لماذا تقلق أفريقيا من احتمال عودة ترمب للرئاسة؟
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
سرايا - لأن تداعيات انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب لفترته الأولى لم تقتصر على بلاده فقط، بل تعدتها إلى فصول من "الإثارة السياسية" ألقت بظلالها على أطراف المعمورة الأربعة -بما فيها القارة الأفريقية– يترقب العديد من صناع القرار في القارة السوداء بقلق ما سيحمله إليهم هذا الشتاء الأميركي بانتهاء الانتخابات.
فقد شهدت أفريقيا تجربة سابقة في عهد ترامب شابتها سلبيات كثيرة، وفي تكثيف بليغ يصف روناك غوبالداس مدير مؤسسة "سيغنال ريسك" المتخصصة في إدارة المخاطر بالقارة الأفريقية النهج الذي اتبعه ترامب تجاه أفريقيا بأنه تراوح بين "الازدراء والإهمال".
هذا التوصيف يكاد يكون سمة عامة في الأدبيات التي قيّمت مقاربة ترامب الأفريقية، مستندة إلى العديد من المؤشرات والأرقام، إذ لم يزر الرئيس السابق القارة السمراء مطلقا، ولم يستقبل في البيت الأبيض إلا 3 رؤساء أفارقة طوال ولايته.
ونُقل عن ترامب أثناء مناقشة بشأن الهجرة وصفه العنصري تجاه أفريقيا بقوله "لماذا عليّ الموافقة على مجيء لاجئين من دول قذرة؟! علينا قبول مزيد من اللاجئين من دول مثل النرويج"، ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يصف فيها ترامب المهاجرين الأفارقة بألفاظ مسيئة.
أما حديث الأرقام فكان أكثر وضوحا، إذ انخفضت التجارة بين الطرفين إلى ما يقارب 41 مليار دولار عام 2018 بعد أن كانت 100 مليار في عام 2008.
كما كان لموقف الإدارة الأميركية غير المهتم بالقارة إلى حد كبير آثاره الضارة على الاستثمارات الخاصة الأجنبية الأميركية في أفريقيا، والتي انخفضت بين عامي 2017 و2019 إلى 43.2 مليار دولار من 50.4 مليارا.
يرصد مقال كتبه أكاديميان -أحدهما فرانسيس أوسو أستاذ ورئيس قسم التخطيط المجتمعي والإقليمي في جامعة ولاية آيوا الأميركية- تطور المقاربة الأميركية تجاه القارة الأفريقية، عادّا المرحلة التي تسيد فيها بيل كلينتون البيت الأبيض (1993-2001) بداية للمشاركة الجادة والمستدامة بين الطرفين استمرت معطياتها في عهد كل من جورج بوش الابن وباراك أوباما، في حين مثّل انتخاب ترامب عام 2016 إشارة إلى "انفصال جذري عن هذا الإجماع".
لكن في 13 ديسمبر/كانون الأول 2018 أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك جون بولتون عن إستراتيجية جديدة لبلاده تجاه القارة السمراء، والتي شكلت أحد أهم ملامح سياسات ترامب الأفريقية.
قامت هذه الإستراتيجية على ركائز ثلاث تتداخل فيها العوامل الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية، إذ أكد بولتون على ضرورة تطوير الروابط التجارية بين بلاده وأفريقيا، مما يؤدي إلى ازدهار الشركاء الأفارقة، في مقاربة تهدف إلى الحد من النفوذ الصيني.
كما ركزت الإستراتيجية على ضرورة معالجة التحديات الأمنية الخطيرة المتجسدة في الجماعات الإرهابية المسلحة التي تستهدف واشنطن وحلفاءها، إلى جانب إعادة ضبط الأولويات في ما يتعلق بالمساعدات الأميركية لضمان توظيفها بالشكل الأمثل والأكثر جدوى.
كما مثلت مبادرة ازدهار أفريقيا التي أطلقتها إدارة ترامب عام 2019 محاولة تستهدف زيادة التجارة والاستثمار المتبادلين بين الطرفين، وذلك من خلال السعي إلى الاستفادة من مشاركة القطاع الخاص لدفع النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في كل من أفريقيا والولايات المتحدة.
لكن المشكلة "الهائلة في إستراتيجية ترامب" -وفق توصيف أحد كبار مستشاري الرئيس الأسبق باراك أوباما للشؤون الأفريقية- أنها صورت القارة كبيدق في لعبة عظيمة، وأن الأفارقة ليس لديهم القدرة على التصرف، وأنه لولا الصراعات الجيوسياسية فإنه ليس ثمة قيمة جوهرية للعلاقات مع دولهم.
