دمشق- تدلل عبارة "العقار ينام (أو يمرض) ولا يموت" الحاضرة في سوريا على أهمية الملكية في الوجدان السوري، واعتباره ضامنا للمدخرات، مهما ركدت السوق أو تهاوت العملة.

ولتحقيق هذه الطمأنينة لا بد من رحلة عسيرة، تبدأ مع الأثمان الباهظة، ولا تنتهي مع تحكم السماسرة، ثم الخضوع لسياسات الجباية المجحفة التي يفرضها النظام أو سُبل التهرب بحسب فئات العقارات المختلفة.

سوق العقارات

يحكم العرض والطلب مجال العقارات في سوريا، بغياب المعايير الواضحة لتسعير المتر، وتداخل عوامل الموقع والخدمات ونوع القيد العقاري في تحديد الأسعار.

يُعد "البازار" جوهر إتمام الصفقات، ويحصل عادة ضمن المكاتب العقارية بحضور بعض أصحاب المكاتب والمشتري ومالك العقار، فيعمد الحضور إلى تقريب الفارق ثم الاتفاق، ويبقى التسعير عرضة للأهواء والتلاعب.

في أحياء دمشق الراقية تتراوح الأسعار بين مليار ليرة سورية (73 ألفا و163 دولارا) و7 مليارات ليرة (512 ألفا و145 دولارا)، وتتدرج أسعار المنازل في ريف دمشق بين 200 مليون ليرة (16 ألفا و163 دولارا) إلى 550 مليونا (40 ألفا و239 دولارا)، وتبلغ المليار (73 ألفا و163 دولارا) في بعض الحالات، وفقا للتجهيز (التشطيب) الحديث وتوفر بدائل الطاقة الكهربائية، بينما تبقى أسعار العقارات المخالفة التي تخترق العاصمة دون 150 مليونا (11 ألف دولار).

ويزيد مستوى الإيجارات الشهرية على 3 ملايين ليرة (220 دولار) في أحياء العاصمة المتوسطة، وتناهز نصفها في الضواحي، كما يُشترط على المُستأجر دفع قيمة 6 أشهر على الأقل في بداية العقد، خشية من تدهور قيمة الليرة.

وزادت متاهة الإيجارات تشعبا مع عزوف أصحاب المكاتب العقارية عن التعامل بها والتركيز على عمليات البيع، فتُركت صفقات الاستئجار "للشقيعة" أو "الحويصة" كما يُعرفون شعبيا، أي السماسرة الجوالين، ممن لا مكاتب لهم ويلتزمون بالحد الأدنى لمعايير المهنة، وهي مهنة ذات صيت مشوب بالمضاربة واستغلال حاجة المتعاملين.

أنواع الملكية

وللعقار عدة فئات للملكية، وتبعا لتصنيفها تتفاوت الأسعار والإجراءات، تتدرج قوة "الحجية" بملكية العقار من "الطابو" أو العقد بأنواعه أولا، وهي الحالة المثالية.

يأتي حكم المحكمة لفرد (هو المشتري) بملكية عقار تاليا، ويمكن نقل العقار للمشتري ضمن السجل بموجب الحُكم بعد تسديد الذمم المالية، لكن السلوك العام يكتفي بوضع إشارة في السجل.

يلي ذلك الملكية بموجب وكالة كاتب العدل غير القابلة للعزل، يحدد البائع وكيلا عاما للعقار هو المشتري، وبرز النموذجان الأخيران ضمن عمليات البيوع التي يجريها مستثمرون عقاريون أو أصحاب المكاتب، فيتم الشراء على نية البيع، وتحقيق مربح مادي، فلا يُنجز نقل الملكية ويُترك للمشتري التالي.

يتفرع عن هذه الفئات الرئيسية حالات شتى، لا سيما بعد التوريث أو تملّك الدولة، مثلا يمكن إثبات الملكية عبر فاتورة كهرباء ضمن مناطق المخالفات.

 

.

هناك كثير من المباني المخالفة للقانون في محيط العاصمة السورية دمشق (الفرنسية) المتدخلون

ويقول الطبيب لؤي الذي سافر إلى أوروبا قبل 6 أشهر، "في عام 2021 خططت للسفر والاختصاص، واحتجت لتأمين مبلغ للحصول على الفيزا. تبعد قريتي 40 كيلومترا عن العاصمة، وتملك العائلة عدة أراض، كان بيع (1-2) دونم منها كافيا لتأمين مبلغ السفر".

ويضيف للجزيرة نت: "عرضت العقار على المهتمين من الأصدقاء والأقارب ومغتربي القرية، احتاجت العملية عامين مع خسارة 70% من قيمة الأرض، نظرا للوضع الاقتصادي، وبُعد القرية عن مركز المدينة بعد أن كانت وجهة استثمارية وسياحية، وتم البيع بسعر زهيد بسبب حاجتي للخروج".

ويقول نديم، وهو مستثمر عقاري شاب، إن حركة السوق محصورة بين السماسرة الذين يستغلون حاجة العارضين، وبعض الراغبين بتجميد مبلغ من المال في عقار ريثما يُعاد بيعه. ويقلل من أثر المغتربين على سوق العقارات لدمشق، فلا يمكن الحديث عن حركة بيع طالما أن الطلب محدد بالدولار، ولذلك مخاطره وصعوباته.

دور القضاء

يشترط القانون السوري إيداع نصف القيمة الرائجة للعقار في المصارف منذ فبراير/ شباط 2023، وتحدد الدولة هذه القيمة بصرف النظر عن قيمة العقد، قاد هذا التجميد للكتل المالية الكثيرين للتخلي عن العقود واتخاذ مسار قضائي يقود لحكم محكمة.

وتشرح المحامية وفاء، الأستاذة في فرع نقابة المحاميين بدمشق، قائلة: "كان اللجوء لتثبيت العقار بحكم محكمة استثنائيا، كعقار قبل الفرز أو مملوك من وارثين، لكن بعد قرار القيمة الرائجة أصبح الطريق الأساسي لتفادي المبالغ الكبيرة التي تحصلها الدولة، هناك قيم رائجة أعلى من القيمة الفعلية لبعض العقارات، ويتعلق هذا بالفساد إذ يضطر الملاك إلى دفع الرشى مقابل تقييم عقاراتهم بقيمة رائجة أقل ظلما".

وتقول المحامية للجزيرة نت عن عواقب هذا المسلك: "سيشمل الضرر السجل العقاري والمحاكم المختصة، فتزداد إشكاليات العقارات ويكثر تعقيدها، ويتحول السجل إلى إشارات دعاوى قضائية وبيوع غير مسجلة، ومع التراكم يُفتح الباب لضياع الحقوق. أيضا يتحول دور المحكمة من حل الخصومات إلى مكان لتسجيل البيوع".

ركود السوق

ونقلت صحيفة الوطن السورية عن خبير الاقتصاد الهندسي محمد الجلالي أن هناك ركودا في السوق العقارية وبطئا في حركة البناء، مضيفا أن أسعار العقارات انخفضت مقارنة مع تضخم بقية السلع.

ويفسر نديم أسباب الركود قائلا: "أهم الأسباب ضعف القوة الشرائية، وبطء حركة البناء يؤدي للركود، فعند تعطل الإكساء، بسبب ارتفاع أسعار المواد، يتريث المالك لتجنب الخسارة بسبب هبوط العملة المستمر".

الحلول الممكنة

ومنذ صدور القانون رقم 10 لعام 2018 تزداد المخاوف التي يعبر عنها ناشطون وحقوقيون إزاء الملكية العقارية في البلاد، وبحسب ورقة قانونية أصدرتها منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" فإن القانون لا يتضمن الحد الأدنى المطلوب لحماية حقوق الملاك، وهو دليل إضافي على الإجحاف في استعمال الحق للحكومة، مما يجعله أداة مستمرة للمصادرة التعسفية للأملاك.

وتقول المحامية وفاء عن ضرورة وضع قانون تملُك عادل، فالتملك أمر موجود حول العالم وقد يكون للصالح العام، لكن ضمن بدلات عادلة، أما القانون الحالي جائر جدا، على حد قولها.

وتضيف في تعليق للجزيرة نت: "يتطلب الوصول لسوق عقاري منظم عملا ضخما على مستوى الدولة، بداية مع ترميم الوثائق التالفة، فرغم صدور قانون بهذا الصدد فإنه غير مفعل، وقد تعرضت كثير من السجلات للتلف وهي غير مؤتمتة. والعامل الأهم أن الفساد متغلغل في كل مفاصل العمل مع أجهزة الدولة، وهناك تلاعب مهول في مجال العقارات، لذلك سن القوانين لن يحمي حقوق الناس بهذا الوضع".

من جانبه، يرى نديم أن العمل بشكل قانوني خاسر، فالحكومة تشارك الربح ولا تشارك الخسارة، فارضة شروطا معقدة، وتُجبِرُ على تجميد الأموال بالإضافة إلى الضرائب الكبيرة، لذا تبرز الحاجة إلى قوانين عادلة، ووضع آلية تقييم محددة تضبط للأسعار بما يتناسب مع تكاليف الإنشاء، على العكس من ثقافة السوق الشعبية، السائدة حاليا، التي تعتمد المعارف والثقة وتجاوب أطراف البيع مع بعضهم ومع شروط العرض والطلب.

ويؤكد أن هناك فقدانا للثقة بالمكاتب العقارية وحتى العروض المتداولة عبر الإنترنت، فهي تهدف في الغالب لرفع الأسعار بشكل وهمي.

ويترنح سوق العقارات السوري بين ثغرات قانونية، تكاد تكون ممرات إجبارية فرضتها سياسات الجباية للنظام، وبمعزل عن الاستفادة الاقتصادية التي يحققها من المواطنين لدى كل مفترق، يُلاحظ التسيير نحو الفوضى في ظل تعليمات قانونية غير مأمونة الجانب، مع تخلي جل السكان عن طموح امتلاك منزل في العاصمة التي بلغ سعر القبر فيها 150 مليون ليرة (11 ألف دولار)، بينما يرزح 90% من السكان تحت خط الفقر بحسب لجنة الصليب الأحمر الدولية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات

إقرأ أيضاً:

ساير والثورة في النماذج الاقتصادية... هل نحن أمام نظام مالي جديد؟

نشر موقع " شيناري إيكونومتشي" تقريرا سلّط فيه الضوء على فشل النماذج الاقتصادية التقليدية "دي إس جي إي" في التنبؤ بالأزمات المالية، إذ تفترض أن البنوك المركزية تتحكم في المعروض النقدي، بينما الواقع يُظهر أن 90% من الأموال تُخلق عبر القروض البنكية الخاصة، ما يجعل النظام المالي أكثر هشاشة وأقل قدرة على الاستجابة للصدمات.

وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن النماذج الاقتصادية التقليدية تفترض، وجود نظام نقدي تسيطر فيه البنوك المركزية بشكل كامل على عرض النقود من خلال أدوات مثل أسعار الفائدة، وإن هذه الفرضية ليس لها أي أساس من الصحة، إذ إن العرض النقدي الإجمالي اليوم هو بنسبة 90% نتيجة لنشاط الإقراض الذي تقوم به البنوك الخاصة، وهو مستقل تقريبًا عن البنك المركزي.


ومع ذلك، فإنه من خلال دمج النماذج الاقتصادية التقليدية مع المستجدات في مجال العملة المالية التي أنشأتها المبادرة الاقتصادية الإيطالية للإصلاح النظام النقدي "مونيطا بوزيتيفا" من خلال "ساير" (النظام المتكامل للادخار الحكومي)، سيأخذ النظام النقدي شكلًا مختلفًا جذريًا:

1- سيتم إنشاء النظام المتكامل للادخار الحكومي"ساير" مباشرة من قبل الدولة، دون أي ديون مرتبطة به. وهذا الإصدار النقدي سيؤدي تدريجيًا بمرور الوقت إلى تقليل آلية إنشاء النقود القائمة على الدين، والتي تميز النظام المصرفي الحالي.

2- لن يكون النظام المصرفي التقليدي بعد الآن هو الجهة التي تنشئ الغالبية العظمى من النقود الموجودة في النظام الاقتصادي من خلال الائتمان، بل سيعمل في منافسة مع "ساير" الذي يتم إنشاؤه من قبل الدولة.

وأوضح الموقع أنه لدمج "ساير" في النماذج الاقتصادية التقليدية، فسيكون من الضروري إعادة تصميم آلية الإصدار المباشر للنقود: إدخال عنصر "الدولة" كوكيل اقتصادي يقوم بإصدار النقود وفقًا لاحتياجات الاقتصاد، دون توليد ديون. ويتطلب ذلك إعادة صياغة معادلات عرض النقود بحيث تعكس الواقع بشكل أكثر دقة.


إن إعداد آلية إدارة لـ"ساير" يتم تمثيلها كوحدة تنظم عرض النقود استنادًا إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل الرفاهية العادلة والمستدامة "بي إي إس"، ومستويات التوظيف، والتضخم، كي تعمل كأداة استقرار تلقائي.

وأشار الموقع إلى أنه في النماذج الاقتصادية التقليدية، تعكس معادلات التوازن المالي للوكلاء الاقتصاديين (الأسر، الشركات، الدولة) التفاعلات بين الادخار والاستثمار والديون، ومع إدخال "ساير" و"مونيطا بوزيتيفا" سيتوجب إعادة النظر في هذه المعادلات مع الأخذ في الاعتبار ما يأتي:

1- التأثير على الدين العام: من خلال إصدار "ساير"، ستقوم الدولة تدريجيًا بتقليل إصدار السندات الحكومية في السوق، ما سيؤدي إلى تغيير جذري في ديناميكيات وإدارة الموازنة العامة.

2- إدخال متغير جديد عبر "ساير":
يوفّر "ساير" آلية حقيقية لحماية الادخار الخاص، وفقًا لما ينص عليه الدستور الإيطالي في المادة 47، من خلال عزله عن التقلبات والمضاربات السوقية. هذا المتغير سيؤثر بشكل مباشر على قرارات الإنفاق العام وإعادة التوزيع، ليصبح عنصرًا أساسيًا في استقرار الاقتصاد.

في النماذج الجديدة للنماذج الاقتصادية التقليدية سيكون من الضروري تحليل التأثيرات التي ستنتج عن السياسات الاقتصادية الجديدة المستندة إلى عمل "ساير"، خاصة في حالة حدوث صدمات اقتصادية.
في الواقع، في حالة:

صدمة في الطلب: إذا حدث انخفاض في الطلب الكلي، فإنه يمكن لـ"ساير" تنشيط استثمارات عامة جديدة لتحفيز الاقتصاد، ما يساهم في تخفيف الآثار السلبية لهذه الصدمة.

سياسات مالية مضادة للدورات الاقتصادية: يتيح "ساير" اختبار سياسات مالية تلقائية تقلل من الحاجة إلى التدخلات الاستثنائية، ما يحسن سرعة الاستجابة الاقتصادية.

التحكم في التضخم والانكماش: يمكن ضبط عرض النقود مباشرة عبر "ساير" لدراسة تأثيره على التضخم واستقرار الأسعار، ما يوفر رؤى جديدة حول إدارة السياسة النقدية.

أزمة الائتمان: في حال حدوث انخفاض في الإقراض للقطاع الخاص، يمكن لـ"ساير" أن يتيح تقديم قروض جديدة مباشرة به، أو استخدامه كضمان للحصول على تمويل من النظام المصرفي التقليدي.

وذكر الموقع أن دمج "ساير" في النماذج الاقتصادية التقليدية سيفتح المجال أمام عمليات محاكاة وسيناريوهات جديدة، يمكنها أن تُبرز الإمكانات الهائلة لهذه الأداة. فهي تتيح لكل دولة إمكانية اتباع سياسة اقتصادية مستقلة، بعيدًا عن القيود والتدخلات الخارجية.

من خلال "ساير" وتبنّي الرفاهية العادلة والمستدامة، سيصبح النظام الاقتصادي:

أكثر استقرارًا: حيث ستنخفض كمية الائتمان المصرفي داخل النظام، ما يقلل من مخاطر الأزمات المالية.

أكثر كفاءة من حيث النمو المتوازن والمستدام: وذلك بفضل تفضيل الإنفاق على الاستثمارات بدلًا من الإنفاق الذي يؤدي فقط إلى الاستهلاك أو المضاربات.

أكثر تجانسًا: إذ سيساهم في تصحيح الفجوات الاجتماعية الكبيرة التي تفاقمت خلال الأربعين عامًا الماضية، ما يجعل النمو الاقتصادي أكثر عدالة وشمولية.

وبذلك يُعد دمج النظام المتكامل للادخار الحكومي (ساير) في النماذج الاقتصادية التقليدية فرصة مثيرة لاستكشاف آثار نظام نقدي بديل قائم على "مونيطا بوزيتيفا".

واختتم الموقع تقريره بالتأكيد على أن هذا يتطلب مراجعة جذرية للأسس النظرية للنماذج الاقتصادية التقليدية وتكييف هياكلها بحيث تستوعب مفاهيم جوهرية، مثل الإصدار المباشر للنقود من قبل الدولة دون توليد ديون. ومع ذلك، فإن هذا الجهد سيفتح المجال لنقاش تقني معمّق حول الإمكانات الحقيقية للنقدية الضريبية وكيفية تفاعلها مع النظام الاقتصادي ككل.

مقالات مشابهة

  • مقامرة ترامب التي ستضع الدولار في خطر
  • ساير والثورة في النماذج الاقتصادية... هل نحن أمام نظام مالي جديد؟
  • اين سوريا اليوم من النموذج الإنساني لنيلسون مانديلا و الترفع عن الثأر
  • الذكرى الرابعة عشر للثورة.. سوريا بدون نظام الأسد
  • نائب: هناك معوقات تصعب نقل الملكية..ولابد من حلول للتسجيل ووقف البيع بالتوكيل
  • فيبي فوزي: تيسير إجراءات تسجيل العقارات يحسن ترتيب مصر في مؤشر حقوق الملكية العالمي
  • أبو شقة يشدد على ضرورة حماية الملكية الخاصة وتيسير إجراءات تسجيل العقارات
  • مجلس الشيوخ يناقش حماية الملكية الخاصة وإجراءات تسجيل العقارات
  • الأمم المتحدة: سوريا تدخل مرحلة جديدة بعد 14 عامًا من الصراع
  • محافظة الإسكندرية تكشف تفاصيل أعمال حفر داخل أحدي العقارات بمنطقة كرموز بحي غرب