجارية.
وفي هذا المقال نريد ان نناقش هاتين الحُجتين بشئ من الحكمة ، وبعقل مفتوح ، عسى ولعل أن نضفي نوع من " الموضوعية " على النقاشات التي دارت حول هذا الأمر خلال الفترة السابقة
اولا : حسب ما درج في السودان ، فأن وصف " الديمقراطيين " يطلق على القوى التي قاومت شمولية الإنقاذ طوال فترة حكمها ، ابتداءا بالتجمع الوطني الديمقراطي ، الذي أُسس في تسعينيات القرن الماضي ، ومرورا بتحالفات الإجماع الوطني ، والفجر الجديد ، والجبهة الثورية ، ونداء السودان ، حتى تحالف الحرية والتغير .
وبالرغم من ان مصطلح " الديمقراطيين " يستخدم للاشارة الى القوى السياسية والمجتمعة التي تعمل من أجل تعزيز الديمقراطية في السودان ، لكن في حقيقة الامر هذه القوى يوجد بداخلها تباينات حول " تصور الديمقراطية " الذي يختلف من حزب لأخر .
الحركة الشعبية شمال مثلا ، تعتبر أنه لا وجود للديمقراطية بدون فصل الدين عن الدولة ( العلمانية ) ، بينما هناك قوى اخرى لم تحسم أمرها بعد بشأن هذه القضية .
وهناك العديد من القضايا الأخرى لا تزال غير متفق حولها ،كقضية العدالة الانتقالية / والعدالة التاريخية ، واسباب المظالم التاريخية التي وقعت ضد شعوب معينة في السودان ، وتماهي الدولة القديمة مع علاقات القرابة ، بدلا من علاقات المواطنة ، والكثير من التفاصيل الأخرى، التي ظلت محل خلاف بين " الديمقراطيين " طوال الثلاثين عاما الماضية .
وبالتالي فأن ادعاء أي طرف بأنه صاحب " الجلد والرأس " الوحيد للقوى الديمقراطية ، يعتبر ادعاء باطل ، وهذه ليست المرة الأولى التي تتباين فيها مواقف القوى الديمقراطية ، على سبيل المثال ، عقب اندلاع الثورة الشعبية الظافرة في ديسمبر ٢٠١٨ ، واطاحتها بنظام البشير ، اعتبرت الحركة الشعبية شمال أن سقوط نظام الأسلاميين في السودان يمثل لحظة تاريخية وفرصة لمعالجة أزمات الدولة ، التي تتجلى في العلاقة الملتبسة بين " الدولة والمجتمع " ، وعندما نقول المجتمع نعني بذلك الشعوب السودانية المتنوعة التي تقطن في داخل الحدود الجغرافية للسودان الحالي ، وايضا العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة ، وبين القبيلة والدولة ، وبين الثقافة والدولة ، بين الحكومة والدولة ، وما تسببت فيه هذه الألتباسات من كوارث ، أدت إلى تعثر الديمقراطية في السودان ، واشعال الحروب الأهلية ، وتصدع لُحمة النسيج الوطني الذي يجمع بين السودانيين على أسس العدالة والمساواة .
لكن القوى المحسوبة على " الديمقراطيين السودانيين " والتي تشكلت في تحالف " الحرية والتغير " ذهبت في اتجاه مختلف تماما ، بقبولها للشروط التي وضعها المجلس العسكري حينها ، والتي اشترطت عدم المساس بطبيعة الدولة القائمة ، بالرغم من الاختلالات الفاضحة التي تقوم عليها هذه الدولة كما اسلفنا .
وقد رأئينا كيف سكتت اعداد كبيرة من " الديمقراطيين " عن الإجراءات الأنتقالية المهمة التي من شأنها أن تضع حدا " للدولة القديمة " القائمة على " اخضاع " الشعوب السودانية عبر العنف المفرط .
بالرغم من كل ذلك ، لم يحدث أن وصفت الحركة الشعبية شمال هذه القوى بأنها فارقت طريق الديمقراطية ، كما يصف الان البعض الحركة الشعبية بعد مشاركتها في تحالف السودان التأسيسي .
اضافة الى ذلك ، لا اعتقد اننا مضطرين بأن نُذًكر البعض " ان الشعب السوداني لم يعد في ذاك العصر الذي يمتلك فيه شخص واحد " مفاتيح التحالف الديمقراطي " في جيبه ... هذا زمانا ولى ولن يعود ".