وهو تصور قوبل باستياء عبر عنه الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا قائلا إن القوى المتصارعة على القارة تتصرف كما لو أن أفريقيا "في متناول اليد، وأريد أن أخبرك أنها ليست كذلك".
الما احتلت أفريقيا درجة متأخرة في أولويات الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما يشير إلى أن مستشاريه هم من سيتولون صياغة إستراتيجية إدارته في هذا الشأن.
وفي محاولتها تلمس التيارات الموجهة للسياسة الخارجية في حال فوز ترامب تذهب ورقة صادرة عن المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى وجود 3 معسكرات رئيسية داخل الحزب الجمهوري متباينة الرؤى بشأن أولويات السياسة الخارجية لبلادها.
ويتقدم هذه التيارات التقليديون الذين يشكلون القطاع المهيمن في الكونغرس الأميركي والمؤسسة التقليدية في واشنطن، وهم يؤيدون استمرار الزعامة الأميركية للعالم والوجود العسكري الأميركي في أنحاء مختلفة من العالم.
وعلى الطرف الآخر من هذا التيار هناك المعسكر الداعي إلى تقليص جذري للدور الأمني الأميركي في الخارج، وهو يتمتع بدعم القاعدة الشعبية الجمهورية، وبين الاثنين ثمة تيار ثالث أقل شعبية لكنه ذو نفوذ متزايد في دوائر صنع السياسة الخارجية، وتتركز دعواته على أن تتحول آسيا والصين إلى بؤرة تركيز السياسة الخارجية للبلاد.
وترى الورقة أن المعسكرات الثلاثة سيكون لها نفوذ في صنع السياسة الخارجية في حال فوز ترامب، وبالتالي في صياغة رؤيته للقارة الأفريقية، وذلك من خلال السعي إلى تنصيب مؤيديها في المراكز الحساسة المرتبطة بصنع الأجندة السياسية للمرحلة القادمة.
ورغم نأي ترامب بنفسه عنه تذهب العديد من التحليلات إلى أن "المشروع 2025" سيمثل دليل عمل الإدارة القادمة، وهو وثيقة من 900 صفحة ساهمت في إعدادها أكثر من 100 منظمة يمينية وأصدرتها مؤسسة "التراث" المحافظة التي سبق لها تقديم خطط سياسية للإدارات الجمهورية، بما فيها إدارة الرئيس السابق التي تبنت ثلثي مقترحات المؤسسة المذكورة، وفق ما نقلته عنها "بي بي سي".
وفي ما يخص القارة الأفريقية، تضمنت هذه الوثيقة العديد من التوصيات التي يصفها بعض الباحثين بالتغييرات الجذرية في أجندة ترامب للسياسة الخارجية وسياسة الأمن القومي الأميركي تجاه القارة السمراء في مجالات متنوعة تمتد من تحديد الأعداء والحلفاء وكيفية التعاطي معهم إلى ما يتعلق بـ"الحروب الثقافية".
وفي تقييمه لكيفية تأثير تداعيات انتخاب ترامب لولاية ثانية على الاقتصادات الأفريقية يذهب تحليل صادر عن معهد أفريقيا للدراسات الأمنية إلى أن أحد أهم أعمدة "اقتصاد ترامب" يتمثل في هيمنة الدوافع القومية والحمائية تماشيا مع شعار "أميركا أولا" بما قد يتضمنه من زيادة الضرائب على الواردات، مما سيخلق تأثيرات تضخمية تؤدي إلى رفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي.
هذه التوجهات تحمل في طياتها ما يقلق القادة الأفارقة، ولا سيما ما يتعلق بالتأثيرات السلبية على اقتصادات بلادهم، إذ ستؤدي إلى زيادة تكاليف خدمة ديونها، والحال أنها لا تزال تعاني من تآكل احتياطياتها المالية تحت ضغط جائحة كورونا والأوضاع الدولية غير المستقرة، وعلى رأسها حرب أوكرانيا.
بالمقابل، إن عودة إدارة ترامب إلى سياسات التراجع عن الاستثمار وتخفيض المساعدات ستكون آثارها مدمرة على اقتصادات القارة، ولا سيما لقطاعات الرعاية الصحية وعواقب تغير المناخ التي تفتقر أفريقيا إلى الموارد الكافية للتعامل معها.
