الجزيرة:
2025-04-23@07:33:11 GMT

هل تستفيد الهند من وجود نظام استبدادي في بنغلاديش؟

تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT

هل تستفيد الهند من وجود نظام استبدادي في بنغلاديش؟

لاستقلال الثاني" على الخامس من أغسطس/آب، وهو اليوم الذي هربت فيه رئيسة الوزراء حسينة واجد إلى الهند، تاركة البلاد في حالة فوضى سياسية وأمنية. يُشبّه هؤلاء ذلك بأجواء بنغلاديش قبيل انفصالها عن باكستان عام 1971.

وإذا كان دور الهند واضحًا في انفصال بنغلاديش، بدعمها العسكري المباشر لمجيب الرحمن والد حسينة، فقد أخفقت في حماية نظامها عندما بدأت ثورة شعبية تتصاعد تدريجيًا حتى بلغت ذروتها باستيلاء الشباب الثائر على معسكر لقوات الدرك بالقرب من مقر الحكومة، واكتفت نيودلهي بتوفير ملجأ آمن لرئيسة الحكومة المقرّبة منها داخل الأراضي الهندية.

أما المقارنة التي تقترب من التطابق، فهي سقوط حسينة المدوي مثل سقوط والدها مجيب الرحمن في انقلاب عسكري مدعوم بحراك شعبي واسع عام 1975. وقد يكون الفارق الوحيد هو مقتل الأب في الأولى، وفرار الابنة في الثانية، مما يذكرنا بمقولة كارل ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل مهزلة.

دينامو الثورة

ساهمت عوامل نفسية واقتصادية وسياسية في إشعال فتيل الثورة ضد الحكم الشمولي لحزب الشعب البنغالي (عوامي). ومن اللافت أن من قاد الحراك الشعبي هم الشباب، خاصة طلبة الجامعات. ويمكن استعراض بعض هذه العوامل وفق الأهمية:

لقد شكلت "معركة طوفان الأقصى" حافزًا نفسيًا بالغ التأثير على الشعوب المضطهدة، حيث ذكر أحد قادة الحراك الطلابي في بنغلاديش أن "طوفان الأقصى" كان مصدر إلهام للشباب البنغالي الذين يتطلعون للحرية والديمقراطية وينظرون إلى النظام الحاكم على أنه شمولي ودكتاتوري. وكان ذلك قبل أشهر من اندلاع موجة العصيان المدني في يونيو/حزيران. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انطلقت حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي في بنغلاديش، تُظهر أن البنغاليين ليسوا أقل شجاعة من الفلسطينيين الذين يواجهون احتلالًا غاشمًا تقف خلفه قوى دولية كبرى، وعلى البنغاليين انتزاع حقوقهم بأنفسهم.

وحّدت حكومة حزب عوامي البنغالي جميع المعارضين لسياساتها، سواء رغبة أو رغمًا عنهم، وظهر ذلك في المقاطعة الحزبية الواسعة لانتخابات يناير/كانون الثاني الماضي. ومع ذلك، ظهرت حسينة واجد سعيدة في مجلس نواب بلا معارضة، مما عزز الشعور المتنامي بالدكتاتورية، وسريعًا تراكمت العزلة الشعبية للحكومة، بغض النظر عن حديثها عن تحسن في الاقتصاد والبنية الأساسية.

تميزت فترة حكم حسينة الثانية بسياسة الانتقام واضطهاد المعارضين، خاصة تجاه قادة الجماعة الإسلامية الذين عارضوا انفصال بنغلاديش عن باكستان وحكم والدها مجيب الرحمن سلميًا. حاكمت حكومتها قادة الجماعة الإسلامية بأثر رجعي، ولم يفلت من الإعدامات علماء تجاوزت أعمارهم التسعين عامًا.

لم تقتصر حملات القمع على من وُصفوا بالإسلاميين، بل امتدت إلى المعارضين السياسيين التقليديين، حيث زجّت بحليفتها السياسية خالدة ضياء، رئيسة الحزب الوطني البنغالي، في السجن. ولم يُفرج عن خالدة إلا بعد فرار حسينة.

