دوافع أردوجان للتقارب مع الاسد
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
ليست محاولات المصالحة والتطبيع بين أنقرة ودمشق جديدة، بل هي مستمرة منذ حدوث أهم اختراق في هذه العلاقات خريف عام 2022 من خلال لقاء خاص جمع رئيس المخابرات التركية –حينها- هاكان فيدان مع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك في دمشق، وما تبعه من دعوة الرئيس أردوغان نظيره الأسد إلى اللقاء على هامش قمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في سبتمبر 2022.
الدوافع التركية بين الثابت والمتغير
تجاوبت أنقرة مع الطلبات الروسية والتحفيز الخليجي عام 2022 من أجل تطبيع العلاقات مع دمشق، وكانت جهود رئيس المخابرات التركية وقتها، هاكان فيدان، جادة في تلك الفترة، لكنْ مع تعليمات من الرئيس أردوغان بعدم تقديم أي تنازلات للطرف السوري، وأن يظهر الجهد التركي للتقارب من أجل "إرضاء" موسكو والدول الخليجية التي راهن أردوغان للحصول على مساعداتها المالية في الانتخابات الرئاسية صيف 2023، وهو ما حصل. لذلك انقطعت هذه الجهود التي اعتُبرت من قبل أنقرة "محاولةً تكتيكية" لا ضير إن نجحت ولكن لا يمكن تقديم تنازلات جدية من أجل إنجاحها، لأن "مصالح تركيا الأمنية" لا تسمح بذلك، ولأن الطرف السوري -بنظر أنقرة حينها- أي الرئيس الأسد، لا يملك ما يمكن أن يقدمه لتركيا بسبب ضعف قواته وهيمنة التدخلات الإيرانية على المشهد الميداني العسكري.
لكن هذه الظروف الميدانية والإقليمية، تغيرت خلال الأشهر العشرة الماضية، وكذلك تغيرت نظرة أنقرة إلى المصالحة مع دمشق من "محاولة تكتيكية" إلى ضرورة استراتيجية وملحة، وهنا نستعرض هذه التغيرات والدوافع الجديدة:
أولاً، حرب غزة والصراع الإيراني-الإسرائيلي: حاولت أنقرة الدخول على خط التهدئة في غزة منذ أول يوم من الحرب، من خلال طرحها فكرة إرسال قوات تركية ومصرية إلى غزة، لكن هذه الفكرة لم تلقَ قبولاً من أي من الأطراف المعنية حينها. كما حاولت أنقرة إيجاد طريقة للتأثير في مسار المفاوضات أو الوساطة بين "حماس" وإسرائيل، من خلال الحديث مباشرة إلى قيادات "حماس" السياسية في قطر، والضغط على تل أبيب للسماح بإرسال مساعدات إغاثية أكبر إلى غزة، لكن كلا الأمرين لم يحققا أي نتيجة وبقيت تركيا على هامش مسار الأحداث في غزة. ومع توسع التطورات إلى صدام مباشر بين طهران وتل أبيب، فإن أنقرة باتت قلقة من تداعيات ذلك، وأن الأمر: إما سيؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية ستدفع إيران إلى إرسال المزيد من ميليشياتها إلى سوريا للقتال، وبالتالي سيطرة إيرانية شبه كاملة على الأراضي السورية، وهو ما يشكل خطراً استراتيجياً بالنسبة لتركيا التي ترفض مسألة تشكيل أو إقامة طهران "لممر بري لقواتها وميليشياتها يبدأ من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان"؛ وإما سيؤدي إلى صفقة إقليمية كبيرة بين طهران وكلٍّ من واشنطن وتل أبيب، وستكون هذه الصفقة على حساب المصالح التركية في المنطقة، وخصوصاً في سوريا التي ستشملها تلك الصفقة. وعليه، فإن توسيع الحرب لتصل إلى تصادم مباشر بين إيران وإسرائيل مع هذين الاحتمالين، دفع أنقرة إلى التحرك سريعاً، من أجل "تحييد" الساحة السورية عن هذين الاحتمالين، من خلال الدخول في علاقات جيدة بل قوية مع دمشق، والانخراط عبر البوابة السورية في التطورات المستقبلية التي ستحدد مصير المنطقة. ويمكن القول هنا إن هذا الأمر تشترك فيه أنقرة مع كلٍّ من الإمارات والسعودية اللتين سعتا مؤخرا إلى تطوير العلاقات مع دمشق بهدف السعي لتحييد الساحة السورية عن أي صراع إقليمي. (برز مؤخراً أيضاً توجه بين بعض دول الاتحاد الأوروبي للانفتاح على دمشق لنفس السبب، وقامت إيطاليا بتعيين سفير لها في دمشق).
ثانياً، موقف الرئيس الأسد من الحرب في غزة: كان هذا عاملاً مفاجئاً لتركيا، فقد اتخذ الرئيس الأسد أو دمشق موقفاً حيادياً تجاه حرب غزة، إلى حد السكوت عن استهداف قيادات عسكرية إيرانية على الأرض السورية في سياق حرب غزة. هذا الموقف الثابت للرئيس الأسد، دفع أنقرة إلى إعادة التفكير وتقييم دور الأسد مستقبلاً، وأنه يمكن أن يكون له "كلمة" في مستقبل سوريا ولو على المدى المنظور، وأنه يمكن الاعتماد على التزامه بما يمكن الاتفاق عليه معه، وترك التصور التركي السابق بأن الأسد عاجز تماماً عن اتخاذ أي موقف قوي أو حقيقي.
ثالثاً، احتمال فَدْرلة الشمال السوري: دعت "الإدارة الذاتية في شمال سوريا" في مايو الماضي إلى استفتاء على "التنظيم الإداري"، وهو ما يعني إقامة حكم فدرالي إداري في شمال شرقي سوريا الخاضع لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المدعومة من قبل واشنطن، والتي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً كردياً. تم تأجيل موعد هذا الاستفتاء إلى أجل غير مسمى، بعد تهديد تركيا بالتدخل العسكري، وطلب أمريكي من "قسد" بتأجيل هذه الخطوة حينها. لكن الفكرة بحد ذاتها أقلقت أنقرة ليس فقط من احتمال إجراء هذا الاستفتاء مستقبلاً بدعم أمريكي، وإنما –وقد يكون الأصعب والأكثر خطورة- أن يتم إجراء هذا الاستفتاء ضمن صفقة مع دمشق بدعم روسي مستقبلاً، وهو ما سينسف أي محاولة للتدخل التركي حينها ولو عسكرياً، بسبب موافقة دمشق على هذا الاستفتاء بطريقة ما. وهو ما دفع أنقرة إلى التنبه لضرورة تحسين العلاقات بأسرع ما يمكن مع دمشق من أجل منع هذا الاحتمال، ومن أجل التأكيد على أن أي استفتاء يجرى في شمال سوريا -ولو بدعم من واشنطن- لن يكون دستورياً أو ذا مصداقية وشرعية.
رابعاً، زيادة احتمالات وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة في انتخابات نوفمبر المقبل، وهو الذي سيسعى –على الأغلب– إلى سحب قواته من شمال سوريا ومن العراق، لكنه يرفض أيضاً التدخل العسكري التركي ضد "قسد" في سوريا، لذا فإن أنقرة أدركت أن عليها التحرك سريعاً لمواجهة هذا السيناريو من خلال اتخاذ خطوات استباقية باتجاه دمشق قبل حسم الانتخابات الأمريكية. وهنا يمكن ملاحظة أن أول تصريح للرئيس أردوغان –بين تصريحاته الثلاثة القوية عن طلب التقارب مع دمشق- جاء بعد يوم واحد فقط من المناظرة الرئاسية التي جرت بين بايدن وترامب في 27 يونيو، والتي ظهر خلالها فوز ترامب القوي والحاسم.
هذه هي أهم المتغيرات التي حصلت خلال الأشهر العشرة الماضية، والتي دفعت أنقرة إلى تغيير موقفها والعمل بجدية وبسرعة من أجل التطبيع مع دمشق وعقد لقاء بين الرئيسَين اردوغان والأسد. أما الحديث عن ملف اللاجئين السوريين ومشاكلهم التي بدأت تزداد مؤخراً في تركيا وشمال سوريا، فهو ملف جانبي وتأثيره محدود، بسبب علم أنقرة أنه لا مجال لعودة اللاجئين إلى سوريا حتى لو تم تطبيع العلاقات معها بسبب الظروف السياسية والاقتصادية هناك.
المطالب التركية والتصور لمسار التطبيع
تفاجأت أنقرة بالرد السوري على طلبات الرئيس أردوغان المتكررة للقاء الرئيس الأسد، وببيان وزارة الخارجية السورية الذي قدم شروطاً لحدوث اللقاء بدلاً من إبداء الترحيب والتعاون بالدرجة نفسها، وبدا واضحاً في الأوساط الداخلية التركية انزعاج أردوغان من الرد السوري بتعليقه على الموضوع خلال اجتماع قمة حلف "الناتو" في واشنطن بقوله "لقد كلّفت وزير خارجيّتي بالاجتماع مع الرئيس الأسد"، دون أن يعني ذلك تراجعاً في مساعي التطبيع. ويبدو أن الرئيس أردوغان توقع تجاوباً من دمشق على دعواته، لذلك أسهب في الحديث عن العلاقات الشخصية مع الأسد وعائلته في تصريحاته.
وتعتقد أنقرة أن موسكو قد دخلت على خط الضغط على الأسد من أجل دفع مسار التطبيع مع أنقرة، بعد اللقاء المفاجئ الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بالرئيس بشار الأسد في موسكو في 24 يوليو، والذي لم يُعلن عنه سابقاً ولم يصحب الأسد في تلك الرحلة أي وفد رسمي ولم يحضره حتى سفير سوريا في موسكو، في إشارات دبلوماسية واضحة إلى انزعاج موسكو من الرئيس الأسد بسبب عرقلته مسار التطبيع مع تركيا.
هنا يمكن إدراج ملاحظة بأن الرئيس الأسد ربما يطلب ثمناً سياسياً لقاء التقارب مع تركيا الذي تحض عليه موسكو والدول الخليجية، مثل تطويع أنقرة المعارضة السورية باتجاه التنازل عن الكثير من مطالبها ومقررات قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، وهو ما قد يُفهم من لقاء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع قيادات "المعارضة السورية في أنقرة " في 9 أغسطس، حيث أصدرت الخارجية بياناً احتوى لأول مرة على مصطلح "ضرورة التفاوض الهادف والواقعي" مع دمشق. كذلك من المتوقع أن يطلب الرئيس الأسد "ضمانات" بضخ أموال لإعادة الإعمار في سوريا بعد هذه المصالحة. كل ذلك إلى جانب ما تُعلنه دمشق من شروط للقاء -بحسب بيان وزارة الخارجية المشار إليه أعلاه- وهو انسحاب الجيش التركي من شمال سوريا والعمل معاً ضد الجماعات الإرهابية، ومنها المعارضة السورية المسلحة وفق مفهوم دمشق.
لكنْ من وجهة النظر التركية فإن الأمل معقود على مسار معاكس لما تطرحه دمشق، أي مسار يبدأ من قمة الهرم السياسي بلقاء الرئيسَين، ليعقب ذلك لقاءات أوسع وأكثر على المستوى الوزاري والأمني لاحقاً. وما تطرحه أنقرة يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
التركيز أولاً وعاجلاً على تعاون أنقرة ودمشق في تقويض حكم الإدارة الذاتية الخاضعة لـ"قسد"، من أجل تسليم تلك المناطق إلى حكم دمشق، وكسر أي احتمال بقيام حكم فدرالي هناك. ويمكن لتركيا بعدها ضرب مسلحي "قسد" في عدة مناطق، مستفيدةً من اتفاقية أضنة الأمنية الموقعة مع سوريا عام 1998.
في مقابل ذلك، ستتخلى تركيا تدريجياً عن وجودها العسكري في شمال سوريا من أجل إخضاع تلك المناطق لحكم دمشق تماماً، مثل مناطق الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا.
في هذه المرحلة، ستتحدث تركيا عن ضرورة التقدم في مسار الحل السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة، وعقد لقاءات بين دمشق والمعارضة السورية، لكن ذلك سيكون هدفه فقط تخفيف الغضب والقلق لدى اللاجئين السوريين والمعارضة السورية، لكن ما يهم أنقرة هنا أن يكون هناك غطاء سياسي لمفاوضات -حتى لو طالت ولم تحقق شيئاً- خلال فترة تسليم مناطق الشمال السوري لحكم دمشق.
ستطرح تركيا من جديد تعاونا أمنياً وعسكرياً مع سوريا بوساطة روسية، ليس من أجل محاربة الإرهاب وحماية الحدود فحسب، بل أيضاً من أجل إعادة بناء الجيش السوري كي يتمكن من السيطرة فعلاً على كامل أراضيه، مع اقتراح دمج المجموعات السورية المعارضة المسلحة في الجيش السوري الرسمي.
تطرح تركيا أيضاً في مقابل ذلك تقديم الدعم الاقتصادي والتجاري والانخراط في إعادة الإعمار من أجل توفير وضع اقتصادي يساعد الجيش السوري على تولي مهامه في عموم سوريا وعودة الحياة واللاجئين إليها بالتدريج. ويمكن فهم ذلك من تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لقناة "سكاي نيوز عربية" حين قال "يجب إعادة النفط ومصادر الطاقة إلى الشعب السوري"، وهو هنا يقصد آبار النفط والغاز والسدود في مناطق الحكم الذاتي التي يسيطر عليها الأكراد.
ونهاية فانه يمكن القول بأن مساعي أنقرة للتقارب مع دمشق تبدو هذه المرة أكثر جدية وأكثر إلحاحاً من محاولة عام 2022 التي كانت أقرب إلى "تكتيك سياسي" منها إلى سعي حقيقي للتقارب. وكان للتطورات الإقليمية في الأشهر العشرة الماضية، منذ اندلاع حرب غزة في 7 أكتوب 2023، دور مهم في دفع أنقرة إلى التعجل بالتقارب مع دمشق، مع ميلها إلى تقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بوجودها العسكري في شمال سوريا ودعمها المعارضة السورية.
ويُرجَّح أن يلتقي الرئيسان أردوغان والأسد في دولة ثالثة (روسيا أو العراق) قبل نهاية العام الجاري، وربما قبل إجراء الانتخابات الأمريكية من أجل عزل هذا المسار عن أي نتائج محتملة لتلك الانتخابات. ولا يُعتقد أن اللقاء سيشهد توقيعاً لاتفاق شامل بخصوص القضايا محل الخلاف التي تعوق تطبيع العلاقات بين البلدين، بل إنه سيأتي -على الأغلب- بعد توصل الطرفين -عبر اجتماعات اللجان الوزارية والأمنية- إلى توافقات أولية حول هذه القضايا، أو ربما خريطة طريق لحلها. وعدا عن المكاسب التي يمكن لدمشق أن تحققها من التقارب مع أنقرة، فإن هذا التقارب سيُعزز توجهات الانفتاح الإقليمي والدولي على دمشق، كما رأينا مؤخراً في دعم ثماني دول من الاتحاد الأوروبي التقارب مع دمشق.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الأسد سوريا الرئيس أردوغان الأمن الوطني السوري المعارضة السوریة الرئیس أردوغان تطبیع العلاقات هذا الاستفتاء فی شمال سوریا الرئیس الأسد هاکان فیدان التطبیع مع التقارب مع مع دمشق من خلال حرب غزة وهو ما من أجل
إقرأ أيضاً:
لماذا أراد رفعت الأسد القضاء على أخيه حافظ
سرايا - في عام 1963 شهدت المنطقة العربية انقلاب حزب البعث بواسطة جناحه العسكري الذي قاده مجموعة من الضباط السوريين الذين تنوعت انتماءاتهم الدينية، وكان حزب البعث الذي تأسس منذ أربعينيات القرن العشرين على يد صلاح البيطار وميشيل عفلق يسعى بكل السُّبل للسلطة؛ ديمقراطية كانت أم بانقلابات عسكرية.
وكان حافظ الأسد ممن انضموا لهذا الحزب مبكرًا في فترة الأربعينيات بُعيد انضمامه للجيش متخرجا من الكلية الحربية، وفي عام 1952 اتبع رفعت نهج شقيقه وقرر الانضمام إلى حزب البعث، كما سار على خطاه بالالتحاق بالخدمة الإلزامية، ومن ثم العمل في وزارة الداخلية عقب انفصال سوريا عن مصر عام 1961، ومن اللافت أن رفعت الأسد انضم للجيش السوري ضابطا متخرجا من الكلية الحربية في حمص بعدما غير مساره من كلية الآداب بجامعة دمشق.
فساد رفعت المبكر
ويروي الدكتور أحمد زكي في كتابه "آل الأسد وأسرار سقوط آخر الطغاة" الصادر عام 2013 أن مشوار رفعت الأسد مع الفساد بدأ قبل أن يصل شقيقه إلى سدة الحكم بصورة رسمية سنة 1970، فعقب انقلاب البعث سنة 1963 وصعود نجم أخيه حافظ قائدا للقوات الجوية ثم وزيرا للدفاع عُيّن رفعت الأسد الذي كان في نهاية دراسته في الكلية الحربية مُدرّسا بها في دفعة تم التوصية عليها من قيادة حزب البعث وخاصة أخيه حافظ وصلاح جديد، وفي الوقت عينه تم تسريح دفعة كانت أكثر كفاءة من رفعت وزملائه "في خطوة كانت تصب في صالح العلويين تمهيدا لاستيلائهم على كل مفاصل الدولة في قادم الأيام".
وبحسب زكي في الكتاب نفسه حينما كان رفعت منتسبًا لكلية الآداب جامعة دمشق وكان ذاهبًا لأداء امتحان مادة التاريخ كان مددجًا بالحرس فاعترض أحد أساتذة الكلية وأبلغ مصطفى طلاس أحد المقربين من حافظ ووزير الدفاع السوري فيما بعد، قائلا: ماذا نفعل؟ فرد عليه طلاس قائلا: لا تفعل شيئًا فهو لن يُعيّنَ مدرسا للتاريخ في جامعتكم.
ومن العجيب أن رفعت أعاد السلوك ذاته عندما انتسب لكلية الحقوق مع زوجته وابنه دريد، وعندما ذهب الثلاثة لأداء الامتحان في كلية الحقوق جامعة دمشق لم يؤدوه في قاعة الامتحانات، بل أدوه في مكتب رئيس الجامعة وأمامهم فناجين القهوة والكتب الخاصة بمادة الامتحان حتى يستطيعوا الغش، فما كان من رفعت إلا أن صرخ قائلا: "العمى في قلبكم أحضروا لي أحد الأساتذة ليُعطيني أجوبة هذه الأسئلة"، بحسب ما يذكره زكي في كتابه الآنف.
رفعت الأسد وأدواره العسكرية في خدمة أخيه
كانت أولى مشاركات رفعت العسكرية البارزة في فبراير/شباط 1966، حيث تعاون مع سليم حاطوم في اقتحام مقر الرئيس أمين الحافظ للإطاحة بأول حكومة بعثية، وكان هذا الانقلاب إيذانا بصعود الضباط العلويين وتهميش الضباط والقيادات السنية في البلاد، وخلال فترة حكم الرئيس نور الدين الأتاسي، الذي خلفَ الحافظ، تم تكليف رفعت بقيادة وحدة خاصة أنشأتها اللجنة العسكرية للدفاع عن النظام تحت إشراف وزير الدفاع محمد عمران.
وبحسب بعض المؤرخين فقد شهدت فترة أواخر الستينيات صراعًا بين طرفين؛ يمثل أحد جناحيه حافظ ورفعت الأسد، والطرف الآخر صلاح جديد ومدير مخابراته عبد الكريم الجندي. وبهدف القضاء على قوة جناح صلاح جديد العسكري وفي أواخر فبراير/شباط 1969، نفّذ الشقيقان الأسد عملية عسكرية في دمشق، حيث توغلت الدبابات في المدينة لاستهداف أنصار الجندي وصلاح جديد، وانتهى هذا الصراع بانتحار عبد الكريم الجندي في 2 مارس /آذار 1969، مما اعتُبر انتصارا لرفعت.
ومع سيطرة حافظ ورفعت وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، قام حافظ الأسد بما عُرف بالحركة التصحيحية، حيث اعتقل الرئيس الضعيف الأتاسي ورفيقه البعثي العلوي صلاح جديد، وأسند إلى أخيه رفعت مسؤولية تأمين العاصمة دمشق.
وفي فترة غير بعيدة أصبح رفعت قائدا لـ"سرايا الدفاع"، وهي قوة عسكرية نخبوية خاصة بلغ قوامها 40 ألف جندي، وكانت تعمل بشكل مستقل عن الجيش، كما ترقّى إلى مواقع قيادية في الحزب، ووسع نفوذه بين الطلاب والشباب والفتيات والإعلام، وأسّس "الرابطة العليا للخريجين" بهدف توحيد الجامعيين، لتتحول إلى ذراع طلابية موازية تدين بالولاء له.
وفي عام 1979، تصاعدَ الصراع بين النظام السوري وجماعة الإخوان المسلمين التي رفضت استئثار آل الأسد والعلويين بالسلطة، واستهدافها الواضح للحريات، بل وللأكثرية السنية في البلاد. وفي ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، أعلن رفعت الأسد خلال مؤتمر حزب البعث أن الوقت قد حان للرد الحازم على جماعة الإخوان، ودعا إلى تقديم الولاء المطلق للنظام، ونُقل عنه قوله: "ضحّى ستالين بعشرة ملايين شخص للحفاظ على الثورة البلشفية، وعلى سوريا أن تفعل الشيء ذاته للحفاظ على الثورة البعثية". كما هدد ب"خوض مائة حرب، وهدم مليون حصن، والتضحية بمليون قتيل" لضمان بقاء النظام والدولة.
تم إطلاق يد رفعت في قمع الانتفاضة التي استمرت بين عامي 1979 و1982، وبلغت ذروتها في قصف وتدمير مدينة حماة في فبراير/شباط 1982، ما أسفر عن خسائر بشرية ومادية جسيمة، وفي عام 1983 أمر رفعت بإرسال قوات مظلية إلى شوارع دمشق لنزع الحجاب عن النساء بالقوة، وهو إجراء أثار موجة من الانتقادات الحادة كادت تصل لحالة الغليان الشعبي، هذا التصرف دفع شقيقه حافظ الأسد إلى إدانته علنًا، في محاولة للحد من التداعيات السياسية والاجتماعية لهذا القرار.
انقلاب رفعت ونهايته
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1983 تعرض حافظ الأسد لأزمة قلبية حادة كادت أن تودي به واضطر على إثرها للراحة التامة لعدة أشهر، حيث بدت أن الفرصة التي كان ينتظرها شقيقه رفعت الأسد قد حانت، إذ بدأ رفعت يتصرف كأنه الوريث الشرعي للسلطة، معززا نفوذه بين جنرالاته، ما أثار استياء حافظ الأسد الذي كان يتلقى العلاج والراحة، وأيضا كبار المقربين منه.
ووفقا لمذكرات عبد الحليم خدام، نائب الرئيس آنذاك، فإن حملة شديدة ضد رفعت اندلعت بين السوريين منذ السبعينيات، ويتذكر خدام في إحدى جلساته مع حافظ الأسد عام 1978، أنه حذّره من تأثير هذه الحملة على استقرار النظام، فرد الأسد قائلاً: "رفعت مخرز في عيون الرجعية". ليرد خدام: "سنرى في المستقبل إن كان سيصبح مخرزًا في قلب النظام ذاته".
استغل رفعت، الذي كان يتدخل في شؤون الدولة بعنجهية شديدة مرض شقيقه لتعزيز سلطته، حتى أنه بدأ بإصدار توجيهات لرئيس الوزراء آنذاك محمد علي الحلبي دون رادع، وكان حافظ الأسد الملقى على سرير المرض يفكر بتعيين نائبه مكانه لضمان استمرارية النظام، وربما كان يميل إلى رفعت، لكن محاولة الأخير للانقلاب عليه خلال مرضه أخرجته من حسابات التوريث.
عندما اشتد مرض حافظ في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، استدعى قائد الحرس الجمهوري عدنان مخلوف النائب عبد الحليم خدام إلى المستشفى، حيث أخبره حافظ بمستجدات أوضاعه الصحية، وبسبب ذلك تصاعد التوتر بسبب تحركات رفعت الجريئة، حيث أرسل كتائب من قواته "سرايا الدفاع" إلى شوارع دمشق في استعراض للقوة، وكأنه يُعلن عن استعداده لتولي السلطة خلفا لأخيه.
وأمام هذه التحركات من رفعت اجتمعت القيادة العسكرية بقيادة عبد الحليم خدام، وحكمت الشهابي رئيس الأركان، ومصطفى طلاس وزير الدفاع، وقرروا استدعاء فرقتين عسكريتين لتطويق دمشق ومنع أي محاولات انقلابية، وعندما علم رفعت بالإجراءات وبأن أخيه حافظ قارب تجاوز مرحلة الخطر، تراجع عدد كبير من أنصاره عنه، مما تركه في عُزلة شبه تامة.
وفي أحد اجتماعات القيادة القطرية للبعث، حاول رفعت فرض قراراته بطرد كبار الضباط من الحزب والتهديد باستخدام قواته للاستيلاء على دمشق، إلا أن خدام تصدى له بقوله: "إن كنت تريد القيام بانقلاب، فافعل، لكن الدبابات التي تهدد بها ليست ملكا لك". أثارت تصريحات خدام غضب رفعت، لكنه أنكَر تهديداته لاحقًا.
وفي أوائل 1984، بدأ حافظ الأسد بالرد على تحركات شقيقه بعد استعادته جزءا كبيرا من عافيته، حيث أمر باعتقال أحد أبرز مساعدي رفعت، وهو العقيد سليم بركات، ثم أرسل لرفعت رسالة عبر شقيقهما الثالث جميل، قال فيها: "أنا أخوك الأكبر الذي عليك طاعته، ولا تنسَ أنني أنا الذي صنعتك".
وحتى يضمن حافظ كسر شوكة أخيه قرر إبعاده عن سرايا الدفاع التي ستُصبح فيما بعد "الفرقة الرابعة" بعد إقصاء رفعت عنها، وفي مارس/آذار 1984، عُيّن رفعت نائبًا للرئيس وهو منصب مدني، وقد حرمه في الوقت نفسه من أي مهام فعلية، محوِّلًا صلاحياته الأمنية إلى العقيد محمد غانم.
في 30 مارس/آذار 1984، رد رفعت الأسد على هذا الترتيب بخطوة تصعيدية، حيث أمر قواته بالدخول إلى دمشق والاستيلاء على نقاط استراتيجية؛ استعدادًا للسيطرة على السلطة وبالفعل تمكنت قوات رفعت، المعروفة بـ"سرايا الدفاع" من التمركز في مواقع قادرة على تهديد العاصمة بالقصف، بينما استعدت القوات الموالية لحافظ الأسد، مثل القوات الخاصة بقيادة علي حيدر والحرس الجمهوري بقيادة عدنان مخلوف، لمواجهتها.
ووفقا لباتريك سيل، في كتابه "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط": "لو اشتبكت قوات الطرفين في دمشق، لكان الدمار هائلا، ولتضررت صورة النظام بشكل لا يمكن إصلاحه، وربما لم تكن العاصمة لتنجو". وأضاف قائلا: "ترك حافظ الحبل لرفعت بما يكفي لشنق نفسه".
وفي ذروة تلك الأزمة ارتدى حافظ الأسد ملابسه العسكرية، ورافقه ابنه الأكبر باسل، الذي كان سيصبح لاحقًا ذراعه اليمنى حتى وفاته في حادث سيارة عام 1994، حيث قاد حافظ سيارته بنفسه دون حراسة، إلى مقر قيادة شقيقه رفعت في حي المزة بدمشق، وهذه الواقعة يرويها وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس في كتابه "ثلاثة أشهر هزت سوريا" أن عدنان مخلوف، قائد الحرس الجمهوري، اتصل به لإبلاغه أن حافظ توجه بمفرده لمواجهة رفعت، وترك تعليمات صريحة: "إذا لم أعد بعد ساعة، أبلغ العماد طلاس بتنفيذ الخطة لمواجهة قوات رفعت".
وفي ذلك القاء الحاسم واجه حافظ شقيقه مباشرة وسأله: "هل تريد إسقاط النظام؟" وأضاف بحزم: "أنا النظام!". جرى نقاش حاد بينهما، قبل أن يقدم الأسد عرضا لإنهاء الأزمة، حيث وعد رفعت بخروج آمن، يضمن احترام كرامته، وحماية مصالحه، وضمان خروجه إلى المنفى الذي يختاره، مع التأكيد على عدم اتخاذ أي إجراء ضده.
وبحلول أواخر أبريل/نيسان 1984، بدأ رفعت الأسد يدرك أن ميزان القوى قد انقلب تمامًا لصالح شقيقه حافظ وأن كل قوات الجيش والحرس الجمهوري والقوات الخاصة بل وكثير من قيادات "سرايا الدفاع" أصبحوا قلبا وقالبا مع حافظ، إلى درجة أصبح معها أي تحرك منه غير ممكن، وفي تلك اللحظة لجأ رفعت إلى شقيقه جميل الأسد للتوسط من أجل مصالحة مع حافظ، معربا عن استعداده للامتثال لأي قرار يتخذه.
استغل حافظ الأسد انهيار شقيقه وإعلانه استسلامه، وتم التوصل إلى اتفاق يقضي بإعادة "سرايا الدفاع" إلى سيطرة هيئة العمليات في القوات المسلحة، مع إبقاء رفعت في منصب نائب رئيس الجمهورية مسؤولا نظريًا عن شؤون الأمن، كما نص الاتفاق على سفر رفعت إلى موسكو بصحبة مجموعة من كبار الضباط لفترة تهدئة.
وفي 28 مايو/أيار 1984، غادرت طائرة تقل رفعت الأسد وعددا من أبرز قادته إلى موسكو، إلا أن تلك الرحلة كانت البداية لعزله التدريجي، حيث تم استدعاء الضباط المرافقين له واحدًا تلو الآخر إلى سوريا، تاركين رفعت وحيدًا في منفاه.
عاد رفعت الأسد إلى سوريا عام 1992 بناءً على رغبة والدته التي توفيت في العام نفسه، وفي عام 1994، شارك في تقديم واجب العزاء لشقيقه حافظ الأسد بعد وفاة نجله باسل في حادث سيارة، لكنه أُقيل لاحقا في العام نفسه من منصبه في الجيش، رغم استمراره لفترة في شغل منصب نائب الرئيس قبل إعفائه رسميا.
وفي عام 1997، أسس رفعت محطة فضائية في لندن، وفي العام التالي أنشأ حزبا سياسيا في أوروبا برئاسة نجله سومر الأسد، داعيا إلى التغيير السياسي في سوريا، وفي عام 1999، تورط أنصاره في اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية في اللاذقية، مما زاد من تعقيد علاقته بأخيه.
عندما توفي حافظ في 10 يونيو/حزيران عام 2000، أصدر رفعت بيانا نعى فيه شقيقه وأعلن نفسه وريثا شرعيًا للرئاسة، ولكن ذلك البيان لم يلق آذانا مصغية؛ لأن أبناء حافظ بشار الذي تسلم الرئاسة، وماهر الذي كان يسيطر على الفرقة الرابعة كانا أقوى بحكم السيطرة على الأرض، بل أمر نائب الرئيس عبد الحليم خدام باعتقاله إذا حاول حضور جنازة حافظ الأسد في 13 يونيو/حزيران.
مع اندلاع الثورة في سوريا في ربيع 2011، تبنى رفعت موقفا معارضًا للنظام، بينما بدأ نجله ريبال في الظهور بنشاطات سياسية علنية، ورغم ذلك، تراجع حضور رفعت الأسد السياسي بشكل كبير خلال السنوات التالية.
في ديسمبر/كانون الأول 2013، رَفَعت إحدى المنظمات الحقوقية دعوى قانونية ضد رِفْعت الأسد، متهمةً إياه بجرائم جسيمة بصفته كان قائدا لسرايا الدفاع التي تورطت في مجزرة حماة عام 1982، وفي 19 ديسمبر من العام نفسه، أطلقت النيابة العامة السويسرية تحقيقا رسميا في هذه المزاعم.
ومنذ عام 2014، واجه رفعت الأسد تحقيقات بتهم غسل الأموال المنظم، والتهرب الضريبي المشدد، واختلاس أموال الدولة السورية لشراء عقارات بقيمة تفوق 90 مليون يورو في فرنسا. بالإضافة لذلك، صادرت السلطات الإسبانية في عام 2017 أصوله وحساباته المصرفية ضمن تحقيقات متعلقة بغسيل الأموال، وفي يونيو 2020، أصدرت محكمة في باريس حكما بسجنه أربع سنوات مع مصادرة ممتلكاته في باريس ولندن.
في أكتوبر 2021، عاد رفعت الأسد إلى دمشق وهو في سن 84 عامًا، بعد سماح ابن أخيه بشار الأسد بعودته لتجنب سجنه في فرنسا، وذلك عقب عقود من المنفى، وفي سبتمبر/أيلول 2022، أيدت محكمة النقض، أعلى هيئة قضائية في فرنسا، الحكم الصادر ضده بالسجن أربع سنوات. وفي أغسطس 2023، أمرت المحكمة الجنائية الفيدرالية السويسرية بتسليمه، ما دفع السلطات السويسرية لإصدار مذكرة توقيف بحقه لملاحقته قضائيا.
لم يرجع رفعت لفرنسا لاحقا، وقد أشارت وكالة رويترز للأنباء في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي 2024 أن رفعت الأسد وبعض أبنائه وأفراد أسرته يتواجدون الآن في دبي بعد فرارهم إليها عقب سقوط نظام ابن أخيه المخلوع بشار، دون أن يتم تأكيد الخبر من قبل السلطات الإماراتية أو نفيه.
إقرأ أيضاً : ترامب يصل واشنطن السبت لبدء احتفالات تنصيبهإقرأ أيضاً : مجلس الأمن يناقش الوضع في لبنان والجولان المحتلإقرأ أيضاً : عباس يؤكد استعداد السلطة الفلسطينية "لتولي مسؤولياتها الكاملة" في غزة
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
طباعة المشاهدات: 2241
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 18-01-2025 12:00 PM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...