تمثل التغيرات المناخية التى يشهدها العالم مشكلةً مهمة لها أبعادها العالمية والإقليمية والمحلية، وقد أشارت مؤسسات علمية ومنظمات دولية عديدة إلى أهمية هذه التغيرات، وخطورة آثارها، فضلًا عن الازدياد المتوقع للآثار الضارة لها خلال الأعوام القادمة، وقد نتجت هذه المشكلة عن ازدياد معدلات انبعاث الغازات الحابسة للحرارة، مثل غاز ثانى أكسيد الكربون، والميثان، وثانى أكسيد النيتروز.
ورغم ما يشهده العالم من آثار للتغيرات المناخية متمثلةً فى التقلبات الجوية وموجات الحرارة والعواصف والفيضانات والأعاصير القوية فى مناطق مختلفة، فإن العلماء لا يستطيعون تحديد تأثير هذه التغيرات المناخية فى المستقبل بدقة.
ونظرًا لأهمية مشكلة التغيرات المناخية، وتنامى الإحساس بخطورتها تبرز الحاجة إلى إمداد الأفراد والمجتمعات بالمعلومات والحقائق الكافية عنها من حيث أسبابها وآثارها وكيفية مواجهتها، ودور كل من الفرد والدولة فى ذلك، وفى الوقت ذاته فإن الفرد يحتاج إلى تفسيرات كافية لما قد يشعر به من تغيرات فى درجات الحرارة، وما قد يصل إليه من معلومات عن تغيرات مناخية فى أماكن مختلفة من العالم، وما يمكن أن تؤدى إليه هذه التغيرات من تهديدات تؤثر على حياته، فضلًا عن حجم هذه التهديدات، وأبعادها، وتطوراتها المحتملة.
من هذا المنطلق تبرز أهمية وسائل الإعلام -وبوجه خاص الجديد منها- التى يمكن الاعتماد عليها فى متابعة الأحداث والمشكلات والقضايا المختلفة، وفى الحصول على المعلومات والتفسيرات الواضحة لكل منها، وفى التعرف على ما يمكن أن تشهده هذه الأحداث والمشكلات والقضايا من تطورات. وفى الوقت نفسه، فإن عدم توافر هذه المعلومات والتفسيرات قد يؤدى إلى توتر الفرد وسلبيته نتيجة لإحساسه بغموض ما يتابعه من أحداث ومشكلات وقضايا، ولإحساسه بالالتباس وعدم التأكد من أسبابها ونتائجها.
وفى هذا الإطار ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار فى تناول وسائل الإعلام لمشكلة التغيرات المناخية والآثار المتوقعة لها ما يأتى:
أولًا: إن الآثار الخطيرة لمشكلة التغيرات المناخية لم تظهر كلها بعد، وإن كان بعضها قد بدأ فى الظهور على مستوى العالم.
ثانيًا: إذا كانت الآثار المتوقعة للمشكلة غير واضحة تمامًا، ولا يمكن تحديد الأماكن المتضررة منها بدقة، ومدى الضرر الواقع عليها، فإن هذا لا يعنى التهوين من المشكلة انتظارًا لما يحدث لها من نتائج.
ثالثًا: إن عدم مواجهة المشكلة أو التراخى فى هذه المواجهة يهدد بتصاعد آثارها عامًا بعد عام، وهذا ما يفرض ضرورة المواجهة الحاسمة لها.
رابعًا: إن المبالغة فى التهويل فى حجم المشكلة وصعوبة مواجهتها قد يؤدى إلى سلبية الفرد والمجتمع نحوها. ومن ثم فإنه يجب توضيح إمكانية مواجهتها، وضرورة تضافر كل الجهود فى هذه المواجهة.
خامسًا: إن مشكلة التغيرات المناخية ليست محلية فقط، ولكنها إقليمية وعالمية أيضًا.
سادسًا: ضرورة التزام التليفزيون فى تناول مشكلة التغيرات المناخية بالصدق والوضوح والموضوعية والدقة فى عرض البيانات والمعلومات، مع توضيح الآثار المختلفة للمشكلة على النبات والحيوان والإنسان.