ولا شك أن حملات الاضطهاد المتعاقبة تسببت في احتقان شعبي واسع كان ينتظر لحظة الانفجار.

لحظة الانفجار لم تكن بسبب حدث صاخب، بل جاءت نتيجة سياسات طويلة المدى. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي اعتماد الحكومة على نظام حصص في الوظائف الحكومية، تخصص فيها نسبة 56% لفئات معينة من المجتمع، بمن في ذلك ذرية العسكر الذين دعموا الانفصال، أو من يُوصفون بالمحاربين القدامى بنسبة 30% من الوظائف.

العامل الهندي

تعايش البنغاليون مع تحالف حزب عوامي البنغالي مع الهند على مدى خمسة عقود من الاستقلال، بين الكراهية والحسابات المصلحية. وقُرنت تقلبات التحالفات مع دول الجوار بالصراع الهندي الباكستاني ونفوذ الدول الكبرى إبان الحرب الباردة وما بعدها. لكن سياسات حزب الشعب القومي الهندوسي في الهند، برئاسة ناريندرا مودي، القائمة على قمع كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين، غيّرت المزاج الشعبي في بنغلاديش بشكل كبير.

وفي السنوات الأخيرة، أظهرت حكومة حسينة واجد في نظر المواطن البنغالي العادي تبعية بلاده الكاملة للهند، بما في ذلك سياسة القمع والاضطهاد للإسلام والمسلمين، وهو ما لم يكافح من أجله الشعب البنغالي من أجل الاستقلال الأول عن الاستعمار البريطاني عام 1947 والاستقلال الثاني عن باكستان عام 1971، مما أفقد الحكومة أي مشاعر ولاء تجاهها.

ينتقد البروفيسور سليمان خان، أستاذ التربية في جامعة الفنون الهندية، سياسة تقديم مصلحة الهند على مصلحة دولة مجاورة حليفة، عبر رعاية نظام قمعي يحفظ مصالح الهند على حساب القيم والمصالح الداخلية لبنغلاديش.

يرى البروفيسور سليمان خان أن سياسات الهند ساهمت في الثورة الشعبية في بنغلاديش، وأنها لم تتعلم من تجاربها التاريخية، خاصة الإطاحة بحليفها مجيب الرحمن بعد أقل من أربع سنوات من الانفصال الذي رعته. ودعا نيودلهي إلى مراجعة سياساتها، سواء في الداخل الهندي أو العابرة للحدود.

تساءل كاتب في صحيفة "إنديا توداي" عن مدى استفادة الهند من تبني نظام استبدادي في دولة جارة، وهل يخدم هذا الأمر مصالح البلدين؟ واعتبر أن النتائج المتكررة تؤكد أنها ليست في مصلحة الهند أو بنغلاديش على المدى البعيد، وإن كانت الحكومات تحقق مصالح ضيقة مؤقتة.

تكشف السياسة الخارجية الهندية القائمة على الأنانية مع الحلفاء عن قصر نظرها، حيث خسرت الهند نفوذها الأمني والعسكري بعد أن اعتمدت على حكومة من صناعتها في جزر المالديف، ومع أول انتخابات ديمقراطية فقدت نفوذها. وعلى الطرف الآخر من المحيط الهندي، وقفت سريلانكا على حافة الانهيار بعد تحالف الهند مع عائلة راجباكسا.

بحصاد الثورة

لم تفق المعارضة بعد من آثار سنوات الاضطهاد الممنهج، ولم تكشف بعد عن توجهاتها أو برامجها للمرحلة المقبلة. قد يكون التطور الأهم بالنسبة للمعارضة هو سلسلة الإفراجات عن المعتقلين السياسيين، لا سيما القيادات بمن فيهم خالدة ضياء وقادة الجماعة الإسلامية التي نالت النصيب الأكبر من الاضطهاد.

