سودان ما بعد الأزمة احتمالات التمدد والتحالفات في مشهد سياسي متقلب
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
زهير عثمان حمد
تحليل الوضع السياسي في السودان بعد الأزمة الراهنة يتطلب فهماً دقيقاً للتفاعلات المعقدة بين الأطراف المتنازعة، والمجموعات الإقليمية، والتحالفات السياسية المتغيرة بسرعة. الوضع في السودان مرن للغاية، حيث تشهد الساحة السياسية تغيرات وتحالفات متقلبة بين القوى المختلفة. إليك بعض النقاط الرئيسية التي يمكن أن تؤثر على مستقبل البلاد:
الظروف السياسية والفرص المتاحة للبرهان
استغلال الأزمة: البرهان، كرئيس للمجلس السيادي والقائد العام للقوات المسلحة، قد يحاول استغلال الفوضى والفراغ السياسي الناتج عن الأزمة لتعزيز نفوذه السياسي والعسكري.
إعادة تشكيل التحالفات: في ظل الديناميكيات السياسية المتغيرة، قد يسعى البرهان إلى بناء تحالفات جديدة أو إعادة تشكيل التحالفات القائمة لتحقيق توازن يضمن له السيطرة على السلطة. تحالفات سريعة التشكيل والتفكك قد تصبح السمة المميزة لهذه المرحلة، مع عدم وجود ضمانات لاستقرار أي تحالف.
التحالفات الجديدة والقديمة
ساحة التحالفات: الساحة السودانية تشهد حالة من "السيولة" السياسية حيث يمكن للتحالفات أن تتشكل وتتفكك بسرعة. الأحزاب التقليدية والتقدمية على حد سواء قد تجد نفسها تتنقل بين التحالفات وفقًا للظروف والمصالح المتغيرة.
أدوار اللاعبين الإقليميين: الجهات الإقليمية قد تلعب دوراً مهماً في تشكيل هذه التحالفات، حيث يمكن لدول الجوار أو القوى الإقليمية الأكبر أن تدعم أطرافاً معينة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. هذا الدعم يمكن أن يعزز من فرص البرهان أو غيره في الوصول إلى السلطة.
احتمالات تمدد النزاع
انتقال الحرب: احتمال انتقال النزاع إلى مناطق أخرى في السودان يعتمد على كيفية تطور الصراع بين القوى العسكرية والسياسية. إذا استمرت الأزمة الحالية دون حل، فإن احتمالية انتقال النزاع إلى مناطق جديدة ستزداد، مما قد يزيد من تعقيد الوضع الأمني والسياسي في البلاد.
تأثير القادة: غياب أي من القادة الرئيسيين في الأزمة، سواء البرهان أو غيره، قد يؤدي إلى فراغ قيادي يمكن أن يستغله أطراف أخرى لتوسيع نفوذها أو لتصعيد النزاع. هذا سيؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات وخلق ديناميكيات جديدة في الصراع.
. دور الشارع السوداني
الحراك الشعبي: الشارع السوداني لعب دوراً محورياً في التغيير السياسي في السنوات الأخيرة، ويظل عاملًا حاسمًا في مستقبل السودان. القوة الشعبية يمكن أن تشكل ضغطاً على القادة السياسيين والعسكريين، وقد تؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في موازين القوى.
التأثير على التحالفات: الحراك الشعبي قد يدفع بعض القوى السياسية لإعادة تقييم تحالفاتها، إما بالابتعاد عن التحالفات القائمة أو بالدخول في تحالفات جديدة تماشياً مع المطالب الشعبية.
الحسابات الأخرى فيما وراء الأحداث
حسابات داخلية وخارجية: بعض القوى السياسية والعسكرية قد تكون لها حسابات تتجاوز الأزمة الحالية، مع أهداف طويلة الأمد تتعلق بالسيطرة على الموارد أو تعزيز النفوذ الإقليمي. الفاعلون الإقليميون والدوليون أيضاً قد يكونون لهم استراتيجيات خاصة تتجاوز مجرد استقرار السودان، ويرتبطون بمصالح أكبر في المنطقة.
. السيناريوهات المستقبلية
استمرار عدم الاستقرار: إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي شامل، فإن استمرار حالة عدم الاستقرار قد يؤدي إلى تفكك الدولة أو إلى تدخلات خارجية أعمق.
انتقال السلطة: في حال غياب أحد القادة الرئيسيين، قد نشهد تغيراً كبيراً في الخارطة السياسية، مع احتمال صعود شخصيات جديدة أو تعزيز نفوذ قوى أخرى.
الان الوضع في السودان يتسم بتعقيد كبير وتداخل بين العوامل المحلية والإقليمية والدولية. البرهان وغيره من القادة العسكريين والسياسيين سيحاولون استغلال هذه التعقيدات لتحقيق مكاسب سياسية، ولكن المستقبل يظل غير مؤكد بشكل كبير، حيث يمكن للعديد من المتغيرات أن تقلب المعادلة في أي لحظة.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان یمکن أن
إقرأ أيضاً:
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه "حوار مع الصفوة" (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ"القوى الكسبية" و"القوى الإرثية". فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع "الوصائي" (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب.
مرت الخميس الماضي الذكرى السادسة لثورة الـ19 من ديسمبر عام 2018 في السودان. وربما لم يُعدّها ثورة في يومنا قوم حتى من بين مَن قاموا بها قياساً بأعراف فكرية نزعت صفة الثورة عن ثورات سبقت ثورة 2018، في أكتوبر عام 1964 وأبريل عام 1985. فبين الثورة السودانية وعلمها جفاء، إن لم نقُل خصومة. فكانت صفوة من كتابنا تواضعت على نقد خطأ شائع، في رأيهم، وصف الحراكين المذكورين بالثورة. فالثورة في مفهومهم هي التي لا تسقط النظام القديم فحسب، بل تغير ما بنا تغييراً مشهوداً أيضاً. فالثورتان المزعومتان لم تغيرا ما بنا وإن نجحتا في إزالة النظامين اللذين خرجتا لإسقاطهما.
فقال الأكاديمي والعضو المخضرم في الحزب الجمهوري النور حمد إن ثورة أكتوبر ليست "ثورة" لأنها، وإن نجحت في إسقاط نظام الفريق عبود العسكري (1958-1964)، لم تحدث تحولاً جوهرياً مما نُعدّه نقلةً إلى الأمام في الواقع السوداني. فعادت الأحزاب التقليدية التي حكمت قبل الفريق عبود عودة أسوأ مما كانت قبلاً. واستكثر المؤرخ والوزير والدبلوماسي حسن عابدين أن يسمي أكتوبر "ثورة" وقال إنها "انتفاضة" في خفض لمرتبتها لأنها "لم تكُن ثورة، وإنما انتفاضة لأن الصحيح أن تُحدث الثورة تغييراً في نظام الحكم، وفي حركة المجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد، وتغييراً في كل شيء، وهذا لم يحدث في أكتوبر".
وعموماً فالتخليط في علم سياسة الثورة في السودان متفشٍّ. فاشتهر الحراك الذي أسقط نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985 بـ "انتفاضة أبريل"، في حين أنها أسقطت نظاماً قديماً مثلها في ذلك مثل "حراك أكتوبر" الذي يسمى "ثورة". بل يكفي أن مفكراً في مقام الوزير والكاتب منصور خالد وصف أكتوبر بأنها "ثورة" و"لا ثورة" في الكتاب نفسه وعلى مسافة 23 صفحة من الصفتين في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول". فقال في الموضع الأول من الكتاب إن أكتوبر "ثورة لا يعادل خطرها سوى مؤتمر الخريجين (1938)" الذي كان طليعة التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني. فهي عنده ثورة لأن قوامها "قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد وهو انتقال إلى لب السياسة". ووصفها في الموضع الآخر بأنها ثورة "من باب التبسيط". فالثورة في قول منصور "صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر في أكتوبر".
شرط التغيير الجذري
لن يجد المرء سنداً لاشتراط هذه النخبة أن تقوم الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد إسقاط النظام مباشرة وإلا صارت "انتفاضة" في أحسن الأحوال. فالثورة تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. أما التغيير فلا يأتي للتو بعد سقوطه. فهو مما تختلف الآراء فيه وفي سبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. فمن وقف على الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها رأى أن جماعاتها الثورية اختلفت بعد سقوط النظام القديم حول التغيير محلياً وأوروبياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية، وهما العقيدتان من وراء الثورة، تحققتا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يزعم بعض صفوتنا. ويكفي أنه جرى استرداد الملكية التي أسقطتها الثورة نفسها للعرش ثلاث مرات ولم تتوطد عقيدة الجمهورية إلا في ثمانينيات القرن الـ19. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية للمرة الأولى. وتستغرب هذا التباطؤ في العلمانية من ثورة ألغت الدين المسيحي في طورها الباكر واستبدلته بـ"الربوبية" وهي دين يعترف بالرب الذي سرعان ما توارى عن الكون بعد الخلق.
قلَّ أن تتوقف أقلام هذه النخبة عند ما حال دون الثورة والتغيير الذي تكون به أو لا تكون، وكأن امتناع وقوع التغيير عاهة أصل في الثورة لا نتيجة لخلافات حوله بين قوى الثورة نفسها وقوى النظام القديم رجحت فيه كفة النظام القديم. فذكر النور حمد أن ثورة أكتوبر "أُجهِضت" بعد أربعة أشهر فقط من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات التي قامت عام 1965، فعادت بها الأحزاب القديمة للحكم كما كانت قبل انقلاب الجيش عليها عام 1958. ولم يتوقف النور أو غيره عند سياسات ذلك الإجهاض للثورة الذي امتنع به التغيير.
صح السؤال هنا، على ضوء عبارة النور عن إجهاض ثورة أكتوبر من دون إحداث التغيير الجذري الذي انتظره، ما كان ذلك التغيير المنتظر؟ وما هي القوى التي تصارعت حوله في الثورة؟
الصراع حول التغيير
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر 1964 نشرها في كتابه "حوار مع الصفوة" (1979)، فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ"القوى الكسبية" و"القوى الإرثية". فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع "الوصائي" (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة وتعلي النسب على الكسب. وقال عنها إنها تشكل بتصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي، مما يجعلها خصماً للعقلانية والفردية التي هي سمة الطبقة الكسبية الحداثية.
وكانت الديمقراطية هي عظمة النزاع بين الطبقة الإرثية والطبقة الكسبية في ما بعد سقوط الأنظمة بالثورة، فتعاني الطبقة الكسبية حيال هذا المطلب محنة يصفها الأعاجم بـ"كاتش 22" أي إنها المأزق الذي لا فكاك منه لأن أحواله إما تناقض واحدها مع الآخر، أو وجِدت معاً لا يستغني أحدها عن الآخر. فبينما تطلب الطبقة الكسبية الديمقراطية إلا أنها مدركة في الوقت نفسه أنها لن تحظى بتمثيل ذي معنى في البرلمان لضآلة عددها في المجتمع، قياساً بغزارة الطبقة الإرثية. وقال منصور عن فرط نفوذ هذه الطبقة الإرثية في الريف أنها جعلته "مستودعاً لاستجلاب الناخبين والهتيفة".
ولا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مع البرلمانية مثل الأكاديمي والوزير محمد هاشم عوض، وفي وقت باكر عام 1968 باستقدامه لمفهوم "البلوتكرسي" إلى طاولة البحث، والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما، فدولة الإرث هذه هي ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون الطبقة الكسبية وإطلاق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف عوض الحكم في بلدنا بـ"البلوتكرسي" من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نيّر، فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية، محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية تحليلاً شمل المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944) والجمعية التشريعية (1948) والبرلمان الأول والثاني (1954-1958)، فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال.
ونواصل عن الطبقة الكسبية التي لا تريد الديمقراطية ولا تحمل براها.
ibrahima@missouri.edu