أن تحالف قوى السودان التأسيسي يجمع في طياته قوى وطنية وديمقراطية وثورية لا تقل شأنا عن الديمقراطيين السودانيين الآخرين ، ولذلك فأن المزايدات والاتهامات العبثية ، والتشكيك في مواقف وتقديرات الأخرين ، لن تفيد بشئ ، وانما ما يفيد هو توجيه جهودنا نحو هدفنا المشترك كقوى تؤمن بضرورة تعزيز الديمقراطية في السودان ، بالرقم من التباين في المواقف ، التي يمكن ان نقلصها عبر معالجة قصورنا الذاتي ، و الاستمرار في الحوار فيما بيننا .
اما ما يتعلق بمشاركة الدعم السريع ، كعضو مؤسس في تحالف قوى السودان التأسيسي " تأسيس ) ، والحديث الكثيف الذي صاحب ذلك ، يجب أن نتفق اولا أن الدعم السريع حتى صبيحة ١٥ ابريل ٢٠٢٥ كان طرفا في حكومة السودان الانتقالية ، وقبل ذلك كان طرفا في الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس ٢٠١٩ ، وقبلها كان طرفا في تطورات الأحداث بعد إسقاط نظام البشير ، التناقض الوحيد الذي أثير وقتها ، هو وجود الدعم السريع كقوى منفصلة عن الجيش ، وهو ما تشكل على اثره توافق سياسي بضرورة مشاركة الدعم السريع في العملية السياسية المفضية إلى ادماجه في القوات المسلحة السودانية ، بالتالي فأن مسألة عزل الدعم السريع من العملية السياسية الانتقالية تعتبر قضية غير مطروحة من ضمن الاجندة ، على الاقل في حقل القوى الديمقراطية ، وهذا ما يهمنا .
ثانيا : الدعم السريع ليس حزب سياسي ، وهو بنفسه، لم يقول انه حزب سياسي ، وبالتالي فأن التسأولات التي يطرحها البعض حول ، كيف الحركة الشعبية شمال تعقد تفاهمات مع تنظيم ليس لديه رؤية سياسية معروفة ولا منفستو ولا هياكل تنظيمية ، تصبح تساؤلات لا مكان لها من الأعراب .
حقيقة الأمر هي أن الدعم السريع كان طرفا في حكومة الأمر الواقع في السودان ، التي تفاوضت معها الحركة الشعبية شمال حول السلام ، في عدد من الجولات منذ العام ٢٠١٩ ، والحرب التي اندلعت في ١٥ ابريل هي حرب بين طرفي المكون العسكري لحكومة الأمر الواقع ، وفي هذا السياق فأن الدعم السريع لا شك انه يلعب دور رئيسي في إيقاف الحرب وتحقيق السلام على مستويين ، المستوى الأول إيقاف حرب ١٥ ابريل المستمرة بينه وبين الجيش ، والمستوى الثاني إيقاف الحروب المستمرة في السودان منذ سنوات سبقت حرب ١٥ ابريل ، في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وكل هذه العمليات تتحرك ضمن اطار أوسع يعمل من أجل وقف الحروب وتحقيق السلام في السودان ، تشارك فيه بأشكال مختلفة قوى داخلية ، وقوى اقليمية ودولية .
في هذا السياق تتحاور الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ، مع الدعم السريع ، ومع جميع المكونات السياسية والمجتمعية الأخرى ، لأحلال السلام في السودان ، وللمعلومية أن الحركة الشعبية شمال ظلت منفتحة منذ العام ٢٠١٩ ، على الحوار مع المكونات التي ساهمت في ثورة ديسمبر المجيدة ، سوى كانت القوى السياسية الديمقراطية ، او المكون العسكرى ، او مجموعات المقاومة النقابية و الشعبية المستقلة ، إلى أن تتوج ذلك بميثاق قوى السودان التأسيسي " تأسيس " ، الذي خاطب القضايا الجذرية للأزمة في السودان .
هذا ما يتعلق بدور الدعم السريع ، وموقعه في العملية السياسية الانتقالية المقبلة في السودان ، والذي ذكرنا انه ليست محل اختلاف ، إلا لمن أراد ان " يختلق " اختلافا من العدم ، وبالتالي لا أحد يمكن ان يزايد على الحركة الشعبية شمال في هذا الأمر ، اما اؤلئك الذين يحاولون شن سهامهم تجاه تحالف قوى السودان التأسيسي عبر بوابة انتهاكات حرب ١٥ ابريل ، التي يحملون مسؤوليتها ( بضربة واحدة ) للدعم السريع ، فهؤلا إما خصوم ، ممن يهدد الميثاق التأسيسي امتيازاتهم غير المشروعة ، وهؤلا في الغالب هم كيزان او متملقين / انتهازيين مستفيدين من الحرب .
او إما ضحايا للخطاب السائد الذي تبثه الأجهزة الدعائية لجيش البرهان ، وهو خطاب مسموم ، مقصود به دق طبول الحرب تحت رايات العنصرية والكراهية التي ستحرق " البيت " على رؤوس الجميع .
هناك الكثير من " المسكوت عنه " .بشأن انتهاكات حرب ١٥ ابريل ، ومن مصلحة وطننا أن لا نغمض أعيننا عن ذلك . كما يعلم الجميع ، ان اغلب هذه الانتهاكات حدثت في ولايتي الخرطوم والجزيرة ، وهي من أكثر الولايات في السودان التي تظهر فيها تقسيمات المجتمع الطبقية متماهية مع التقسيمات الاثنية والقبلية في السودان بشكل صارخ ، وتظهر الفوارق في نوعية العيش بين الاحياء الفارهة التي تقطنها مكونات اجتماعية بعينها ظلت تتمتع بميزات اقتصادية وسياسية أفضل ، والحواري والكنابي التي تقطنها مجموعات مهمشة ظلت لسنوات طويلة يمارس ضدها ظلم شنيع تحت سمع ونظر الدولة ، فماذا يمكن ان نتوقع بأن يحدث بعد ان انهار الجيش والشرطة والأمن من أول طلقة .
الدعم السريع نفسه كان جزءا من مؤسسات حفظ الأمن وحماية ممتلكات المواطنين ، ولكن هذه المؤسسات بما فيها الدعم السريع والجيش وغيرها ، تشظت ودخلت في حرب فيما بينها .ولذلك من منظورنا أن مسألة الأنتهاكات التي تعرض لها المواطنين خلال حرب ١٥ اكتوبر كانت نتيجة لأزمة الدولة نفسها ، التي انهارت أجهزتها في غمضة عين ، في ظل وضع اجتماعي ملئ بالمظالم ، وقابل للانفجار في اي لحظة ، وليس كل من سرق ونهب هو من الدعم السريع ، هذه حقيقة بائنة للعيان ، الا من كان في عينه رمد .
شئ آخر ايضا ، ما يتعلق بالانتهاكات ونهب ممتلكات المواطنين التي حدثت في ولاية الجزيرة ، وسنار وسنجة هل المسؤول عنها قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو " حميدتي " ، ام ابوعاقلة كيكل قائد قوات " درع السودان" التي كانت موالية للجيش عند اعلانها ، ثم اصبحت فيما بعد مع الدعم السريع ، و هزمت الجيش في هذه المناطق ؟؟ .
واين يصطف " كيكل " الآن؟؟ .
لذلك ، فأن المشلكة لم تبدأ مع الدعم السريع ، بل هي مشكلة قائمة في عضم الدولة القديمة منذ سنين خلت ، وعلينا ان نتذكر أن ممارسات النهب والانتهاكات ضد المدنيين ظلت ترتكب ضد السودانيين في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وقبلها جنوب السودان طوال السبعين عاما الماضية ، وحينها لم يكن الدعم السريع موجودا .
اغلب سكان هذه المناطق أخذتهم دوامة النزوح واللجوء اللعينة ، لا يتحدثون عن " منزل او مكان أقامة " من اساسه ، فذلك عندهم نوع من الترف .
هاولاء ايضا هم اُسر واطفال وأباء وامهات ، فقدوا كل شئ قبل اربعين وثلاثين عاما ، مثلما فقدت اُسر ومجتمعات وسط السودان " الخرطوم والجزيرة ، ممتلكاتهم ومنازلهم خلال حرب ابريل الجارية حاليا ، فكل هذه المآسي هي نتائج للحرب ، واذا اردنا معالجة ذلك يجب مخاطبة أسباب الحرب ، بدلا من البكاء على النتائج .
اخيراً وليس اخراً ، ان مشروع السودان الجديد التأسيسي " تأسيس " كما اسلفنا ، هو مشروع يستهدف " قلب قواعد اللعبة " chang the game ، وبالتالي فهو لا يتماشى مع اهواء عقلية " تكرار التجارب الفاشلة " the train track " ، لذلك فأن هذا المشروع ربما يأخذ وقتاً ، لكنه على أي حال لن يسرق سبعين عام أخرى من عمرنا .
ولنا عودة
aosman@alhagigasouthsudan.com