ولعل أكثر من تنفس الصعداء بزوال الحكم الاستبدادي هي الجماعة الإسلامية، التي حُظرت رسميًا قبل أيام من سقوط حكومة عوامي، والتي اتهمتها الحكومة بركوب موجة الحراك الطلابي، بل واختطافها. وربما كان الهدف من هذا الادعاء هو جلب دعم خارجي من دول تعارض ما يُعرف بالإسلام السياسي.

من المتوقع أن تطالب الأحزاب بالإسراع في عقد انتخابات عامة تُفرز حكومة تمثل الشعب. ورغم أن تصريحات قادة الجماعة الإسلامية تفيد بعدم اهتمامهم بالسلطة، فإنه لا يُستبعد أن ينضموا إلى تكتل سياسي يهدف إلى منع العودة لسياسة الاضطهاد والقمع.

لا تزال الضبابية تكتنف الوضع السياسي والأمني في بنغلاديش بعد مرور نحو أسبوع على استقالة حسينة واجد وفرارها، وتنصيب محمد يونس على رأس حكومة مؤقتة.

فعلى المستوى السياسي، لم يُكشف بعد عن جدول أعمال أو إطار زمني واضح للحكومة المؤقتة. ورغم استقالة رئيس المحكمة العليا تلبية لمطالب الشباب، لتجنب انقلاب قضائي، فإن شبح الحكم العسكري المباشر أو غير المباشر لا يزال قائمًا.

من ناحية أخرى، يظل الفراغ الأمني مثيرًا للمخاوف مع عدم عودة الشرطة إلى العمل، وانتشار عصابات يُعتقد أنها تابعة لحزب عوامي، تنفذ عمليات اغتيال وسطو، وترفض الاعتراف بالتغيير.

وقد رشح شباب الثورة محمد يونس، الحائز جائزة نوبل لمساهماته في اقتصاد الفقراء، لرئاسة الحكومة المؤقتة، في إشارة إلى رغبتهم في الإصلاح الاقتصادي، والاستفادة من الثقة التي يحظى بها شعبيًا.

لكن محمد يونس لا يمكن أن يكون بديلًا عن آلية سليمة لانتقال السلطة سلميًا، وهو ما يطالب به الحراك الشبابي الممثل بطلبة الجامعات، وتدعمه مختلف أطياف المجتمع، بمن في ذلك المفكرون والمثقفون.

مطالب الشباب قد تكون محصورة في شعارات الحرية والعدالة والمساواة، وهي شعارات تحاكي الثورة الفرنسية، وتضع البلاد أمام خيارين: إما نظام حكم وطني رشيد يتبنى مطالب الشعب في الحرية والعدالة والمساواة، أو أمام نظام تابع للخارج مرهون بدعمه الأمني على حساب إرادة الشعب. أما الفوضى، فليست خيارًا لأي من القوى المؤثرة في الشأن البنغالي، سواء كانت قريبة أو بعيدة. ويبقى هاجس إحباط "ربيع بنغلاديش" حاضرًا، تحقيقًا لمصالح لا يمكن أن تكون بنغالية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی بنغلادیش حسینة واجد

إقرأ أيضاً:

غليان ضد قيس سعيد.. الثورة الجديدة وترتيبات اليوم التالي في تونس

منذ اتخاذ السلطة في تونس، قرار الزجّ بزعماء سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين في السجون، وتوجيه جملة من "التهم الخطيرة" إليهم، عنوانها الأبرز، "التآمر على أمن الدولة"، بداية العام 2023، جرت مياه كثيرة في الوادي التونسي، ما زاد في تعقيد الوضع، المتأزم أصلًا، وتضاعف الغموض، وازدادت الضبابية، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.