سابعًا: ضرورة الاهتمام بتبسيط المعلومات التى يتم تقديمها عن التغيرات المناخية بأسلوب سهل وجذاب بحيث يكون من اليسير على المشاهد فهمها واستيعابها.
أستاذ الإعلام المساعد بكلية الآداب - جامعة المنصورة
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د أحمد عثمان جامعة المنصورة
إقرأ أيضاً:
مشكلة الخلفية عند الأستاذ سعد.. يوميات معتقل (20)
تعرفت على الأستاذ سعد الديناري ونشأت بيننا علاقة مودة واحترام، لكنها ظلت علاقة متحفظة ومقيدة بالتكاليف الرسمية الجامدة. بعد صلاة العصر في الأيام الأولى للعلاقة مددت يدي بتلقائية وصافحته قائلا: تقبل الله.
رد بعد لحظة صمت وتردد: منا ومنكم.
لم يترك يدي، ظل قابضا على كفي وتحرك صامتا باتجاه مكان إقامته، وعندما وصلنا أجلسني وهو مستمر في صمته، ثم نطق بعد لحظات بلهجة تقريرية: هعزمك على حاجة بتحبها، وأنا متأكد إنك هتحس أنها أول مرة تشرب هذا المشروب.
احتسينا الشاي بالقرنفل، وكانت نكهة ومذاق القرنفل في الشاي مميزة ورائعة بالفعل. شكرته وتبادلنا الحديث قرابة الساعة بكلمات محسوبة ولقب "لأستاذ" كأننا في أحد الفصول الدراسية.
بعد انتهاء جلسة العصاري فكرت في صمت الأستاذ سعد وتردده في الرد على دعاء "تقبل الله"، وعقب صلاة المغرب قلت له: حرما، فغمغم بكلمة لم أسمعها واعتبرتها في مقام "الرد المتردد".
تكررت طريقته الغريبة في الرد بعد أكثر من صلاة فسألته: هل توجد لديك مشكلة فقهية في تبادل التحية والدعاء بعد الصلاة؟
قال: أغلب الرأي أنها بدعة، لذلك أتجنبها، وإن كنت أرد عليك احتراما لقدرك عندي، ومنعا للحرج أمام الغرباء!
غرباء؟! هل تعتبر بقية الزملاء المسجونين معنا غرباء عنا؟
قال بحماس سريع: نعم غرباء.. هذا القرب قسري يضطرني إليه المكان الذي يجمعنا رغما عنا، فالمؤكد أنني لم أكن أعرفهم وألتقي بهم لو كنت حرا..
أنهيت الحوار متذرعا بنداء الزملاء لتناول الطعام: اتفضل معانا على العشا يا أستاذ سعد.
سبقتكم الحمد لله، وأضاف وهو يقبض على كفي بطريقته القيادية: منتظرك نكمل كلامنا بعد العشا، وما تشربش حاجة مع الشباب.. الشاي عندي.
كنت قبل أيام قد توصلت بعد تفكير سطحي إلى تفسير صمت الأستاذ سعد وتباطؤه في الرد عليّ بعد الصلاة لانشغاله في السر بالتسبيح وأدعية ختام الصلاة، لكن مع الوقت بدأت أغير طريقة تفكيري لأتفهم الأستاذ سعد وسلوكياته الغامضة.
في تلك الأيام بدأ الزملاء في العنبر يتعجبون ويتندرون على التغير الاجتماعي الذي طرأ على الأستاذ سعد، فلأول مرة يجلس مع سجين ويتسامر ويحكي، وكانت الأسئلة الفضولية تلاحقني بعد كل عزومة شاي: بيقول لك إيه؟.. عاوز منك إيه؟.. خللي بالك من الراجل الغريب ده..
كنا في النصف الثاني من شهر آذار/ مارس، والشتاء يلملم برودته وأسقاعه ليرحل تاركا سلطته للربيع، وذات صباح مشمس خرجت للتريض بصحبة جاسر، وأثناء التمشية قلت له: الجو تحسن كثيرا ويمكنني الآن أن أنتقل إلى سرير عُلوي بجوار النوافذ للحصول على نصيب أكبر من الأكسجين وتجنب أزمات التنفس.
استجاب جاسر ورتب لي سريرا عُلويا كان قريبا من الأستاذ سعد، فكان يراني أنزل وأصعد متسلقا الحديد من وإلى الطابق الثالث، فأبدى اعتراضه وتخوفه من ذلك قائلا بود ومتخليا لأول مرة عن لقب أستاذ: بلاش المخاطرة دي يا شيخ ماهر.. كبرنا ولا نتحمل هذه المشقة.
رددت شاكرا: ما تقلقش يا أستاذ سعد.. احنا لسه شباب.
في جلسة الشاي ذلك اليوم ركز الأستاذ سعد حديثه للتأكيد على أنه لا يزال شابا، كأنه يريد أن يمحو أو على الأقل يصحح تصريح "احنا كبرنا.. ولا نتحمل...":
أنا قلت كده خوفا عليك من الطلوع والنزول.. أنا عاوز أقول لك إني خرجت معاش مبكر بناء على طلبي، لأني عاوز أبعد عن الفساد والمؤامرات وأتفرغ لأعمالي الخاصة.. أنا عندي "معاذ" عمره 5 سنوات من زوجة تانية.. زوجتي الأولى أم العيال كبرت وصحتها لم تعد تتحمل شبابي وطلباتي الشرعية وهي التي ألمحت لي بالزواج: "ما تشوف لك شابة عفية تتحمل طلباتك".. قالتها مداعبة أو لوضع حد لطلباتي، لكني ألزمتها بكلمتها، وخلال شهرين كنت قد عثرت على بنت الحلال وتزوجتها، وكنت.. وكانت.. و..
ومنذ ذلك اليوم ظل الأستاذ سعد يستثمر كل الفرص للحديث عن فحولته وعنفوانه وقدراته الشبابية.
تغير الأستاذ سعد كثيرا، فالصامت العظيم بدأ الاعتراض على سلوكيات كثيرة في العنبر، موعد إطفاء المصابيح في الليل، ونداء الشباب على بعضهم البعض بصوت مرتفع خاصة في الليل، وتجمعات اللعب والسمر والغناء، وجمع صلاة المغرب مع العشاء، لأسباب تتعلق بظروف السجن ومشكلات تيسير الوضوء لعدد كبير في الوقت الضيق بين الصلاتين..
في السجن يتعود السجناء على سماع الكثير من الملاحظات والآراء المختلفة، وفي الغالب تتحول الملاحظات إلى فقرة ترفيهية تتضمن المزاح والتعليقات المرحة، والتعبير عن الرأي واستعراض الثقافة
لم ينزعج أحد من ملاحظات الأستاذ سعد، ففي السجن يتعود السجناء على سماع الكثير من الملاحظات والآراء المختلفة، وفي الغالب تتحول الملاحظات إلى فقرة ترفيهية تتضمن المزاح والتعليقات المرحة، والتعبير عن الرأي واستعراض الثقافة، لكن حالة الأستاذ سعد كانت مختلفة، فقد حملت معها فضول البحث عن أسباب التغيير المفاجئ، كما كشفت عن صراع خطير ومتفجر بين الأستاذ سعد والشيخ عامر الذي يؤم العنبر دينيا ويتحكم في تنظيم الصلوات الجماعية وجلسات قراءة القرآن، وأشياء أخرى منحته سلطة التدخل في طريقة معيشة السجناء.
كانت طريقة الشيخ عامر في فرض سلطته تثير المشاكل أحيانا، لكن السجناء تدربوا على تفادي المشاكل لعدم الاصطدام بأمور تتعلق بالدين، وكذلك لعدم الدخول في خلاف مع شيخ كبير في السن.
المؤسف أن الأستاذ سعد لم يكن من النوع الذي يتجنب الاصطدام في خلافات دينية، بل من النوع الذي يحب ذلك ويسعى إليه، لإثبات أنه الأحق والأجدر بالقيادة والإمامة، كما أنه لم يكن يخشى الاصطدام بالشيخ عامر، بل بدأ يجاهر بعزله واختيار عدد من الشباب المتدين وتوزيع إمامة الصلوات بينهم، وعدم احتكار الإمامة والوعظ لصالح شخص واحد.
بدأ الصراع يشتد ويتحول إلى قضية تشغل العنبر، وبدأت الوساطات للتقريب بين وجهات النظر وتجنب الاستمرار في الصراع، لما له من تبعات مزعجة إذا وصلت الأخبار لإدارة السجن، والمعتاد في مثل هذه الأمور أن يحدث تفريق وتغريب و"فركشة" سكان العنبر، وهذا أمر مزعج ومتعب للسجين وللأهل الذين يأتون للزيارة، فقد يتم نقل السجين إلى سجن آخر لم يعلم به الأهل بعد، أو يتم منعه من الزيارة، ومشاكل أخرى.
نشط السباب العاقل في مساعي التهدئة، واقترح هشام الحسيني أن يقوم زميلنا المبتسم دائما "حسين سعد" بمهمة إقناع الأستاذ سعد بالعودة للصمت والانعزال وراحة دماغه من شؤون العنبر، عملا برأيه الشهير أن كل هؤلاء "شوية وضعاء رقعاء جهلة لا يستحقون اهتمامه!
وكان حسين ينادي الأستاذ سعد بكلمة "بابا" لتشابه اسمه أبيه مع اسم الأستاذ سعد، وتم إقناع حسين بالمهمة وتدريبه على حيلة إقناع "بابا سعد" بالعودة إلى حالته السابقة وتجنب التصعيد.
وذهب حسين لتنفيذ الخطة، وعاد بعد أكثر من ساعة والابتسامة تضيء وجهه الأبيض..
- هيييه يا حسين عملت إيه؟.. طمنا.. قول يا حسين..
رد حسين وهو يضحك: بصراحة يا اخوانا الراجل عنده حق وكلامه مقنع.
- خير يا ابني.. عنده حق في إيه؟ وتوصلت معاه لإيه؟!
كان حسين قبل السجن محاميا وناشطا حقوقيا ويملك بالا طويلا وطريقة لطيفة في التعامل مع الناس من مختلف الثقافات والطبقات، لذلك كان العشم كبيرا في توصله لحل ناجح ونهائي مع الأستاذ سعد، لكنه غاد من المهمة ليقول لنا انسوا الحل وفكروا هنعمل إيه في المشاكل اللي هتحصل؟
- طيب كنت بتقول الراجل عنده حق في إيه؟
قال حسين: بعد ساعة من المناقشات والمجاملات والدعوة للطيب، لقيت الراجل بيقول لي: إذا كان عندك عشر أسباب تخليني أبعد وأسيب الشيخ عامر منفردا بإمامة الصلاة، فأنا عندي 100 سبب لعزله وتوزيع مهمته على الشباب.
- قلت له مش عاوز أسمع المائة سبب يا بابا، اختر سبب واحد يقنعني وأنا معاك، فقال: كفاية إن عنده مؤخرة كبيرة.. بذمتك فيه حد يسجد أمام عينك بالمنظر ده وتسيبه؟
ساعتها اتصدمت واتكتمت وما عرفتش أرد.. أكيد طبعا كان بيهزر، بس الصدمة ضيعت كل الكلام من دماغي، وعرفت أننا داخلين حقل ألغام وربنا يسترها معانا.
انتهت مهمة حسين بمهزلة عبثية، وتسربت العبارة سرا في أنحاء العنبر، ويبدو أنها وصلت إلى الشيخ عامر نفسه، وهو ما أكدته الأيام بعد ذلك، وبدأ الخلاف يتخذ مسارا منفلتا، لكنه بعيد عن المباشرة، بدأت حالة من الغمز واللمز، والتحزب إلى فريقين، وافتعال الخلاف في قضايا فرعية أخرى، حتى تسربت إلينا أخبار مقلقة عن التحضير لنقلنا من السجن إلى سجن آخر، وبدأت مرحلة جديدة من القلق والاستفسار عن المجهول الذي يخبئه لنا الغد.
وفي المقال المقبل أواصل حكايات السجن.
[email protected]