..وتجد الآيات في ذلك تتسارع، وتتعانق، وتتآزر في سبيل إظهار جانب الفضل، كما أبرزتْ جانب العدل، فترى ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى:(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الانعام ـ 104)، أيْ: أن مَنْ وعى، وتبصَّر، وأدرك رسالته، وفهم وظيفته، فإنَّ ذلك سيعود إلى نفسه، فلا نظلمه، ولا نهضمه حقَّه، أمَّا مَنْ عَمِيَ، وأغلق حواسه، وجحد نِعَمَ ربِّه عليه، وصَمَّ أذنيْه، وأغلق بصيرة قلبه فعلى نفسه وزرها كذلك:(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الانعام ـ 164)، وقال ـ جلَّ شأنه:(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الانعام ـ 44)، فأمر الكفر، وأمر الصلاح إنما يعود ضررُه ونفعه على نفسِ صاحبه، والله لا يظلم أحدًا شيئًا، وقال سبحانه وتعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت ـ 46)، فمَنْ عمل صالحًا، فلنفسه عمله، ومن أساء فعليها إساءته، وقد حُذِفَ المبتدأ هنا للعلم به، وأنَّ أحدًا لا يأخذ نصيبَ أحد، وفي الوقت نفسه لا يتحمل وزرَ أحد، أو ينوب عنه فيه، ولا يمكن أن يكون متعرضًا لعقاب الله، ولا مستعدًّا أبدًا لذلك، ولا يقوى عليه، كل امرئ بما كسب رهين، والمعيار أنَّه:(لا تزر وازرة وزر أخرى)، وأنَّه (لا يظلم ربك أحدًا).


ومنه ما قررته الآية الكريمة من أنه:(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل ـ 40)، فالمرء بين أن يشكر ربه على نعمه، ويُحسِن استقبالَها، وتوجيهها بما يُرضِي ربه، فتعود حسنة مَنْ شكر على نفسه، أي: لا يُظلَم، ولا يخشى هضمًا، وأمَّا مَنْ كفر النعمة، ولم يُؤَدِّ شكرها، وتنكَّب طريق الإقرار بها، فسوف ينال عاقبة كفره هو نفسه؛ لأن الله لا يظلم أحدًا:(ولا يظلم ربك أحدًا)، يقول الله تعالى:(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (طه 111 ـ 112)، حتى إنَّ مَنْ حاول التزكيةَ، وسلك سبلَها، ونهض بنفسه لها، فإنَّ الله يأخذ بيده إلى الوصول إلى غايته، ولا يتركه ما دام قد سلك الطريق إليها وصدق في سعيه، واجتهد، وثابر، وصبر، وتحمل، واصطبر، قال الله تعالى:(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (فاطر ـ 18).
وما دام المرء قد آمَنَ، وبدأ طريقَ الطاعة، ورجَا ربَّه أن يأخذ بيديه، فإنَّ الله يُعِينه حقًّا، كما أعان أهل الكهف، ورَبَتَ على أكتافهم، ورَبَطَ على قلوبهم، وتقبَّل منهم، وجعلهم قدوةً للعالمين، وقال في حقهم:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف ـ 13)، فمن آمن حق الإيمان، وصدق مع ربه في طريق الهدى والرشاد زاده الله هدى على هداه، وأعانه على بلوغ مرماه.
ودائمًا نسمع الأئمة على المنابر، وحفظنا عنهم أنَّه مَنْ حاول، واجتهد، وأخلص لربه، وجاهد نفسه، وصبر، واصطبر على الابتلاء، ودعا الله أن يوفقه، وفَّقه ربه، وأيَّده، وجعل له مَنْ يسانده، ويقف معه؛ لأن العدالة تقتضي الإعانة، والتمكين لمن صدق ربه، ومشى في سبيل رضاه، واستنزال نُعْماه، قال الله تعالى:(وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (العنكبوت 6 ـ 7).
د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽
✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ وسبب نزولها

 أجابت دار الإفتاء المصرية عن سؤال ورد لها من أحج المتابعين، جاء كالتالي: ما معنى الأهلة الواردة في قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾؟.

معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾

وأوضحت الإفتاء معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، وهى أن الصحابة الكرام رضي الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأهلة -التي هي جمع هلال، وهو القمر أول ما يَبْدُو دقيقًا للناس- وعن حقيقة خَلْقِه، والحكمة من جعله متَغَيِّرًا من حيث الزيادة والنقصان، وجواب سؤالهم: أن الله تعالى جعله كذلك ليَعْلَم الناس أوقات الحج والعمرة، والصوم، والإفطار، وآجال الديون، وعِدَد النساء وأيام حيضهن ومدة حملهن، وغيرها مما تُضبط به مواقيت شؤونهم، مع التنويه على أنَّ الآية الكريمة قد قررت أن استعمال الأهلة كمواقيت معتبر شرعًا، ولم تنف جواز اتخاذ غيرها مواقيت كالدورة الشمسية التي قدرها الله تعالى حسبانًا وعِلْمًا لعدد السنين والحساب مثلها مثل الدورة القمرية.

وقالت إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأمور المختلفة، وأن يستفهموا منه عمَّا يُشكل عليهم أو لا يَسْهُل فَهْمُهُ، ومن جملة ما حكاه القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189].

وأوضحت الإفتاء سبب نزول الآية الكريمة ، إذ أنها نزلت جوابًا عن سؤال بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد جاء أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾؛ يعلمون بها حِلَّ دَيْنِهم، وعِدَّةَ نسائهم، ووقتَ حَجِّهم" أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في "التفسير".

وتابعت قائلة: ومن المقرر شرعًا أنَّ الأهلة هي الأصل للمواقيت الشرعية التي تتعلق بالأوقات؛ كالشهور والأيام، ومِمَّا يدل على ذلك ما نُقِلَ إجماعًا على اعتبار الشهور بالأهلة في العدة.

 

وقد ذكرت كتب التفاسير اثنين من هؤلاء الصحابة الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما: معاذ بن جبل، وثعلبة بن غَنْمٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ رضي الله عنهما.

قال الإمام البغوي في "معالم التنزيل في تفسير القرآن" (1/ 211، ط. دار طيبة): [قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن غَنْمٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ، قالَا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم يزيد حتى يمتلئ نورًا ثم يعود دقيقًا كما بدأ ولا يكون على حالةٍ واحدةٍ؟] اهـ.
قال الإمام ابن عادل الحنبلي في "اللباب في علوم الكتاب" (3/ 330-331، ط. دار الكتب العلمية): [﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلَّاقيَّة، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.. واعلم أنَّ قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا، إلَّا أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّ قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان] اهـ.

والمقصود بقوله تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، هو أنَّا قد جعلناه كذلك ليَعْلَم الناسُ أوقاتِ الحج والعمرة، والصوم، والإفطار، وآجال الديون، وعِدَد النساء وأيام حيضهنَّ ومدة حملهنَّ، وغيرها، فلذلك اختلف حاله عن الشمس التي هي دائمة على حالٍ واحدة، كما في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل"، للإمام النسفي، (1/ 164، ط. دار الكلم الطيب)، و"معالم التنزيل في تفسير القرآن" للإمام البغوي (1/ 211).

وأكدت الإفتاء أن الأهلة جعلها الله معْلَمًا يَعْرِف به الناس ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم، فكلُّ ما تتوقف معرفته على وقتٍ لا تتحقق المعرفة به إلا من خلال العِلْم بالأهلة، كما في "تفسير الإمام الشافعي" للإمام الشافعي (1/ 298، 2/ 927، ط. دار التدمرية.

 

مقالات مشابهة

  • علامات قبول الله تعالى ورضاه على العبد
  • معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ وسبب نزولها
  • تنفيذ حُكم القتل تعزيرًا في مواطن لتلقيه مواد مخدرة
  • تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بمواطن قتل ابنه في مكة
  • "كاف" يظلم سفيان رحيمي في جائزة أفضل لاعب أفريقي
  • القبض على مهربي مخدرات
  • تنفيذ حُكم القتل تعزيرًا بجانيين في منطقة تبوك
  • تنفيذ حُكم القتل تعزيرًا بجانيين لتهريبهما مواد مخدرة إلى المملكة
  • المطران إلياس عودة: التكبر الناتج عن الغنى أو المركز أو النفوذ يأخذ صاحبه إلى الهلاك
  • من هو المعاجز الذي توعد الله له بسوء الخاتمة ؟.. علي جمعة يوضحه