فلهيب أسعار المواد الغذائية، لم يخمد، وتوفر هذه المواد في السوق التونسية، ما يزال في مستوى دون احتياجات المواطنين، وصور طوابير التونسيين أمام المخابز، أو أمام بائعي الخضر، لم تنقطع، يضاف إلى ذلك، ارتفاع نسبة البطالة في تونس، إلى أكثر من 16 بالمائة، فيما ارتفعت هذه النسبة في صفوف الشباب، إلى 35 بالمائة، وهو ما اضطرهم لـ "الحرقة" (الهجرة غير النظامية) نحو السواحل الأوروبية، ليجدوا أنفسهم، إما فريسة لحيتان البحر، أو متهمين بمحاولة تجاوز الحدود خلسة، أو متسكّعين في الأحياء الشعبية، يقتاتون من الجريمة، وبخاصة من تجارة المخدّرات، المتفشية بأشكال مختلفة في البلاد.

بالموازاة مع ذلك، ارتفعت أرقام الانتحار في تونس، إلى مستوى مفزع، وفق إحصائيات "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" (منظمة غير حكومية)، الذي أكد في تقريره السنوي الأخير (2024)، وجود نحو 40 بالمائة من ضحايا الانتحار في تونس خلال الربع الأخير من سنة 2024، من صنف الشباب، بينما مثّل الكهول، النصف تقريبًا.
يقول "المنتدى"، إنّ حالات الإحباط، وعدم الثقة في الوضع الراهن، والأفق الغامض، تعدّ أحد أهمّ أسباب ذلك.

إعلان وضع اقتصادي متأزم

على الصعيد الاقتصادي، تعاني المالية العمومية، من أزمة دين خارجي غير مسبوقة في تاريخ البلاد، حيث بلغ حجم الدين العام لتونس خلال العام الماضي، ما يزيد عن 42 مليار دولار، وناهزت نسبة الديون الداخلية لتونس، حوالي 53.8 بالمائة من إجمالي الديون العامة، وسط توقعات رسمية (قانون المالية لسنة 2025)، بأن تصل إلى 58 بالمائة نهاية العام الجاري، بحكم لجوء السلطة للاقتراض من البنوك الداخلية.

فيما بلغت نسبة الديون الخارجية، زهاء الـ 46.2 بالمائة، وما تزال كتلة ديون تونس، التي تجاوزت 80 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، تُـقِضّ مضجع الخبراء والمحللين الماليين، ناهيك عن المسؤولين في الدولة.

تؤكد تقارير إعلامية موثوقة، أنّ "برلمان سعيّد"- كما يحلو لمعارضيه تسميته- صادقَ على عشرات اتفاقيات القروض، سواء مع الاتحاد الأوروبي، أو دول أوروبية (فرنسا أساسًا)، أو مؤسّسات مالية أفريقية، أو البنك العربي للتنمية، ما جعل مراقبين يعبّرون عن خشيتهم من تداعياتها، على رهن البلاد للخارج، بما قد يجعل تونس في السنوات القادمة، دولة مدينة، وبالتالي عرضة للضغوط السياسية الدولية، ولعملية ابتزازها من هنا وهناك، وفق تقديرهم.

وبسبب "حرب" الرئيس قيس سعيّد على الفساد- كما يجري الترويج له- انكمش الاستثمار الداخلي بشكل لافت للنظر، رغم كل المؤشرات النظرية، التي وضعتها الحكومة لتطور الاستثمار خلال العام الجاري.

فالإجراءات المالية الجديدة المعقّدة التي اتخذتها الحكومة، خاصة من حيث إلغاء استخدام الصكوك (الشيك كما يسمى في تونس)، لم تساهم في تحفيز رجال أعمال تونسيين، على فتح استثمارات جديدة، وعطّلت انسيابية تداول الأموال في السوق النقدية التونسية، قياسًا بالسنوات الماضية.

يضاف إلى ذلك، أن خشية أصحاب الأعمال، من "تهمة الفساد"، التي باتت توجه بشكل غير دقيق في عديد الملفات، أجبرت هؤلاء على "التحرك ببطء" في المشهد الاقتصادي، الأمر الذي منع من الناحية العملية، إمكانات بعض مشاريع معتبرة، قادرة على خلق الثروة، وتنشيط الاقتصاد، وخلق ديناميكية تنموية في حجم ما يَـعِـدُ به الرئيس سعيّد، تحت عنوان: "تحقيق مطالب الثورة التونسية".

إعلان

لكن لا الثورة حافظت على زخمها، ولا مطالبها، باتت قريبة من تطلعات التونسيين، الذين فقدوا في غالبيتهم ثقتهم في الثورة والسياسيين، والوعود الزائفة، التي يستمعون إليها منذ أكثر من 10 سنوات من الحاكمين، بتغيّر أسمائهم، وتبدّل ملامحهم.

الحريات والمحاكمات السياسية

لعل ما زاد الطين بلّة ـ كما يقال ـ أنّ هامش الحريات الذي كان التونسي يعوّض به شظف العيش، تراجع بصورة لافتة للغاية، وهو ما تؤكده التقارير الإعلامية والحقوقية والنقابية، وكمّ هائل من بيانات الأحزاب السياسية المعارضة، ومنظمات خارجية، ومؤسسات إقليمية، على غرار المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان، والبرلمان الأوروبي، بل إنّ الأمر، بات حديث "أحزاب الموالاة" للسلطة، المدافعين عن (انقلاب) الرئيس سعيّد، حيث أصبحوا يطالبون في بياناتهم وفي تدخلاتهم صلب البرلمان، بضرورة استئناف الحريات في البلاد، وإلغاء، أو على الأقلّ، تعديل المرسوم الرئاسي (الشهير باسم المرسوم 54)، الذي تسبب في الزجّ بعدد من الإعلاميين والمدوّنين في السجون التونسية، وجعل تونس تتدحرج في أسفل الترتيب الدولي في مجال الحريات، بعد أن كانت بين الأربعين الأوَل منذ الثورة التونسية.

وكانت إجراءات السلطة، المتعلّقة بالمحاكمات السياسية لمعارضي الرئيس قيس سعيّد، سواء منع تداولها إعلاميًا، وهي بدعة غير مسبوقة، أو تنظيم محاكمة "عن بُعد"، في سابقة تضرب في العمق أحد معايير المحاكمة العادلة، وهو وجود المتهمين بصفة مباشرة أمام هيئة المحكمة، أو اعتماد شهود "وهميين"، على رأي المحامين (تقتصر أسماؤهم على عبارة "xxx"، أو "xxxxx")، وهو ما لم تتعود عليه المحاكم التونسية، حتى خلال المحاكمات السياسية الجائرة على عهد الرئيسين الراحلين، الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي، بالإضافة إلى منع مواجهة المتهمين بهؤلاء الشهود، وحرمان المعتقلين السياسيين، من الاستنطاق من قبل هيئة المحكمة، للدفاع عن أنفسهم، إلى جانب عدم السماح للمحامين للدفاع عن مُنوبيهم، مع ما تقوله هيئة الدفاع عن المتهمين، من وجود ملفات قضائية "فارغة ومفبركة" في هذه القضية، على حدّ تعبيرها.

إعلان

كلّ ذلك، جعل المناخ العام في البلاد، يعرف أزمة هيكلية وبنيوية تراكمية، تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، وبلغت أوجَها خلال الأسابيع الأخيرة، عندما لم يعد للسياسيين والنخب، أي ثقة في السلطة، وفي إمكانية تراجعها عن الخطوات التي يصفونها بــ "الاستبدادية"، والتي كشفت الأيام والسنوات القليلة الماضية، عقمها وارتدادها على كامل الوضع العام بالبلاد.

لقد فقد هؤلاء، أيّ أمل في إمكانية التغيير نحو أفق أفضل:

دعوا إلى ضرورة إقامة حوار سياسي، يضع ترتيبات الخروج من الأزمة، بمشاركة جميع أطياف العمل الحزبي والسياسي.. لكنّ الرئيس قيس سعيّد، لم يُعِرْ أيّ اهتمام لدعوتهم تلك. طالبوا بالعودة للحياة الديمقراطية،، فواجههم بأحكام قضائية تراوحت بين 8 و66 عامًا سجنًا، لمعتقلي ما يعرف بـ "قضية التآمر"، وهي أحكام صدرت يوم السبت المنقضي، في "يوم قضائي أسود" على رأي بعض المحامين، ونشطاء سياسيين، ومدوّنين على وسائل التواصل الاجتماعي. عادت السلطة مجددًا لخطاب "التخوين"، والشيطنة"، ضدّ المعارضين، فيما عمل الموالون لها، من شخصيات ونواب بالبرلمان وأحزاب، على تجريم أيّ حراك اجتماعي احتجاجي، على غرار ما فعلوا مع الاحتجاجات الاجتماعية التي عرفتها منطقة "المزونة" من محافظة سيدي بوزيد (مهد الثورة التونسية)، على خلفية سقوط انهيار جدار معهد ثانوي، على عدد من التلاميذ، قضى منهم ثلاثة في ريعان الشباب.
فقد اعتبر عصام بن عثمان، رئيس حزب "حراك 25 يوليو"، الموالي للرئيس قيس سعيّد، والممثل بعدّة نواب في البرلمان الحالي، أنّ الاحتجاجات، "قادها مندسّون"، ووصفهم بـ "الأيادي المشبوهة"، التي تريد "ضرب الاستقرار، وتأجيج الأوضاع" في البلاد.
أما الرئيس التونسي، الذي تنقل فجرًا إلى منطقة المزونة، فقد أعجب "بالتحام المجتمع مع الأمن، في حادثة سيخلدها التاريخ"، وفق تعبيره، على الرغم من كل التقارير الإعلامية والحقوقية، التي تحدثت عن "ممارسات عنيفة لقوات الأمن"، من مظاهرها اللافتة، إلقاء الغاز المسيل للدموع في بيوت العائلات التي كانت تتقبل العزاء على فقدان أولادها، ومنع الصحفيين من القيام بواجب التغطية الإعلامية في المنطقة، وهو ما تسبب في انتقادات واسعة للسلطة، في ذات المساء الذي صدرت خلاله الأحكام السجنية في "قضية التآمر". إعلان

كانت الرسالة واضحة: لا حوار.. لا ديمقراطية.. ولا حريات إعلامية.
ولعلّ هذا ما يفسّر بشكل واضح، الانشغالات الجديدة لطيف من السياسيين والإعلاميين والنخب، بشأن ما يسمونه "اليوم التالي" للرئيس قيس سعيّد.

اليوم التالي.. إشكاليات

غير أنّ هذا "اليوم التالي"، الذي بدأ التفكير فيه، والتداول بشأنه بشكل جدّي في كواليس وأوساط النخب، خصوصًا المعارضين للرئيس التونسي، يطرح – في نظرنا – جملة من الملاحظات الأساسية:

أنّ الرئيس قيس سعيّد، كان يشعر منذ فترة – على ما يبدو – بأنّ ثمّة من يفكّر في "اليوم التالي"، ومن المؤكد أنّ تقارير ترفع له بهذا الشأن، ضمن عملية إحاطته بمختلف السيناريوهات والتطورات السياسية، لذلك، كان دائمًا يجيب معارضيه وخصومه قائلًا، وبوضوح شديد: "لا عودة للوراء"، ومن يفكّر في ذلك "فهو موهوم"، على حدّ قوله في مرات عديدة بلا حساب، قاطعًا بذلك كل أمل لدى معارضيه، حتى بإمكانية وجود "يوم تالٍ"، سواء كان هذا اليوم، (غدًا)، أو "يوم أمس"، أي وضع ما قبل "انقلاب يوليو/ تموز 2021".. أن الموالين للرئيس قيس سعيّد، والفاعلين لديه في صنع القرار السياسي، من أطياف يسارية وقومية (عروبية)، وتجمعية سابقة -المحسوبين على حزب الرئيس الراحل بن علي-، ومن الدولة العميقة، لا يرغبون في الحديث عن "اليوم التالي"، لأنّه يمثّل كابوسًا بالنسبة إليهم.. فأيّ خروج من "اليوم الحالي"، سيفتح عليهم أبواب السؤال السياسي، والاستفهام القضائي، على النحو الذي يعبّر عنه المثل الشعبي التونسي القائل: (يوم الحساب.. يوم الكشفة). أي محاسبة هؤلاء، ستكشف حقيقة ما حصل وما جرى في سنوات ما بعد الانقلاب، دون توفر أيّ معطيات دقيقة بهذا الشأن. فحتى التخمينات، مخيفة ومزعجة، بالنسبة إليهم.
والحقيقة، أن هؤلاء، يرون في اليوم التالي، عودة لفاعلين سياسيين، ممثّلين شعبيًا، على غرار حركة النهضة، التي فشلوا في الفوز عليها "بالصندوق"، فاحتموا خلف "انقلاب 25 يوليو/ تموز"، الذي أزاح من طريقهم، حزبًا وتيارًا وزعامات، لم تنفع معهم كلّ الألاعيب السياسية والإعلامية، وشريط الإشاعات وعمليات الافتراء، في هزيمتهم وإخراجهم من السلطة، عبر الانتخابات. ومن هنا، فإنّ عقدة "اليوم التالي"، ليست مرتبطة بالرئيس التونسي ونظامه والشخوص العاملة معه فحسب، إنما كذلك بحركة النهضة ذاتها، التي ما يزال الخلاف حولها مُشرَعًا حتى بين اليسار الديمقراطي، كما يسمي نفسه، الذي يزعم تضامنه مع المعتقلين السياسيين، وغالبيتهم من "النهضة"، ولكنّه عند الحديث عن تشكيل جبهة معها، تتوقف لغة الكلام، ويدخل نفقًا مسدودًا، من الصعب الخروج منه.. لأنّك عندئذ، أمام استحقاق التمثيلية المجتمعية، التي كشفت جميع المواعيد الانتخابية التي جرت بالبلاد خلال "عشرية الانتقال الديمقراطي"، ضعف "اليسار الديمقراطي"، وهشاشته الاجتماعية والشعبية، ومن ثمّ فهو يخشى من عودة النهضة انتخابيًا، لكي لا يتكرر سيناريو "الهزيمة الانتخابية"، التي طالما ذاق مرارتها. وبالتوازي مع هذا التيار، يوجد "الاستئصاليون"، من اليسار الأيديولوجي الراديكالي، الذي يرفض رفضًا قاطعًا، عودة خصمهم السياسي اللدود (النهضة) للمشهد السياسي.. وهم يعتقدون أنّ أرضًا سياسية بورًا، تتيح لهم الفعل السياسي في غياب خصومهم، أفضل من أرض معطاءة، لا يجدون فيها "قُوتَهُم" السياسي.. لأنهم عند اقتسام الكعكة، سيجدون أنفسهم بلا نصيب، بعد أن يوزع الحصاد على مستحقيه، ومن ثمّ فـ "اليوم التالي"، يمثّل بالنسبة إليهم، القهقرى لمرحلة "الصندوق"، وهم عند هذا المستوى، سيعودون إلى منطقة "الصفر فاصل"، كما كانوا يُـنعَـتُون طيلة عشرية كاملة. لا يبدو أنّ الدولة العميقة، بجميع مكوناتها، تشذّ عن هذا التفكير.. فهي تعتقد أنّ مرحلة ما قبل الانقلاب، "ولّت بلا رجعة"، وكان جزء منها قد دفع باتجاه "تفكيك" منظومة "الثورة والانتقال الديمقراطي"، لأنها عنوان لتفكك الدولة والمؤسسات، والوجود غير المقبول للإسلام السياسي في السلطة، لذلك لن يتأخر هذا "الجهاز"، في منع استئناف المرحلة السابقة بأي شكل من الأشكال.
لقد أُغلِقَ بالنسبة لهؤلاء، قوس الأحزاب والديمقراطية والحريات والإسلام السياسي، وأي تفكير في استئناف ذلك من جديد، ليس سوى تجديف في الصحراء، أو هكذا يعتقدون. على أنّ العقدة التي يغفل عنها الجميع، عند الحديث عن "اليوم التالي"، هي الآليات القانونية والدستورية المؤدية – نظريًا على الأقل – لمرحلة ما بعد الرئيس سعيّد.. ذلك أنّ "دستور الرئيس قيس سعيّد"، لم يتضمن آليات واضحة في موضوع (الخلافة)، لأيّ من الأسباب، ما عدا آلية المحكمة الدستورية، وهي المؤسسة التي لم يقع إنشاؤها أو تركيزها إلى الآن.. وفي هكذا وضع، لا رئيسة الحكومة، يمكن أن تقوم بعملية الانتقال، ولا رئيس البرلمان، بوسعه أن يلعب هذا الدور.. فباب الاثنين مغلق تمامًا. إعلان الفرضية المسكوت عنها

تبقى الفرضية التي يسكت عنها الجميع، ولا يجري طرحها إلا لمامًا، وهي التي تهمّ "موقف الخارج"، بوصفه "اللاعبّ"، الذي قد يكون مؤثرًا في ترتيبات "اليوم التالي".

لكنّ هذا "الخارج"، ليس طرفًا بعينه، بل هو عدّة أطراف ومصالح وتحالفات وقوى، على تماس مصلحي مع السلطة الحالية، على عكس ما يروّج البعض من معارضي النظام، وبالتالي، ستتحكم في ترتيبات "اليوم التالي"، عدّة محددات، بينها المصالح الثنائية والإقليمية، ومآلات ما يجري هناك في غزة، وأفقها على صعيد الشرق الأوسط، ورؤية "الخارج" لفضاء المغرب العربي، ومنه ــ وربما أساسه تونس ــ التي قد تكون طريقة الخروج من مأزقها الراهن، بمثابة الأنموذج لبعض الكيانات العربية المعقّدة، جيوبوليتيكيًا.

إنّ "اليوم التالي" في تونس، لن يكون إلا يومًا صعبًا، البعض يستشرف ثورة ثانية حاسمة، والبعض الآخر، يستقرئ حلًا من داخل النظام، وخاصة الدولة العميقة والقوى الصلبة، وثالث، يتوقع "تدخّلًا خارجيًا"، سياسيًا بالطبع، يخلط الأوراق من جديد، مثلما خلطها عندما جيء بزين العابدين بن علي للسلطة، أو عندما تمت تهيئة البلاد لثورة، مكنت من تغيير، كاد يكون مستحيلًا، أو لحظة الدفع بالرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي للمشهد، بعد 20 عامًا من التغييب الممنهج.

أزيح بورقيبة بانقلاب بن علي العام 1987، وخرج الأخير من الحكم بثورة شعبية "مدروسة" سنة 2011، وتوقفت شرايين الانتقال الديمقراطي، بـ "انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021″، الذي تزعمه الرئيس قيس سعيّد، فكيف سيكون اليوم التالي في تونس يا ترى؟

الأكيد، أنّه ليس نسخة من الأحداث السابق ذكرها.. فالتاريخ لا يتكرر مرتين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • شاهد | سوريا تعتقل الثورة الفلسطينية.. سقوط دمشق للمرة الثانية
  • لا فرق بين من حرض لحصار السودان ومن يستهدف البنيات التحتية
  • غليان ضد قيس سعيد.. الثورة الجديدة وترتيبات اليوم التالي في تونس
  • صحيفة الثورة الاربعاء 25 شوال 1446 الموافق 23 ابريل 2025
  • كاريكاتير الثورة
  • صحيفة الثورة الثلاثاء 24 شوال 1446 – 22 ابريل 2025
  • صحيفة الثورة الاثنين 3 شوال 1446 – الموافق 21 ابريل 2025
  • شرطة بنغلاديش تطلب من الإنتربول إصدار “إشعار أحمر” لملاحقة الشيخة حسينة
  • مديرة وكالة الدعم الاجتماعي : 4 ملايين أسرة تستفيد من الدعم الاجتماعي ما يعادل 12 مليون مواطن
  • جذب استثمارات في تصنيع السيارات الكهربائية.. كيف تستفيد مصر من الحرب التجارية الراهنة؟