كما أنه من المحتمل أن تقوم الإدارة الجديدة بمراجعة الترتيبات التجارية مثل قانون النمو والفرص في أفريقيا، والسعي إلى المزيد من الصفقات التجارية الثنائية، وهو ما قد يقوض منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وفق تقديرات معهد أفريقيا للدراسات الأمنية.
"الحرب التجارية" المتوقعة -بحسب تحليل منشور في "فورين بوليسي"- ستترك تداعياتها على التجارة الأفريقية التي ستجد نفسها في مرمى نيران معارك ينخرط فيها شركاؤها التجاريون الرئيسيون، مما من شأنه أن يخلق تأثيرا مثبطا للنمو ويعطل سلاسل التوريد تاركا آثاره الضارة على الدول الأفريقية التي تعاني الهشاشة الاقتصادية أصلا.
زيادة التنافس الجيوسياسي تستعرض دراسة صادرة عن المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية السيناريوهات المتوقعة لإدارة ترامب، إذ تشير إلى إجماع المعسكرات الرئيسية الثلاثة داخل الحزب الجمهوري على اعتبار الصين هي التحدي الأعظم لمصالح الأمن القومي الأميركي، وأنه من الضروري تفوق واشنطن في سباق المنافسة التكنولوجية مع بكين.
وسينعكس تصاعد التنافس الأميركي الصيني سلبا على الدول الأفريقية مع تزايد التوترات الجيوسياسية وسياسات الاستقطاب الدولي، مما قد يشعل اضطرابات وحروبا باردة وساخنة حول موارد القارة، ولا سيما على الدول التي تختزن ما يمكن وصفها بمعادن صناعة المستقبل المرتبطة بالتحول نحو الطاقة النظيفة والمستدامة كالكونغو الديمقراطية وغيرها.
وتدعو وثيقة "المشروع 2025" إلى تعزيز الاعتماد على التعاون مع الحلفاء الأوروبيين -ولا سيما فرنسا– في شمال أفريقيا إلى قيادة عمليات مكافحة الإرهاب ومواجهة التدخل العسكري والسياسي لروسيا في المنطقة من خلال مجموعة فاغنر.
حقوق الإنسان إلى الصفوف الخلفية وصف تقرير حالة العالم الصادر عام 2021 عن هيومن رايتس ووتش رئاسة دونالد ترامب بأنها كانت "كارثة لحقوق الإنسان"، وهو ما نجد مفاعيله أفريقيا من خلال العديد من المظاهر كتقديم الدعم لبعض الحكومات وتجاهل ممارساتها القمعية ما دامت متفقة مع المصالح الإستراتيجية لواشنطن.
ويشير موقع "بيزنس دايلي" إلى أن إستراتيجية أفريقيا التي أعلنتها إدارة ترامب عام 2018 لم تحتوِ سوى على إشارة واحدة إلى حقوق الإنسان قياسا بـ16 مرة في نظيرتها التي أصدرتها إدارة باراك أوباما.
وبالنظر إلى التراجع النسبي للنفوذ الغربي في أفريقيا وتزايد الصراع الجيوسياسي مع الصين وروسيا فإن من المرجح لجوء ترامب لدفع الملفات الحقوقية إلى الخلف سعيا لاكتساب المزيد من زعماء القارة إلى جانبه.
ختاما، رغم الصبغة السلبية التي ترسم الكثير من محاولات استشراف تداعيات انتخاب ترامب على القارة الأفريقية فإن ثمة فرصا قد تحملها هذه الخطوة إن تمكنت دول القارة من التعاطي بكفاءة مع طبيعة الصراعات الجيوسياسية المتوقعة.
كما أن موقف واشنطن المناهض للصين قد يفتح الأبواب أمام الأسواق الأفريقية لملء الفراغ في سلاسل التوريد العالمية شريطة أن تتمكن من التصرف بسرعة وبشكل إستراتيجي.
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: القارة الأفریقیة السیاسة الخارجیة الرئیس السابق إدارة ترامب العدید من ولا سیما من خلال إلى أن
إقرأ أيضاً:
ترامب في عصر نهاية الاستثناء الأميركي
في توصيف أهمّ أحداث الساعة، قد لا نبالغ إذا قلنا إن دونالد ترامب انتصر حقًا في مرحلة نهاية الاستثناء الأميركي، الذي تراجع تمامًا في الحدث الفلسطيني. إذ رأيناها راعية للإبادة وسفيرة للموت، يشهد بذلك عهد الرئيس جو بايدن، الذي ظهرت فيه إدارته واهنة، متواطئة، ومخادعة على نحو أفقدها الثقة والاحترام في المجتمع الدولي بدرجة غير مسبوقة.
صحيح أن اختيار الشعب الأميركي واجب الاحترام وهو المعني الأول بالأمر، لكن حظنا العاثر شاء أن يؤدي ذلك الاختيار، في الزمن الذي نعيشه، إلى تعميق جراحنا وتلويثها. ذلك أن مؤشرات الرعاية الأميركية وتبنيها مخططات وطموحات الحركة الصهيونية، فتحت الأبواب واسعة لشرور لا حصر لها في العالم العربي، وما يحدث في غزة مقدمة صادمة لنا لا تخطئها العين.
كان مفهومًا أن تفقد الحكومة الإسرائيلية توازنها بعدما فوجئت بالهزيمة التي تلقتها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، لكن ما جرى منذ اليوم التالي مباشرة أن الإدارة الأميركية أصيبت بما يشبه الذعر واللوثة، فتصرّفت لا باعتبارها مساندةً أو حتى شريكًا، وإنما باعتبارها كفيلًا حمل على عاتقه ليس فقط مسؤولية خوض المعركة إلى جانب إسرائيل، بل ضامنة لنتائجها أيضًا.
فلم تعمد إلى إغراق إسرائيل بالمال والسلاح والذخيرة فحسب، وإنما استخدمت نفوذها للضغط على حلفائها الغربيين، وتحييد أنظمة العالم العربي، وتعطيل دور المنظمات الدولية، وخداع الدول المعنية، وتعبئة الرأي العام وتضليله لصالح إسرائيل من خلال الترويج لأكاذيبها في شيطنة الفلسطينيين.
بل وسعت إلى إطالة أمد الحرب لتمكين إسرائيل من بلوغ أهدافها، حتى استخدمت «الفيتو» ثلاث مرات؛ لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف إنساني للقتال. وقد مررت سريعًا على تلك العناوين للتذكير فقط، لأن التفاصيل التي تابعناها على البث المباشر ملأت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي طوال العام المنقضي.
الخلاصة أن الدعم غير المسبوق الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل ظهر بوضوح في اليوم التالي لطوفان الأقصى؛ إذ لم يكتفِ ما أعلنه الرئيس بايدن عن صهيونيته، ودعمه «المتين والمطلق»، بإرسال تعزيزات قتالية وعسكرية لإسرائيل، وإنما تحول إلى بوق للأكاذيب الإسرائيلية، مدعيًا أنه رأى بأم عينيه صور أطفال رضع إسرائيليين قطعت المقاومة الفلسطينية رؤوسهم، وهو ما أحرج البيت الأبيض، حتى اضطر متحدث باسمه إلى «توضيح» أو سحب الادعاء الكاذب.
ولم تمضِ أيام قليلة حتى كان وزير خارجية بلاده أنتوني بلينكن في تل أبيب، بصفته الرسمية ولكن كيهودي أيضًا. وبصفته المزدوجة تلك، فإنه ظل يتفنن في الكذب والتضليل الذي لا يليق بدبلوماسي محترف، فضلًا عن ممثل لدولة كبرى.
هذا الموقف الأميركي كان له صداه في عدة اتجاهات. فقد كان بمثابة إعطاء ضوء أخضر وغطاء شرعي وسياسي لإسرائيل لكي تمارس كل جرائمها، وتذهب في ذلك إلى أبعد مدى، غير مبالية بالقانون الدولي الإنساني، أو بالأمم المتحدة، أو العدالة والمنظمات الدولية أو حتى بالرئيس الأميركي نفسه.
كما كان مشجعًا لأهم الدول الغربية لكي تغض الطرف عن تجاوزات إسرائيل وجرائمها، فضلًا عن أنه كان حافزًا لتحييد النظام العربي ودوله استجابةً للضغوط التي مارستها عليها واشنطن.
لا ريب في أن مفاجأة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أشاعت فرحة عارمة في عالم الفلسطينيين وعموم العرب، حتى إن كثيرين رفعوا سقف الأحلام عاليًا، واعتبروا ذلك من علامات التمهيد لتحقيق حلم عودة الوطن السليب.
وكان من أهم دواعي الفرحة أن ما جرى يومذاك كان يجسد لأول مرة هزيمة الجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية. ولكن دخول الإدارة الأميركية بكثافة على الخط، ابتداء من 8 أكتوبر/ تشرين الأول، أحدث تحولًا دراميًا كبيرًا في موازين المعركة غير المتكافئة بطبيعة الحال؛ إذ أصبحت المقاومة الفلسطينية مشتبكة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
فتبددت بذلك نشوة الفلسطينيين بمضي الوقت، بعد أن ألقت واشنطن بثقلها في المعركة كأنها تخوض حربًا عالمية ثالثة، بينما وقف العالم العربي الذي اعتبر فلسطين قضيته الرئيسية متفرجًا لا يحرك ساكنًا، سواء بالإسناد أو بالإغاثة.
حسب تقرير لجامعة براون الأميركية، والذي نشرته «تايمز أوف إسرائيل» في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أرسلت إدارة بايدن مساعدات عسكرية خلال عام القتال في غزة بقيمة 17.9 مليار دولار، وهو أعلى رقم قُدم لإسرائيل في عام واحد.
كما سلمتها قنابل خارقة للأقبية زنة الواحدة منها 2000 رطل (والتي أُلقي 80 قنبلة منها لاغتيال السيد حسن نصر الله)، كما أنها أنفقت 4 مليارات دولار لتجديد القبة الحديدية وأنظمة الدفاع الصاروخي. وهذه البيانات متاحة حسب التقرير، لأن إدارة بايدن لم تكشف عن حجم المساعدات التي قُدمت بوسائل أخرى إلى إسرائيل.
هذه المساندة العسكرية الأميركية الكبيرة كان لها مردودها في ثلاثة اتجاهات:
أولًا: شجعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التشدد والتمادي في موقفه التفاوضي الذي رفض فيه مطالب المقاومة الأساسية، وفي مقدمتها وقف القتال الكامل، والانسحاب من كل القطاع، وعودة المهجرين غير المشروط إلى دورهم. ومن ثم أطلقت يد نتنياهو إلى أبعد مدى في الحرب، بما في ذلك تنشيط حملة الإبادة والتهجير من القطاع. ثانيًا: أقدمت إسرائيل على تحدي النظام الدولي ممثلًا في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها مع الازدراء بالقانون الدولي. ومن ثم عدم المبالاة أو الاكتراث بالمحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية. وهو ما أدى إلى إصدار قانون يحظر وجود وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في إسرائيل، ورفض استقبال الأمين العام للأمم المتحدة إلى إسرائيل واعتباره شخصًا غير مرغوب فيه، حتى إن ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة دعا إلى إلغائها وهدم مبناها في واشنطن. ثالثًا: أدت تلك الأجواء إلى زيادة قوة وشعبية أحزاب اليمين المتطرف في الساحة الإسرائيلية. إذ لم تعلن فقط ضرورة استمرار الحرب، واحتلال غزة، ونشر المستوطنات، وبسط السلطة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإنما ذهب أحد وزراء الحكومة، بتسلئيل سموتريتش، إلى أبعد مدى، حين تحدث عن إقامة دولة يهودية تضم ست دول عربية. وإذ تصور نتنياهو أنه صار صاحب اليد الطولى في المنطقة، فإنه رفع صوته عاليًا متحدثًا عن تغيير خرائط منطقة الشرق الأوسط؛ لكي تواكب التغيير الإستراتيجي القادم في ربوعه.في هذه الأجواء ظهر الرئيس الأميركي الجديد، الذي أجمعت التقارير على أن نتنياهو كان في انتظاره، ويعول الكثير على تسلمه منصبه في شهر يناير/ كانون الثاني القادم، حتى قرأت في أحد التعليقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيعتبر نفسه منتصرًا بمجرد وجوده في البيت الأبيض، وهو ما لا أستبعده؛ لأن سجل الرجل في ولايته الأولى يؤيد ذلك.
فهو صاحب فكرة صفقة القرن، الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما اعترف بضم الجولان السوري المحتل لدولة الاحتلال، وله باعه المشهور في ميلاد اتفاقات أبراهام، فضلًا عن أنه عبّر عن عدم ارتياحه؛ لصغر حجم إسرائيل، وتمنى لها أن تنجح في حل ذلك في الفضاء العربي الرحب، الذي يُذكر له كرمه مع «الأغيار».
وفي ضوء تلك الخلفية، فلنا أن نقول إن الرئيس بايدن إذا كان قد أعلن عن هواه الصهيوني ورفع سقف طموحات نتنياهو عاليًا، فإن خلفه ترامب من متعصبي ذلك المذهب. والفرق بينه وبين سلفه، أن الأول أعلن عن اعتقاده علنًا، في حين أن الثاني حريص على أن يؤكد وفاءه وغيرته بالأفعال المتلاحقة التي عبرت عن استدامة موقفه.
وكان ذلك واضحًا بشدة في ترشيحاته لفريق عمله بعد استلامه السلطة، حيث ضم عناصر من المتطرفين الموالين لإسرائيل. ورد عليه نتنياهو بالمثل حين عين المستوطن المتطرف يحيئيل ليتر سفيرًا لبلاده في واشنطن، الذي كان عضوًا في جماعة كاهانا التي كانت مصنفة أميركيًا بالإرهابية.
أما أكثر ما يقلقنا في العالم العربي، فهو مزايدتُه في الانحياز لإسرائيل وعداؤُه للفلسطينيين الذي عبّر عنه في ولايته الأولى، الذي انضافت إليه أجندة قوى اليمين الصهيونية الحاكمة في الوقت الراهن، التي لا سقف لطموحاتها وتوسعاتها لما يُسميه دولة اليهود التوراتية المتجاوزة لأرض فلسطين.
ومن مقتضى تلك السياسة أن يؤدّي إلى قهر الفلسطينيين، والضغط على الدول العربية أولًا لتوسيع نطاق التطبيع، ويؤدي ثانيًا لاستخدام «الحلفاء» العرب في ممارسة الضغط لصالح الطرف الإسرائيلي. كما يقتضي ثالثًا اللجوء إلى قطع الطريق على إيران وتصفية نفوذها أيًا كان شكله في المنطقة.
ومن شأن ذلك أن تصبح اليد العليا لإسرائيل في الشرق الأوسط، بحيث يتسع نطاق التطبيع، مما يفضي في نهاية المطاف إلى الدخول في طور التركيع. وهي ليست قراءة للمستقبل، لكنه مجرد احتمال يستدعي القلق والاستنفار، مبني على تصريحات تتناقلها وسائل الإعلام لوزراء ومسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
وذلك الاحتمال لم يستبعده خبير معروف كالسيد عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر السابق. إذ أدلى بحديث مطول لصحيفة المصري اليوم التي أبرزت على صدر صفحتها الأولى في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني عناوين جاء فيها: «التوسع الإسرائيلي يهدد السعودية ومصر» و«ما قلته عن مخططات الاحتلال معلومات وليس رأيًا».
إن العمل مستمرٌّ على قدم وساق لتغيير الحقائق على الأرض في غزة ومحيطها؛ لكي يتسلم ترامب منصبه على واقع جديد تُجرى المساومة عليه. وإجراءات ضم الضفة وإغراقها بالمستوطنات لم تعد تمنيات تتحدث عنها الصحف؛ لأن شركات المقاولات الإسرائيلية المدنية تزرع أعمدة الإسمنت في أرجاء القطاع، وأخرى تحاول تسويق وبيع أراضٍ فلسطينية لليهود في كندا وشمال الولايات المتحدة الأميركية.
ونشطاء الأحزاب التوراتية يعتبرون أنفسهم سائرين على طريق إقامة دولة اليهود التي تستعيد ما يسمونه أرض إسرائيل. ولا غرابة في أنهم يعتبرون أن الظروف مواتية لهم محليًا وغربيًا وإقليميًا، أقله من حيث إنهم لا يرون قوة معتبرة في الكرة الأرضية تضغط عليهم لوقف تقدمهم.
وإذا ما عنّ لأحد أن يتساءل: ماذا يكون الرد على ما يُحاك لنا؟ فربما تطوع أحد حسن النية بالرد قائلًا إن القمة العربية الإسلامية أصدرت بيانًا قويًا في ذلك عقب اجتماع الرياض في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، دعت فيه المجتمع الدولي، ضمن أمور أخرى، لأن يقوم بما عليه في الموضوع.
وإذ لاحظت أن حديث سموتريتش، الوزير الإسرائيلي السابق ذكره، تزامن مع القمة، والذي دعا فيه إلى ضم الضفة لإسرائيل في العام القادم، فإن تعقيبي على ما قيل يتلخص في أن ذلك البيان، الذي احتفى به الإعلام العربي، يعد بمثابة شهادة غياب لا تستر العورة ولا يُعول عليها. ومن ثم، فمكانها في الأرشيف بالكاد.
لذلك لم يعد أمامنا سوى أن نتضرع إلى الله، راجين أن يشملنا بواسع رحمته إكرامًا لدماء الشهداء وأشلائهم، وليس بعدله، الذي لا يفوز به إلا من يستحقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية