خطوط البرهان الحمراء (ها ها ها)!!
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
عبدالله مكاوي
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
البرهان وحميدتي احد منتجات نظام الانقاذ الاسلاموي الفاشي، بعد تمكنه في البلاد عقب انقلاب يونيو 89م المشئوم. وكونهما يمثلان خلاصة ذلك المشروع، فهما اصدق من يجسد دوافعه وقيمه وسلوكياته. والحال كذلك، لا نستغرب ان السودان لم يشهد لهما مثيل، في الكذب والنفاق والجهل والطمع وضمور الحساسية المجتمعية.
ونسبة لتجردهم من القيم الانسانية والاعراف المجتمعية، فهم مهيئوون سلفا علي خوض صراع السلطة بكافة السبل الملتوية والبقاء فيها بكل الاساليب القذرة. وبسبب ضحالة وعيهم والشعور بالضعة والاحتقار، تؤول السلطة علي يديهم الي مجرد وسيلة للترفع والمباهاة والفرعنة، وآلية لتلبية الرغبات وانفاذ الشهوات، واداة عنف وارهاب لفرض السطوة والتسلط علي الآخرين.
لكل ذلك لو توفرت ادني شروط العدالة، لكان نصيب هؤلاء القتلة هو المقصلة، جزاءً وفاقا لما ارتكباه من فظائع في حق الابرياء ودمار بنية وتماسك الدولة. ولكن في البلدان (الحظها عاثر) كما عبر حميد، وتخضع لسلطة البندقية والحكم العسكري الارهابي، تختل اسس العدالة كجزء من حالة خلل عامة تطال كل شئ. والاسوأ من ذلك، انهما يطرحا انفسهما كجزء من حل حروبات ابادة اشعلوها بايديهم، وفوضي شاملة اسهموا فيها بنصيب الاسد، بل وبكل جرأة يتحدثون بلسان الشعب الذي اذاقوه الامرين! واذا قبلنا ذلك بمنطق القوة الباطشة التي تخدم مصلحتهما حصرا، غض النظر عن مصالح بقية مكونات المجتمع، علي اعتبارها خارج الحسابات، فكيف يتسني لهكذا وضعية مختلة ان تجد لها انصارا او من يؤيدها او يبرر جرائمهما او يشجع اطماعهما؟ وبالطبع إلا في حالة واحدة ان يكون اولئك المبرراتية والانصار من ذات طينتهم (ذوات الدم البارد والذمم الخربة)؟!
ولكن ذلك لا يمنع التعامل معهما بوصفهما اشرار يسيطران علي قوات باطشة وطيعة، ومن ثمَّ قادرة علي الحاق الاذي بالمواطنين وتدمير الوطن. اي التعامل مع الواقع كما هو، لكف شرهم وتحجيم اذاهم باكبر قدر، ومن ثمَّ السعي لتغيير موازن القوي المختل بالتي هي اسلم. وهو ما يستوجب بدوره الصبر الجميل وطول النفس (فن الممكن)، وليس المجازفة بتحدي اطماع هؤلاء الوحوش الكاسرة من غير استعدادٍ كافٍ (اوضاع مستقرة)، لتتعمق المأساة ونفقد الوطن للابد، مع كم من الفظائع والانتهاكات غير قابلة للحساب، وبالطبع من دون محاسبة.
وبعد وصول الحرب لمدي بعيد، وتعاظمت كلفتها الانسانية لتصل اصداءها لكافة ارجاء المعمورة، ومع استمرار الوضع في التدهور من دون محاولة جادة للحل. اتت دعوة التفاوض الامريكية لطرفي القتال، بمثابة طوق النجاة الاخير للشعب، للخروج من هذه المحنة باقل الخسائر، عبر الاتفاق علي وقف القتال ووصول المساعدات الانسانية.
وبدل ان يلتقط قادة الجيش هذه الدعوة بتلهف، اذا كانوا فعلا معنيين برفع المعاناة عن الشعب، التي تسببوا فيها بتقصيرهم وعجزهم عن القيام بدورهم. نجدهم وبكل صفاقة تندر ان تحدث في التاريخ، يرفضون الذهاب للتفاوض بمبررات وحجج في غاية الاستهبال، ان لم تكن دليل ادانة في حقهم لو كانوا علي قدر المسؤولية واهل لما يشغلونه من وظائف. وبتعبير آخر تحول مطلب الاستجابة للتفاوض الي وضع الشعب السوداني كرهينة، وابتزاز المجتمع الدولي بمعاناته! اي ما عجز قادة الجيش عن تحقيقه عسكريا (المحافظة علي السلطة وامتيازاتها ومصالح الحلفاء الاسلامويين)، طالبوا المجتمع الدولي بتحقيقه لهم، وإلا دفع الشعب السودان الثمن من حياته واستقراره وسلامة بلاده! من يصدق ان ذلك يمكن ان يحدث علي اي بقعة من كوكب الارض، ولكن مع امثال هؤلاء القادة الرخم والكيزان وقلة حياءهم لا غرابة ولا استغراب! ومن يشكك في ذلك دعونا نراجع هذه المبررات لنعرف مدي جديتها وصدقها:
اولا، تحدث البرهان عن خطوط حمراء، وغض النظر عن انها احد لوازم الانظمة العسكرية لفرض سطوتها دون مراجعة ايًّ كان، إلا اننا نجد وبالمنطق العسكري البحت، ليس هنالك خط احمر اكثر اهمية وحساسية، من الامن القومي، الذي يرتبط ببقاء الدولة وسلامة المواطنين. والحالة هذه، لم يلعب احد بهذا الخط بمثل لعب البرهان وقبله البشير وقوش وقبلهما جميعا التلاعب بالدولة ومؤسساتها بعد انقلاب الكيزان. وابرز وجه لهذا التلاعب هو وجود ورعاية وتضخم مليشيا عائلية ارتزاقية لدرجة موازية للجيش، ان لم تفقه عدة وعتاد علي عهد البرهان. والحالة هذه، ما محنة الحرب الواحشية الراهنة، التي يعانيها الشعب وتمس استقرار وبقاء الدولة الا النتيجة الحتمية لهذا الخطأ/الخيانة الفادح/ة الذي/التي ارتكبته هذه القيادات الطامعة التافهة المستهترة. اما جذور هذا الخطأ الكارثي، فمرده شرذمة الاسلامويين التي استولت علي السلطة عبر انقلاب عسكري، لتُحدث حالة من الازاحة لمفهوم الامن القومي، من الارتباط بحماية الدولة الي حماية السلطة المغتصبة، والتي تحولت بدورها لعجل مقدس، تُقدم له كل فروض الطاعة وتُسخر له مؤسسات الدولة ومواردها، وتُعدل من اجله القوانين والنظم وقيم واعراف المجتمع. اي ما حدث هو أسوا افرازات جريمة المشروع الحضارى (نتاج الخيال المريض والنفس الأمارة بالسوء للملعون الترابي، وتطبيقات تابعه الحاقد الغتيت علي عثمان طه).
ثانيا، الحديث عن تربص الدول الاقليمية من قبل البرهان يفوق قلة الحياء مصيبة، لان البرهان نفسه من ذهب خفية ومن وراء ظهر شركاءه في حكومة الفترة الانتقالية، ليقابل نتنياهو ويسعي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ويتواصل معهم سرا وعلنا، ويفتح لهم البلاد علي مصراعيها، وبما فيها زيارة منظومة الصناعات الدفاعية! بل رئيس هذه المنظومة هو مبعوثه الخاص للتنسيق مع الاسرائليين! وهل هنالك عدو للانسانية والدول الاقليمية اكثر من الصهاينة؟ ويضاف لذلك خضوعه المطلق لتوجيهات واومر السيسي، لدرجة تكريمه بتحية عسكرية اضحكت العالم واخجلت السوادنيين، من شدة خنوع البرهان وجهله بابسط بروتوكلات مقابلة الرؤساء لبعضهما، وكل ذلك من اجل البقاء في السلطة باي ثمن وكيفية.
اما رفضه المعلن لمشاركة الامارات كمراقب، فهل نسي ان محور الشر هو ذات المحور الذي نسق معه لاجهاض الثورة؟ وان سفير الامارات ما زال يقيم بين ظهرانيه ببورتسودان والعكس صحيح؟ وان ذهب البلاد يذهب جميعه للامارات؟ وهذا ما هو معلن او ما ظهر للصحفيين والمتابعين، اما ما هو غير معلن وتظهره كثير من الشواهد والتساؤلات فهو افدح واخطر. بدلالة من يصدق ان القوات السودانية المستدعاة من جانب الامارات ما زالت تقاتل في اليمن!
وعموما، جانب الغموض المحيط بهذه الحرب، هو ابرز مظاهرها، لدرجة في احيان كثيرة لا تعرف من يقاتل من، ولاجل من ذلك القتال، وما الهدف القذر الذي لعبه الهالك البيشي ولصالح من، قبل التخلص منه؟ وايضا من جوانب الغموض، ان تعنت قادة الجيش في رفض التفاوض بالتوازي مع قبول قائد المليشيا للتفاوض. يُظهر المليشيا في مظهر سياسي ودبلوماسي واعلامي بل واخلاقي افضل من الجيش، رغما عن جرائمها البشعة التي تسير بذكرها الركبان! اي كأن هذا الموقف الطفولي العبثي من قادة الجيش يكافئ المليشيا علي انتهاكاتها بتحسين سجلها الوسخ.
والمحصلة، هذا الغموض لوحده يشكك في كل ما يطرحه هؤلاء الجنرالات من اقوال ونوايا ووعود يُستشف منها مصلحة الشعب. وما زال اثر ضربة انقلابهم علي حكومة الثورة يلقي بظلاله السالبة علي المشهد، كما انه لن ينسي ابد الدهر.
ثالثا، السؤال الصحيح ليس عن اثر التدخل الدولي سواء ان كان حميدا ام خبيثا، ولكن في من تسبب، ولماذا تم استدعاء التدخل الدولي من الاصل؟ فالسبب يعود لعدم شرعية السلطة في السودان اولا، ولسوء استخدامها ثانيا. وما يترتب علي ذلك من نكبات تحل بالمواطنين ودمار يحيق بالدولة واهدار للموارد وتهديد للامن والسلم الدوليين.
رابعا، وكما اشار البعض هل بنود اعلان جدة مختصة حقا وفقط بخروج الدعامة من بيوت المواطنين؟ ام لها بنود اخري والتزامات علي الجانبين؟ وهو ما لم يتحقق من الطرفين، لفقدان الثقة من جهة، ورغبتهما في الاستحواذ علي كامل الكيكة من جهة، ولتضارب مصالح الجهات النافذة علي الطرفين من جهة.
خامسا، اما التمسح بالمواطنين وقضاياهم ومحنتهم، فهذا ما لا يليق بمن اشرف علي مجزرة الثوار النبلاء في حرم القيادة العامة، وقفل الطريق القومي لتجويع البلاد نكاية في الحكم المدني، واجهض الثورة واسهم في عودة الفلول المكروهين وتمكينهم، وفشل في حماية المدنيين من هجمات وهمجية الجنجويد، ولم يُبدئ طوال فترة الحرب ما يُشعر انه يكترث لمعاناة المواطنين وهو يرفض السماح لمنظمات الاغاثة بالعمل، وهذا عندما لا تنهب حكومة (حويكمة) الجنرالات ما وصل منها وو..الخ من مخازٍ في حق المواطنين يندي لها الجبين.
والحال انه في اللحظة التي يتهرب فيها قادة الجيش من المفاوضات ويتعرض شعبهم لاهوال الحرب، يرسلون اسرهم للخارج لينعمون بالحياة الرغدة ويواصل ابناءهم بناء مستقبلهم. بل ابن الكباشي اظهرت الصور استمتاعه بمباريات كاس العالم في المانيا. ورغم عن ذلك وبكل قوة عين يدعون المستنفرين في الداخل الي ساحات القتال!
اما ما يصدر من تقارير دولية لصيقة بالاوضاع علي الارض، عن مخاطر المجاعة وكثافة النزوح والتشرد وتسرب الطلبة من التعليم وانتشار الامراض والاوبئة، ناهيك عن اعداد القتلي والمصابين غير المعلومين. فهذا ما لايمكن تجاهله او انكاره او التهوين من شانه، رغبة في استمرار حرب السلطة، إلا لمن لا تربطه بهذا الشعب اي اواصر صلة من كبار الجنرالات، وبعد ذلك يطلبوا من الجميع الاعتراف بهم كقادة وحكام الي يوم يبعثون!!
سادسا، رفض التفاوض والتهديد باستمرار الحرب والاعلانات المتكررة عن قرب الحسم، والتبشير بتحرير البلاد من دنس الجنجويد، وغيرها من الوعود الحالمة والتهديدات الجوفاء، التي لا تسندها حقائق علي الارض. فكلها تندرج في خانة الخطرفات واحلام الصحيان التي لا تغني عن الواقع شيئا. ولا يمكن المواصلة فيها بصورة عبثية وكأن ليس لها ثمن فادح! فمدة عام ونصف من الحرب التدميرية الهائلة، لهي مدة كافية لاظهار الجيش لجدارته واهليته للقيام بدوره علي اكمل وجه، وطالما فشل في ذلك تحت سيطرة هذه القيادات الفاشلة، فليس هنالك ما يسمح بتصديقهم ان المستقبل مختلف. بل الاقرب للواقع هو المواصلة علي ذات المستوي البائس من الاداء ان لم يكن اسوأ، وتاليا المزيد من الهزائم وارتفاع منسوب الانتهاكات وتدمير المزيد من البنية التحتية للدولة، ومن ثمَّ اقترابها حثيثا من نقطة اللاعودة.
اما لو افترضنا جدلا جدية قادة الجيش في ادارة الحرب، واتساقهم مع تصريحاتهم، لتوقعنا ذهاب البرهان وكباشي لقيادة الحرب من داخل القيادة العامة للجيش، التي تسللوا منها خفية ولاذوا فرارا! اي ان يدفعوا ثمن الحرب كالآخرين، وليس اطلاق الدعوات والتهديدات والتحريض من المناطق الآمنة (حيث شركات طيرانهم ومنهوباتهم من الذهب في حرز امين كالكباشي/ حسب التسريبات) او وهو ياكل الزلابية وشرائح البطيخ علي الساحل بطريقة استعراضية، او كما ذكر استاذنا دكتور مرتضي الغالي وهو يلبس البدلة ويسافر لتهنئة رئيس رواندا بتنصيبه، وكأنه يعاني الفراغ القاتل!
وقياسا علي فرارهم السابق من القيادة العامة، الذي يؤكد ان اهتمامهم بحياتهم ومصالحهم، يفوق اهتمامهم بسلامة جنودهم والعباد والبلاد. فاذا ما استمرت حربهم السلطوية ووصلت بورتسودان، فما نتوقعه فرارهم خارجا وترك البلاد واهلها في حيص بيص.
واخيرا
وكما نصحت الاستاذة رشا عوض وغيرها من العقلاء، فعلي قادة الجيش الاستهداء بالله والذهاب للمفاوضات دون ابطاء. لانه ليس هنالك معني للتشبث بسلطة منقوصة والاصرار علي خدمة الكيزان والبلاد تحترق واللظي يطال الابرياء. ودمتم في رعاية الله.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قادة الجیش
إقرأ أيضاً:
على طراز بشار.. لماذا ينهار قادة يحققون فوزًا انتخابيًا ساحقًا؟
ربما كان سقوط نظام بشار الأسد متوقعًا منذ مدة، كإمكانية نظرية، لأسباب عديدة؛ منها فقدانه المقومات الذاتية للاستمرارية، واستناده الكامل تقريبًا على معادلات وسياقات إقليمية متحركة لا يملك التحكّم فيها؛ لأنه أضعف حلقاتها.
غير أن طوفان الأقصى، وتداعياته الأولية ذات السقف المفتوح قد جعلا هذا السقوط على سكة التحقق القريب، وربما أسرع وأسهل مما كان يتصوره الجميع من داخل الحكم والمعارضة على السواء.
سقط نظام عائلة الأسد وخارَ عرش بشار بعد عقود طويلة كابد فيها الشعب السوري و"ضيوفه" من العرب والمسلمين، أعتى درجات التنكيل والتدمير والقتل، كما عانى فيها من شظف العيش والفقر، وتردي كل خدمات المرفق العمومي، حتى أصبحت حياتهم جحيمًا تعجز القدرة البشرية العادية عن تحمّله لولا جلدُ السوريين.
ومع كلّ هذه المآسي والمنسوب العالي من الاستبداد الذي عاناه الشعب السوري الأبي، كان المخلوع بشار الأسد ينظم الانتخابات التشريعية والرئاسية ويفوز بها بنسب عالية جدًا تقارب المائة بالمائة، في عملية انتخابية فاقدة لكل معايير النزاهة والتعددية والشفافية.
فقد أعلنت هيئة الانتخابات المنصبة من النظام فوز بشار الأسد الساحق في آخر انتخابات رئاسية سنة 2021 بنسبة 95.1 %، فيما فاز مرشحو حزب البعث وحلفاؤه، في المناطق التي يسيطر عليها نظام بشار، بأغلبية مريحة، وبنسب عالية من الأصوات في الانتخابات التشريعية التي تمت في مايو/ أيار 2024.
إعلانوالسؤال، لماذا تنهار أنظمة عربية يفوز مرشحوها فوزًا ساحقًا في الانتخابات؟
نتائج انتخابية لا رصيد لها في الواقعيقول التاريخ القريب إن أنظمة عربية عديدة كانت لحظة نهايتها وانهيارها قريبة جدًا زمنيًا من لحظة إعلان فوزها في الانتخابات. في سنة 2009 أعلن زين العابدين بن علي، رئيس تونس السابق، فوزه في انتخابات رئاسية لم يكن مسموحًا له الترشح لها، لولا التعديل الدستوري الذي مرّره برلمانه.
فقد أعلنت مصالح وزارة الداخلية، سلطة الإشراف على الانتخابات وقتها، فوز الرئيس بن علي بولاية خامسة، بنسبة 89.62%، فيما فازت قوائم مرشحي حزبه، التجمع الدستوري الديمقراطي، بنسبة 75% من مقاعد البرلمان في انتخابات تشريعية تزامنت مع الرئاسية.
كان المشهد التونسي في 2009 يوحي بأن نظام بن علي قد أحكم وضع يديه على الدولة والمجتمع والإدارة، وأن حاضنته الشعبية ثابتة وداعمة له في كل الاستحقاقات. غير أنه لم تمضِ سنتان، حتى اندلعت الشرارة الأولى لثورة الحرية والكرامة في ولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي المهمّش، إثر إقدام الشاب محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده، بسبب ما رآه "حقرة" (احتقارًا) من النظام واعتداءً من البلدية التي هشّمت عربته، ومنعته من بيع بضاعته، والعربة والبضاعة هما وسيلته الوحيدة للعمل والاسترزاق.
حصل ذلك يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، وامتدت إثر ذلك الاحتجاجات في كامل البلاد لتتحول إلى مواجهات مع قوات البوليس التي أطلقت الرصاص الحي؛ فسقط العشرات من المحتجين والمئات من المصابين.
لم يأتِ يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، إلا وقد أعلنت قناة الجزيرة عن مغادرة الرئيس بن علي وعائلته التراب التونسي، لتنتهي بذلك مسيرة نظامٍ حكمَ تونس ثلاثًا وعشرين سنة كان يظن رأسه، حتى 2009، أنه سيواصل حكم البلاد لعقود قادمة عبر توريث الابن، وربما الأصهار المقاليد بعد أن ظنوا أنهم ملكوا مفاتيحها.
إعلانما حدث في تونس زين العابدين بن علي ليس بعيدًا عنه ما حدث في جزائر عبدالعزيز بوتفليقة عندما انتفض حراك مدني ضد ترشحه لولاية خامسة، رغم مرضه الشديد الذي أقعده عن ممارسة حياته العادية، فضلًا عن ممارسة أعباء حكم بلد مثل الجزائر بتعقيداته وتحدياته.
انتخب الرئيس بوتفليقة لأوّل مرة سنة 1999، ثم أعيد انتخابه سنة 2004 لعهدة ثانية بنسبة 90.42 %، قام خلالها بتعديل دستوري (2008) يقضي بإلغاء حصر الرئاسة في ولايتين رغم الانتقادات الواسعة التي عبّرت عنها المعارضات التي رأت في هذا التعديل مدخلًا للحكم مدى الحياة.
لم يكن هذا الاعتراض على التعديل الدستوري بعيدًا عمّا آل إليه الواقع، حيث أعيد انتخاب الرئيس بوتفليقة، رغم مرضه نتيجة إصابته بجلطة دماغية، لعهدة ثالثة في أبريل/نيسان 2014، بنسبة من الأصوات تجاوزت 70% أمضاها مريضًا غائبًا أو مغيّبًا عن تسيير دواليب الحكم، فاتحًا بذلك المجال لشقيقه ولرموز حكمه ليحكموا باسمه من خارج مؤسسات الدولة، ومن خارج أي شرعية.
رغم المآلات السيئة والنتائج الثقيلة على الوضع الجزائري للعهدة الثالثة لبوتفليقة الذي أصبح غائبًا تمامًا عن مشهد الحكم إلا من خلال صوره ومقاطع قصيرة لمقابلاته القليلة جدًا التي يعرضها التلفزيون الجزائري بين الحين والآخر، فقد حرص المحيطون بالرئيس "المريض" على ترشيحه لولاية خامسة في انتخابات 2019.
كان حرس الحكم يحدثون أنفسهم عن أن الأوضاع تحت السيطرة، وأنهم يمسكون كل خيوطها، ويتحكمون فيها بما لا يجعل مجالًا للمنافسة، فضلًا عن المفاجأة. غير أن مجريات الوقائع وانطلاق الحراك المدني والسياسي الواسع الذي ملأ الساحات العامة لأشهر طويلة أسقط أحلامهم وبيّن انقطاعهم عن نبض الشارع الجزائري الذي بقي يختزن الرغبة في التغيير لعقود بعد خيبة تسعينيات القرن الماضي ومرارتها، وبعد أن مرّت أمامه وليس بعيدًا عنه موجة الربيع العربي الأولى في 2011.
إعلانانطلق الحراك الشعبي من مدن العمق الجزائري في فبراير/ شباط 2019، ليأخذ بعد ذلك نسقًا تصاعديًا في الشعارات والمضامين، وخط سير في اتجاه العاصمة الجزائر التي امتلأت ساحاتها وشوارعها لأشهر عديدة، وفرض على المؤسسة العسكرية التدخل لمحاولة احتواء الموقف.
وعلى عكس الحالتين السورية والتونسية، تدخلت المؤسسة العسكرية في الجزائر؛ لحماية النظام وضمان ديمومته بالتخلي عن بوتفليقة وحاشيته المعلنة وغير المعلنة، وفتح المجال لنفَس جديد للمنظومة بخطاب وأجندة ورموز جدد.
مرة أخرى، وفي اللحظة التي كان فيها حكم بوتفليقة يستعد لعهدة خامسة ينهار كل شيء وتطوى بالكامل مسيرة عقدين من الزمن، وتصبح النسب العالية التي تحصّل عليها في الانتخابات السابقة لا رصيدَ لها في الواقع.
وإذا كان التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار، وفي باطنه نظر وتحقّق، كما قال العلامة ابن خلدون، فإنّ العديد من الحكام العرب المباشرين، لا يبدو أنهم قد اتعظوا وأخذوا الدروس لتجنب نفس المصير "المحتوم". فلا يزال من الحكام العرب من نراهم ينظمون انتخابات مهندسة ليحصلوا فيها على الفوز الكاسح، وتأتي لهم ببرلمان له لون واحد جاهز للقبول بكل ما يريده الحاكم، ولا مكان فيه للمعارضة، ولا للشفافية.
تمسك تلك الأنظمة بكل خيوط اللعبة السياسية، وتتصرف في كل مؤسسات الدولة ومقدرات الإدارة في إقصاء تام للمعارضة، وتغييب تام لقوى المجتمع المدني، وتدجين كامل للإعلام العمومي والخاص، وهي نفس الحالة التي كان عليها نظام المخلوع بشار الأسد قبل فترة قليلة من بداية تحرك المعارضة المسلحة وزحفها نحو أهم المدن السورية وصولًا إلى العاصمة دمشق.
لم تأخذ هذه المسيرة أكثر من اثني عشر يومًا، كانت كافية ليسقط نظامٌ حكمَ أكثر من خمسة عقود بقوة الحديد والنار، وبسردية كاذبة ومضللة، عنوانها الفوز الانتخابي الساحق والمتكرر.
إعلان ثورات الربيع العربي من أجل تصحيح الأوضاعقامت ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى سنة 2011 ضد هذا النموذج المتهالك للحكم العربي، رغبة في تغيير الأوضاع نحو حالة ديمقراطية تعود فيها السيادة للشعوب، ويستعيد فيها العربي حريته ومواطنيته وإحساسه بالأمن في بلاده.
صحيح أن انتكاسة ثورات الربيع العربي كانت سريعة بعد أن تمّ إفشالها وتحويل مساراتها إلى حروب أهلية، أو عبر تصفيات دموية، ولم تبقَ منها صامدة لعشرية كاملة غير التجربة التونسية التي مثلت استثناء نجح في تحقيق العديد من المكاسب على مستوى الديمقراطية والحريات والحقوق، قبل أن يتم إجهاضها هي الأخرى بانقلاب يوم 25 يوليو/تموز 2021.
اليوم، عادت ديناميكية الثورة العربية من جديد عبر البوابة السورية التي بقي فيها المخاض الثوري في حالة اعتمال لأكثر من ثلاث عشرة سنة بين الكرّ والفرّ، إلى أن جاءت اللحظة المناسبة التي انتصر فيها منطق التاريخ على مغالطات نظام المخلوع الأسد، وانتصرت فيها إرادة التغيير لدى الثوار على أدوات حكم خاوية، وعلى أشباح في ثوب جنود بلا عقيدة وبلا روح.
التاريخ يقول دون تلعثم إن الحكم "الراشد" يقوم على جملة من الشروط إذا ما توفرت قامت دولة الشعب لخدمة الشعب، وإذا ما غابت تحول الشعب إلى خادم لدولة الفرد أو العائلة أو الحزب.
في دولة الشعب تتواصل الدولة ويتعاقب الحكام عبر منافسة انتخابية شفافة وتداول سلمي للسلطة. أما في الحالة الأخرى – وهو واقع الكثير من دولنا – فيُستعبد الشعب وتُستنزف قدراته ومقدرات بلاده، وتُكمّم أفواهه ويُفرض عليه بالقوة القاهرة التعايش مع سرديات مغشوشة ومغلوطة.
ومع ذلك يبقى الشعب يختزن الظلم ربما لعقود إلى أن تأتي اللحظة المناسبة لينفجر وينتفض لاسترداد دولته المغتصبة وإرادته المسلوبة، وعندها تنكشف الكذبة الكبرى والمفارقة الصارخة بين ما كان يُعلن عنه من نتائج ساحقة في انتخابات صورية ومشهدية بدون معنى وبدون رصيد في الواقع، وبين مساحة الفراغ الواسعة والعميقة التي تفصل الحكّام، الذين أعلنوا ذاتيًا فوزهم الساحق، عن شعوبهم، حتى لا يجد هؤلاء الحكام من ينصرهم أو يدافع عنهم، فيتسللون خارج بلدانهم لواذًا تحت جنح ظلام الليل بعد أن ظنوا أنهم هم الباقون، وأنهم ليسوا في حاجة إلى شعوبهم، ما دام أن لهم من يحميهم من قوى إقليمية ودولية، ضمن معادلات تخدم مصالح هذه القوى التوسعية.
إعلان سرديات مغلوطة لصنع واقع موهوممشكلة هذا النوع من الحكّام أن بناءهم النفسي غير السوي يمنحهم قوة كبرى على تصديق سردية نسجها شغفهم بالحكم، وهم يعلمون أنها مكذوبة ومغلوطة، ولكنهم يظنون أن الشعوب بلهاء بفطرتهم، وأن العصا الغليظة كفيلة بأن تغلق أمامهم كل منافذ الوعي والاستفاقة.
المشكل الأكبر لدى هؤلاء الحكام أنهم يضيقون بكل صوت معارض، ويعمدون إلى إسكاته بكل السبل القهرية فيفوّتون بذلك على أنفسهم الانتباه لحالهم عند كل صوت منبّه، فتتواصل غفلتهم حتى اللحظة التي تتحول فيها أصوات المنبهات إلى هدير صيحات الثوار، وأصوات المدافع والبنادق، عندها ينتهي كل شيء ولا تكون هناك فرصة للتدارك.
هذا النوع من الحكام العرب ذاهبون لا محالة إلى مصيرهم؛ لأنهم يفعلون كل شيء من أجل أن يكون مصيرهم مثل مصير أسلافهم، راهنوا على نتائج انتخابية عالية في الأرقام، خاوية في الواقع، وراهنوا على سرديات وشعارات لا أساس لها، ولا أثرَ إيجابيًا لها في واقع شعوبهم، وراهنوا على سياقات ومعادلات لا يتحكمون فيها، تستعملهم ولا يستعملونها، وصنعوا أعداء وهميين من أبناء جلدتهم؛ للتغطية على عجزهم الفادح في مواجهة الأعداء الحقيقيين لشعوبهم، مثل: الفقر، والبطالة، والتبعية، وتراجع مستوى العيش.
ولعل أفضل تعبير عن علاقة الشعوب بحكامها من أمثال من ذكرنا، هو هتاف التونسيين يوم السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1987 للرئيس بورقيبة "بالروح، بالدم نفديك يا بورقيبة"، وتحول هتافهم بعد يوم واحد فقط، يوم السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني1987، لرئيس تونس الجديد زين العابدين بن علي " بالروح بالدم نفديك يا بن علي"، والله ينصر من صبح، كما يقول المثل التونسي.
مثل هذه الأنظمة ذات المساحيق، "كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (قرآن كريم)، لأنهم اتخذوا من دون شعوبهم أولياء، وجعلوا أنفسهم في منزلة أعلى من شعوبهم، لا يُسألون عمّا يفعلون وهم يسألون وينكلون.
إعلانفهل تكون الثورة العربية في موجتها الثانية المتطورة عن الأولى، المدخل لغلق قوسَي هذه الأنظمة الهشة، رغم المظاهر المخادعة بالقوة، التي لا تَصلح ولا تُصلح، خاصة بعد أن تعمّدت فعل كل المنكرات لسدّ الباب أمام تغيير الأوضاع عبر الانتخابات، والتداول السلمي للسلطة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية