مبارك بن خميس الحمداني

في العقدين الماضيين، نما مفهوم وممارسات الاقتصاد التشاركي بشكل موسع حول العالم؛ هذا النمو نتيجة صعود بعض اللاعبين الأساسيين في الأسواق، الذين شكّل نموذج عملهم نجاحًا على مستوى المجتمعات التي نشطوا فيها أو عبر الحدود. فكرة اقتصاد التشارك تقوم على مشاركة الأصول بين الأفراد والمؤسسات، سواء كانت تلك الأصول معدات أو مركبات أو عقارات أو ما شابهها؛ وذلك قصد تعظيم القيمة الاقتصادية لذلك الأصل من ناحية، وضمان استدامته من ناحية، وتوسيع نطاق المستفيدين منه من ناحية أخرى.

ولعل أشهر مثالين يضربان بشكل واضح على اقتصاديات التشارك هو تطبيق شركة (Uber) للتنقل، وتطبيق شركة (Airbnb) لحجز الإقامات والتجارب. ينطوي النموذج التشغيلي لمثل هذه الشركات في إيجاد منصات تسهل لأصحاب الأصول (سيارات، عقارات، أدوات، تجارب...) عرضها بمقابل ليستفيد منها أشخاص آخرون؛ فهذه الشركات والتطبيقات لا تملك الأصول في حد ذاتها، وإنما تتيح للأفراد عمومًا على اختلافهم مشاركة أصولهم مع الآخرين، والاستفادة منها تجاريًا واقتصاديًا، فهي إذن تعظم القيمة الاقتصادية للأصل مهما كان نوعه وحجمه، وتجعل المنخرطين في هذه العمليات فاعلين اقتصاديين، وتشكل موارد ودخول متنوعة لهم، وتستديم دورة حياة الأصل أو المورد، وتخلق ثقافة التشارك لدى الأفراد. وبحسب بيانات GlobalData من المتوقع أن تتجاوز عائدات سوق اقتصاد المشاركة تريليون دولار بحلول عام 2031، وتشير التحليلات إلى أن هناك عدة أسباب لنمو هذا السوق -بحسب الموقع- منها: «زيادة التحضر والتقدم التكنولوجي، وزيادة الألفة مع المشاركة بين الأقران، وقلة حواجز الدخول للسوق، والمكاسب المالية التي توفرها للمستهلكين، وارتفاع معدل انتشار الهواتف المحمولة مما أدى إلى زيادة الطلب على الأصول المشتركة، وإيجاد فرص عمل جديدة وتدفقات إيرادات إضافية للأفراد والشركات».

وفي ضوء هذه المعطيات ظهرت شركات وتطبيقات أصغر، إما أن تطبق نموذج الشركات والتطبيقات الكبرى في اقتصاد المشاركة، أو أنها تنحصر في تقديم خدمات أصغر وأكثر تخصيصًا، وعلى المستوى المحلي ظهرت بعض التطبيقات التي يمكن القول أنها تأخذ بنموذج الاقتصاد التشاركي وخاصة في مجال التنقل، مما يوحي أن هناك أساس اقتصادي جيد يمكن البناء عليه لتنشيط وتشجيع مثل هذا النوع من الاقتصاديات.

نعتقد أن المرحلة الحالية في الاقتصاد العُماني تحتاج إلى تنشيط مفاهيم وتطبيقات وممارسات الاقتصاد التشاركي، لعدة دواعٍ؛ منها الدواعي الاقتصادية المتمثلة في أن مثل هذا النوع من الاقتصاديات قادرة على خلق موارد جديدة للأفراد، واستحداث فرص عمل تتناسب مع الطبيعة الحرة للعمل، عوضًا عن كونه نمط ممكن للقطاعات الاقتصادية الأخرى؛ فاقتصاديات التشارك في مجال النقل والتنقل تزيد الطلب على السياحة المحلية، وتسهل انتقال الساكنة والزوار إلى وجهات مختلفة، وتيسر نمط طلب الأفراد على الخدمات والوجهات. واقتصاديات التشارك في مجال الإقامة والتجارب تنشط قطاع العقار، وتزيد الطلب على الخدمات السياحية المتنوعة وخصوصًا تلك القائمة على عنصر التجارب الثقافية، وتوسع فرص السياحة المحلية بين المدن المختلفة.

وعليه أصبح من الجيد اليوم التركيز على البنى التشريعية والتنظيمية لهذا النمط من أنماط الاقتصاد، بالإضافة إلى حث الشباب ورواد الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على توسيع نطاق الخدمات والمنتجات التي يمكن أن تدخل تحت هذا النمط من أنماط الاقتصاد. في مارس 2019 نشرت مجلة nature مقالة بعنوان: «الاقتصاد التشاركي يعزز المجتمعات المستدامة» حيث يذكر الباحثون أن «اقتصاد المشاركة له تأثيرات إيجابية، من خلال خفض إجمالي الموارد المطلوبة، والمساعدة في تقليل الملوثات والانبعاثات والبصمات الكربونية. فسلوك مشاركة المركبات مثلًا يقلل عدد الكيلومترات المقطوعة. ويحفز التغييرات طويلة الأمد في سلوك المستهلك من خلال تحويل خيارات النقل الشخصية من الملكية إلى تلبية الطلب». ما يعنينا هنا هو الدواعي الاجتماعية؛ وهي مرتبطة بطبيعة الطلب على الاستهلاك في الاقتصاد التشاركي؛ حيث إن المحرك الأساس هي طبيعة جيل الألفية، الجيل المحتك بشكل موسع بالتقانة والتطبيقات المحمولة، والتي بدورها تضعه أمام تجارب وخدمات ومنتجات من شأنها أن تدفع نحو تغيير أنماط الاستهلاك، وخاصة الاستهلاك التفاخري، والتملك غير المحدود للمنتجات دون قيمة اقتصادية معظمة. الجانب الآخر هو في تحفيز تنويع دخول الأفراد والأسر، وبناء أمان اقتصادي ومالي للأفراد (من مصادر أقل مخاطرة) وهي الأصول الثابتة التي يمتلكونها سواء كانت سيارات أو عقارات أو مهارات أو أدوات، والأمر الآخر فإن اقتصاديات التشارك كما تثبت الكثير من التجارب والأبحاث لها دور أصيل في إعطاء صبغة جديدة للتضامن الاجتماعي، وفي نقل المجتمعات إلى حالة التبادلية الاجتماعية، وعوضًا عن ذلك تسهم اقتصاديات التشارك في إعطاء قيمة اجتماعية أكبر للموارد، وحرص أكبر على استثمارها والحفاظ عليها من قبل الأفراد، وتغيير فكرة التملك لغرض التملك إلى فكرة التملك لغرض استبنات قيمة اقتصادية ومورد من الممتلكات، عوضًا عن تعزيز فكرة التشابك والمنفعة المتبادلة من خلال شبكات الأقران والمحيط الاجتماعي العام. تتحدث الكثير من المقالات التي تناقش اقتصاد التشارك كذلك عن أهمية شركات ومؤسسات الاقتصاد التشاركي حتى بالنسبة للحكومات، حيث إن هذا الشكل يولد الكثير من البيانات والمعلومات عن ممارسات وسلوكيات واتجاهات الأفراد والتغير في أنماطهم الاستهلاكية، وبالتالي فهي تستطيع أن توفر للحكومات رصدًا واضحًا يدعم صنع السياسات وخاصة في الجوانب الاقتصادية بناء على تغيرات السوق والمستهلكين. وفي كل الأحوال فإن المنافع التي يوفرها اقتصاد التشارك تدفعنا إلى القول بأهمية أن تعزز مفاهيمه وممارساته حتى في المراحل التعليمية المبكرة، لينشأ الجيل متمكنًا من المفاهيم الاقتصادية، ومتمرسًا لبعض السلوكيات التي تعيد نظرته إلى الموارد الخاصة والعامة، وتجعله قادرًا على رؤية القيمة الاقتصادية الفعلية لما يمتلك وما يحيط به.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الطلب على

إقرأ أيضاً:

الأصول الدفاعية ركيزة للاستقرار المالي في عالم متقلب.. فما هي؟

مع تصاعد التقلبات في الأسواق المالية والعقارية العالمية، تزداد أهمية الأصول الدفاعية بوصفها جزءا أساسيا من إستراتيجيات إدارة الثروات.

توفر هذه الأصول الحماية من المخاطر المحتملة وتتيح للمستثمرين الاستفادة من الفرص الاستثمارية في أوقات الأزمات، وفقا لتقرير نشرته مجلة فوربس.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الشباب والابتكار في صدارة أجندة المؤتمر الدولي لسوق العمل بالرياضlist 2 of 25 إستراتيجيات رئيسية لنمو قطاع إدارة الثروات في 2025end of list ما الأصول الدفاعية؟

تُعرّف الأصول الدفاعية بأنها أدوات استثمارية تمتاز بالاستقرار والقدرة على تحمل التقلبات السوقية من دون التعرض لخسائر كبيرة. وتساهم هذه الأصول في توفير الأمان المالي وتخفيف الأخطار بتوفيرها عنصر السيولة أو الحماية من التضخم.

الأصول الدفاعية أدوات استثمارية تمتاز بالاستقرار والقدرة على تحمل التقلبات السوقية (غيتي)

وتنقسم إلى نوعين رئيسيين:

صندوق الأمان: يمثل صندوق الأمان احتياطيا ماليا يغطي مصاريف تتراوح بين 6 إلى 12 شهرا. ويعد هذا الصندوق شبكة أمان تُمكن الأفراد من مواجهة الأزمات غير المتوقعة، مثل فقدان الوظيفة أو الطوارئ الصحية. صندوق الفرص: ويتيح هذا الصندوق للمستثمرين اغتنام الفرص التي تظهر في أثناء فترات الركود أو الأزمات الاقتصادية، مثل شراء الأصول بأسعار منخفضة.

وأظهرت دراسة -أجرتها مؤسسة فرانكلين تمبلتون- أن الأسواق المالية تشهد سنوات سلبية كل 3 سنوات في المتوسط، مما يعزز أهمية الاحتفاظ بالسيولة للاستثمار في مثل هذه الفترات.

ورغم فوائد هذه الأصول الدفاعية، فإنها تنطوي على أخطار، مثل انخفاض القوة الشرائية نتيجة التضخم. وإذا لم تحقق هذه الأصول عائدات تتجاوز معدل التضخم على مدى 5 إلى 10 سنوات، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل القيمة الحقيقية للمدخرات.

التأمين على الحياة

ويُعد التأمين على الحياة ذو القيمة النقدية أحد أكثر الأدوات الدفاعية شيوعا في الولايات المتحدة؛ يجمع هذا النوع من التأمين بين الحماية عند الوفاة وتكوين قيمة نقدية تُستخدم بمرونة عند الحاجة. ويمتاز بعدة خصائص:

إعلان نمو مضمون: يحقق التأمين عوائد مضمونة تتجاوز التضخم، مما يساعد على الحفاظ على القوة الشرائية لرأس المال. الوصول المرن إلى رأس المال: يمكن للمستثمرين سحب القيمة النقدية المتراكمة من دون غرامات أو تكاليف إضافية. الرافعة المالية: يمكن استخدام القيمة النقدية ضمانا للحصول على خطوط ائتمان لتمويل استثمارات جديدة أو تغطية النفقات. الحماية الضريبية: تنمو القيمة النقدية داخل الوثيقة من دون فرض ضرائب، كما أن المنافع التي تُمنح للورثة غالبا ما تكون معفاة من الضرائب العقارية، مما يجعلها أداة فعالة في التخطيط للإرث. دور الأصول الدفاعية في التخطيط

السيولة هي عنصر أساسي في إستراتيجية الثروات الطويلة الأجل. فهي تتيح للمستثمرين المرونة للتعامل مع الظروف الطارئة واغتنام الفرص من دون الحاجة إلى تصفية الأصول بأسعار منخفضة. وأشار التقرير إلى أهمية التنويع في الأصول الدفاعية لضمان تحقيق توازن بين العائد والأخطار.

أهمية الأصول الدفاعية في التقاعد والإرث

وتساهم الأصول الدفاعية في حماية مستوى معيشة الفرد خلال فترات التقاعد. على سبيل المثال، يمكن استخدام القيمة النقدية المتراكمة في وثائق التأمين لتغطية النفقات من دون الحاجة إلى بيع الأصول الخطرة في الأسواق المتقلبة.

بالإضافة إلى ذلك، توفر الأصول الدفاعية مثل التأمين على الحياة، مزايا ضريبية عند نقل الثروة إلى الأجيال القادمة، مما يعزز من فعاليتها كأداة للإرث.

نصائح لتطبيق الأصول الدفاعية

أوصى التقرير بضرورة تضمين الأصول الدفاعية في أي محفظة استثمارية بغض النظر عن مستوى الأخطار الذي يرغب المستثمر في تحمله. وأكد أهمية التماس المشورة من مستشار مالي لتحديد التوازن المثالي بين الأصول الدفاعية والأصول العالية المخاطر لتحقيق الأهداف المالية الطويلة الأجل.

ختاما، تمثل الأصول الدفاعية جزءا أساسيا من أي إستراتيجية مالية متوازنة، فهي توفر الحماية من تقلبات الأسواق، وتساعد على استغلال الفرص، وتؤمن الاستقرار المالي على المدى الطويل. وسواء كنت في مرحلة بناء الثروة أو في مرحلة التقاعد، فإن هذه الأصول لها دور حيوي في تحقيق أهدافك المالية وحماية مستقبلك المالي.

إعلان

مقالات مشابهة

  • خبير اقتصادي: في ظل حكومات الفشل والفساد والتبعية “اقتصاد الظل” يفوق حجم “الاقتصاد الرسمي”
  • الأصول الدفاعية ركيزة للاستقرار المالي في عالم متقلب.. فما هي؟
  • نائب وزير الاقتصاد يفتتح مول الشرقية للسلة الاقتصادية بصنعاء
  • حقيقة مؤشرات النمو
  • منار العبيدي: اقتصاد الظل في العراق يفوق حجم الاقتصاد الرسمي
  • الحويج: استقرار الاقتصاد الليبي وتعزيز العلاقات الاقتصادية العربية من أولويات حكومة “الوحدة”
  • أستاذ اقتصاد: طاقات بشرية هائلة غير مستغلة في زيادة الناتج المحلي
  • جهود سلطنة عمان نحو الاستدامة المالية والاقتصادية.. تحسين المؤشرات المالية وتعزيز التنويع الاقتصادي
  • منازعات الدولة بالمغرب تتضاعف.. 20 ألف قضية سنويًا
  • وزيرة التضامن تفتتح معرض «ديارنا للحرف اليدوية والتراثية»