دوافع أردوغان للتقارب مع الأسد..
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
بقلم: د.حامد محمود
مستشار منتدى الشرق الأوسط للدراسات الأمنية والسياسية
القاهرة (زمان التركية)- ليست محاولات المصالحة والتطبيع بين أنقرة ودمشق جديدة، بل هي مستمرة منذ حدوث أهم اختراق في هذه العلاقات خريف عام 2022 من خلال لقاء خاص جمع رئيس المخابرات التركية –حينها- هاكان فيدان مع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك في دمشق، وما تبعه من دعوة الرئيس أردوغان نظيره الأسد إلى اللقاء على هامش قمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في سبتمبر 2022.
لكن هذا المسار تعرض لعراقيل عدة أدت إلى تجميده بسبب تعنت الطرفين وتمسكهما بشروطهما، وبسبب عدم جدية أنقرة حينها في هذا المسار الذي كانت تَعتبره مجرد ورقة تساوم بها موسكو أو تسترضيها بها.
لكن عودة الحديث حالياً عن تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة يحمل طابعاً جدياً أكثر، وله دوافع تركية مختلفة عن التجارب السابقة وفي ظروف إقليمية مختلفة، ما يدفع إلى رفع احتمالات تحقيق اختراق مهم في العلاقة بين البلدين. ومن هنا فإن من المهم فهم المتغيرات في الدوافع التركية للظهور بصورة المندفع هذه المرة نحو التطبيع مع دمشق، والحريص ليس على تحسين العلاقات فقط بل أيضاً على إيصال العلاقات بين البلدين “إلى ما كانت عليه قبل عام 2011 من علاقات طيبة”، وفق توصيف أردوغان نفسه.
الدوافع التركية بين الثابت والمتغير
تجاوبت أنقرة مع الطلبات الروسية والتحفيز الخليجي عام 2022 من أجل تطبيع العلاقات مع دمشق، وكانت جهود رئيس المخابرات التركية وقتها، هاكان فيدان، جادة في تلك الفترة، لكنْ مع تعليمات من الرئيس أردوغان بعدم تقديم أي تنازلات للطرف السوري، وأن يظهر الجهد التركي للتقارب من أجل “إرضاء” موسكو والدول الخليجية التي راهن أردوغان للحصول على مساعداتها المالية في الانتخابات الرئاسية صيف 2023، وهو ما حصل.
لذلك انقطعت هذه الجهود التي اعتُبرت من قبل أنقرة “محاولةً تكتيكية” لا ضير إن نجحت ولكن لا يمكن تقديم تنازلات جدية من أجل إنجاحها، لأن “مصالح تركيا الأمنية” لا تسمح بذلك، ولأن الطرف السوري -بنظر أنقرة حينها- أي الرئيس الأسد، لا يملك ما يمكن أن يقدمه لتركيا بسبب ضعف قواته وهيمنة التدخلات الإيرانية على المشهد الميداني العسكري.
لكن هذه الظروف الميدانية والإقليمية، تغيرت خلال الأشهر العشرة الماضية، وكذلك تغيرت نظرة أنقرة إلى المصالحة مع دمشق من “محاولة تكتيكية” إلى ضرورة استراتيجية وملحة، وهنا نستعرض هذه التغيرات والدوافع الجديدة:
أولاً، حرب غزة والصراع الإيراني-الإسرائيلي: حاولت أنقرة الدخول على خط التهدئة في غزة منذ أول يوم من الحرب، من خلال طرحها فكرة إرسال قوات تركية ومصرية إلى غزة، لكن هذه الفكرة لم تلقَ قبولاً من أي من الأطراف المعنية حينها. كما حاولت أنقرة إيجاد طريقة للتأثير في مسار المفاوضات أو الوساطة بين “حماس” وإسرائيل، من خلال الحديث مباشرة إلى قيادات “حماس” السياسية في قطر، والضغط على تل أبيب للسماح بإرسال مساعدات إغاثية أكبر إلى غزة، لكن كلا الأمرين لم يحققا أي نتيجة وبقيت تركيا على هامش مسار الأحداث في غزة. ومع توسع التطورات إلى صدام مباشر بين طهران وتل أبيب، فإن أنقرة باتت قلقة من تداعيات ذلك، وأن الأمر: إما سيؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية ستدفع إيران إلى إرسال المزيد من ميليشياتها إلى سوريا للقتال، وبالتالي سيطرة إيرانية شبه كاملة على الأراضي السورية، وهو ما يشكل خطراً استراتيجياً بالنسبة لتركيا التي ترفض مسألة تشكيل أو إقامة طهران “لممر بري لقواتها وميليشياتها يبدأ من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان”؛ وإما سيؤدي إلى صفقة إقليمية كبيرة بين طهران وكلٍّ من واشنطن وتل أبيب، وستكون هذه الصفقة على حساب المصالح التركية في المنطقة، وخصوصاً في سوريا التي ستشملها تلك الصفقة. وعليه، فإن توسيع الحرب لتصل إلى تصادم مباشر بين إيران وإسرائيل مع هذين الاحتمالين، دفع أنقرة إلى التحرك سريعاً، من أجل “تحييد” الساحة السورية عن هذين الاحتمالين، من خلال الدخول في علاقات جيدة بل قوية مع دمشق، والانخراط عبر البوابة السورية في التطورات المستقبلية التي ستحدد مصير المنطقة. ويمكن القول هنا إن هذا الأمر تشترك فيه أنقرة مع كلٍّ من الإمارات والسعودية اللتين سعتا مؤخرا إلى تطوير العلاقات مع دمشق بهدف السعي لتحييد الساحة السورية عن أي صراع إقليمي. (برز مؤخراً أيضاً توجه بين بعض دول الاتحاد الأوروبي للانفتاح على دمشق لنفس السبب، وقامت إيطاليا بتعيين سفير لها في دمشق).
ثانياً، موقف الرئيس الأسد من الحرب في غزة: كان هذا عاملاً مفاجئاً لتركيا، فقد اتخذ الرئيس الأسد أو دمشق موقفاً حيادياً تجاه حرب غزة، إلى حد السكوت عن استهداف قيادات عسكرية إيرانية على الأرض السورية في سياق حرب غزة. هذا الموقف الثابت للرئيس الأسد، دفع أنقرة إلى إعادة التفكير وتقييم دور الأسد مستقبلاً، وأنه يمكن أن يكون له “كلمة” في مستقبل سوريا ولو على المدى المنظور، وأنه يمكن الاعتماد على التزامه بما يمكن الاتفاق عليه معه، وترك التصور التركي السابق بأن الأسد عاجز تماماً عن اتخاذ أي موقف قوي أو حقيقي.
ثالثاً، احتمال فَدْرلة الشمال السوري: دعت “الإدارة الذاتية في شمال سوريا” في مايو الماضي إلى استفتاء على “التنظيم الإداري”، وهو ما يعني إقامة حكم فدرالي إداري في شمال شرقي سوريا الخاضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من قبل واشنطن، والتي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً كردياً. تم تأجيل موعد هذا الاستفتاء إلى أجل غير مسمى، بعد تهديد تركيا بالتدخل العسكري، وطلب أمريكي من “قسد” بتأجيل هذه الخطوة حينها. لكن الفكرة بحد ذاتها أقلقت أنقرة ليس فقط من احتمال إجراء هذا الاستفتاء مستقبلاً بدعم أمريكي، وإنما –وقد يكون الأصعب والأكثر خطورة- أن يتم إجراء هذا الاستفتاء ضمن صفقة مع دمشق بدعم روسي مستقبلاً، وهو ما سينسف أي محاولة للتدخل التركي حينها ولو عسكرياً، بسبب موافقة دمشق على هذا الاستفتاء بطريقة ما. وهو ما دفع أنقرة إلى التنبه لضرورة تحسين العلاقات بأسرع ما يمكن مع دمشق من أجل منع هذا الاحتمال، ومن أجل التأكيد على أن أي استفتاء يجرى في شمال سوريا -ولو بدعم من واشنطن- لن يكون دستورياً أو ذا مصداقية وشرعية.
رابعاً، زيادة احتمالات وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة في انتخابات نوفمبر المقبل، وهو الذي سيسعى –على الأغلب– إلى سحب قواته من شمال سوريا ومن العراق، لكنه يرفض أيضاً التدخل العسكري التركي ضد “قسد” في سوريا، لذا فإن أنقرة أدركت أن عليها التحرك سريعاً لمواجهة هذا السيناريو من خلال اتخاذ خطوات استباقية باتجاه دمشق قبل حسم الانتخابات الأمريكية. وهنا يمكن ملاحظة أن أول تصريح للرئيس أردوغان –بين تصريحاته الثلاثة القوية عن طلب التقارب مع دمشق- جاء بعد يوم واحد فقط من المناظرة الرئاسية التي جرت بين بايدن وترامب في 27 يونيو، والتي ظهر خلالها فوز ترامب القوي والحاسم.
هذه هي أهم المتغيرات التي حصلت خلال الأشهر العشرة الماضية، والتي دفعت أنقرة إلى تغيير موقفها والعمل بجدية وبسرعة من أجل التطبيع مع دمشق وعقد لقاء بين الرئيسَين اردوغان والأسد. أما الحديث عن ملف اللاجئين السوريين ومشاكلهم التي بدأت تزداد مؤخراً في تركيا وشمال سوريا، فهو ملف جانبي وتأثيره محدود، بسبب علم أنقرة أنه لا مجال لعودة اللاجئين إلى سوريا حتى لو تم تطبيع العلاقات معها بسبب الظروف السياسية والاقتصادية هناك.
المطالب التركية والتصور لمسار التطبيع
تفاجأت أنقرة بالرد السوري على طلبات الرئيس أردوغان المتكررة للقاء الرئيس الأسد، وببيان وزارة الخارجية السورية الذي قدم شروطاً لحدوث اللقاء بدلاً من إبداء الترحيب والتعاون بالدرجة نفسها، وبدا واضحاً في الأوساط الداخلية التركية انزعاج أردوغان من الرد السوري بتعليقه على الموضوع خلال اجتماع قمة حلف “الناتو” في واشنطن بقوله “لقد كلّفت وزير خارجيّتي بالاجتماع مع الرئيس الأسد”، دون أن يعني ذلك تراجعاً في مساعي التطبيع. ويبدو أن الرئيس أردوغان توقع تجاوباً من دمشق على دعواته، لذلك أسهب في الحديث عن العلاقات الشخصية مع الأسد وعائلته في تصريحاته.
وتعتقد أنقرة أن موسكو قد دخلت على خط الضغط على الأسد من أجل دفع مسار التطبيع مع أنقرة، بعد اللقاء المفاجئ الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بالرئيس بشار الأسد في موسكو في 24 يوليو، والذي لم يُعلن عنه سابقاً ولم يصحب الأسد في تلك الرحلة أي وفد رسمي ولم يحضره حتى سفير سوريا في موسكو، في إشارات دبلوماسية واضحة إلى انزعاج موسكو من الرئيس الأسد بسبب عرقلته مسار التطبيع مع تركيا.
هنا يمكن إدراج ملاحظة بأن الرئيس الأسد ربما يطلب ثمناً سياسياً لقاء التقارب مع تركيا الذي تحض عليه موسكو والدول الخليجية، مثل تطويع أنقرة المعارضة السورية باتجاه التنازل عن الكثير من مطالبها ومقررات قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، وهو ما قد يُفهم من لقاء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع قيادات “المعارضة السورية في أنقرة ” في 9 أغسطس، حيث أصدرت الخارجية بياناً احتوى لأول مرة على مصطلح “ضرورة التفاوض الهادف والواقعي” مع دمشق. كذلك من المتوقع أن يطلب الرئيس الأسد “ضمانات” بضخ أموال لإعادة الإعمار في سوريا بعد هذه المصالحة. كل ذلك إلى جانب ما تُعلنه دمشق من شروط للقاء -بحسب بيان وزارة الخارجية المشار إليه أعلاه- وهو انسحاب الجيش التركي من شمال سوريا والعمل معاً ضد الجماعات الإرهابية، ومنها المعارضة السورية المسلحة وفق مفهوم دمشق.
لكنْ من وجهة النظر التركية فإن الأمل معقود على مسار معاكس لما تطرحه دمشق، أي مسار يبدأ من قمة الهرم السياسي بلقاء الرئيسَين، ليعقب ذلك لقاءات أوسع وأكثر على المستوى الوزاري والأمني لاحقاً. وما تطرحه أنقرة يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
التركيز أولاً وعاجلاً على تعاون أنقرة ودمشق في تقويض حكم الإدارة الذاتية الخاضعة لـ”قسد”، من أجل تسليم تلك المناطق إلى حكم دمشق، وكسر أي احتمال بقيام حكم فدرالي هناك. ويمكن لتركيا بعدها ضرب مسلحي “قسد” في عدة مناطق، مستفيدةً من اتفاقية أضنة الأمنية الموقعة مع سوريا عام 1998.
في مقابل ذلك، ستتخلى تركيا تدريجياً عن وجودها العسكري في شمال سوريا من أجل إخضاع تلك المناطق لحكم دمشق تماماً، مثل مناطق الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا.
في هذه المرحلة، ستتحدث تركيا عن ضرورة التقدم في مسار الحل السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة، وعقد لقاءات بين دمشق والمعارضة السورية، لكن ذلك سيكون هدفه فقط تخفيف الغضب والقلق لدى اللاجئين السوريين والمعارضة السورية، لكن ما يهم أنقرة هنا أن يكون هناك غطاء سياسي لمفاوضات -حتى لو طالت ولم تحقق شيئاً- خلال فترة تسليم مناطق الشمال السوري لحكم دمشق.
ستطرح تركيا من جديد تعاونا أمنياً وعسكرياً مع سوريا بوساطة روسية، ليس من أجل محاربة الإرهاب وحماية الحدود فحسب، بل أيضاً من أجل إعادة بناء الجيش السوري كي يتمكن من السيطرة فعلاً على كامل أراضيه، مع اقتراح دمج المجموعات السورية المعارضة المسلحة في الجيش السوري الرسمي.
تطرح تركيا أيضاً في مقابل ذلك تقديم الدعم الاقتصادي والتجاري والانخراط في إعادة الإعمار من أجل توفير وضع اقتصادي يساعد الجيش السوري على تولي مهامه في عموم سوريا وعودة الحياة واللاجئين إليها بالتدريج. ويمكن فهم ذلك من تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لقناة “سكاي نيوز عربية” حين قال “يجب إعادة النفط ومصادر الطاقة إلى الشعب السوري”، وهو هنا يقصد آبار النفط والغاز والسدود في مناطق الحكم الذاتي التي يسيطر عليها الأكراد.
ونهاية فانه يمكن القول بأن مساعي أنقرة للتقارب مع دمشق تبدو هذه المرة أكثر جدية وأكثر إلحاحاً من محاولة عام 2022 التي كانت أقرب إلى “تكتيك سياسي” منها إلى سعي حقيقي للتقارب، وكان للتطورات الإقليمية في الأشهر العشرة الماضية، منذ اندلاع حرب غزة في 7 أكتوب 2023، دور مهم في دفع أنقرة إلى التعجل بالتقارب مع دمشق، مع ميلها إلى تقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بوجودها العسكري في شمال سوريا ودعمها المعارضة السورية.
ويُرجَّح أن يلتقي الرئيسان أردوغان والأسد في دولة ثالثة (روسيا أو العراق) قبل نهاية العام الجاري، وربما قبل إجراء الانتخابات الأمريكية من أجل عزل هذا المسار عن أي نتائج محتملة لتلك الانتخابات. ولا يُعتقد أن اللقاء سيشهد توقيعاً لاتفاق شامل بخصوص القضايا محل الخلاف التي تعوق تطبيع العلاقات بين البلدين، بل إنه سيأتي -على الأغلب- بعد توصل الطرفين -عبر اجتماعات اللجان الوزارية والأمنية- إلى توافقات أولية حول هذه القضايا، أو ربما خريطة طريق لحلها. وعدا عن المكاسب التي يمكن لدمشق أن تحققها من التقارب مع أنقرة، فإن هذا التقارب سيُعزز توجهات الانفتاح الإقليمي والدولي على دمشق، كما رأينا مؤخراً في دعم ثماني دول من الاتحاد الأوروبي التقارب مع دمشق.
Tags: أردوغانبشار الأسدسوريا وتركياالمصدر: جريدة زمان التركية
كلمات دلالية: أردوغان بشار الأسد سوريا وتركيا المعارضة السوریة تطبیع العلاقات الرئیس أردوغان هذا الاستفتاء فی شمال سوریا الرئیس الأسد هاکان فیدان التقارب مع التطبیع مع حرب غزة من خلال مع دمشق وهو ما من أجل
إقرأ أيضاً:
ماذا وراء إفراج دمشق عن مسؤولين بنظام الأسد؟
في الوقت الذي يطالب فيه السوريون بتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتورطين بجرائم الحرب والانتهاكات بحق أبناء الشعب السوري، لا تزال الإدارة السورية الجديدة تتبع نهجا حذرا في إقرار آليات واضحة للعدالة الانتقالية.
وفي حين تتوالى إعلانات الأمن العام القبض على عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين المتهمين بارتكاب جرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، أطلقت خلال الأشهر الماضية سراح عددٍ منهم أو أبرمت تسويات معهم.
ويشير المنتقدون إلى أن هذه الإفراجات لم تُسبق بأي خطوات قضائية معلنة، ولم تتبعها تبريرات رسمية.
ويعد فادي صقر أحد قادة مليشيا الدفاع الوطني من أبرز الأسماء التي أفرج عنها النظام، إضافة إلى محمد حمشو الذي يعد الذراع الاقتصادية للرئيس المخلوع، واللواء طلال مخلوف القائد السابق في الحرس الجمهوري، الذي ظهر في أحد مراكز التسويات.
كما تفاجأ السوريون بظهور وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية بعد أيام من تسليم نفسه للأمن العام، دون معرفة ما إذا كان قد أطلق سراحه.
وترى شريحة واسعة من السوريين أن إطلاق سراح هذه الشخصيات يمثل نكسة للعدالة، ويعيد إنتاج ثقافة الإفلات من العقاب التي اتهم بها النظام المخلوع.
إعلانويتساءل آخرون هل هذه المصالحات ضرورة أمنية أم تسوية سياسية على حساب دماء الضحايا؟ وما الذي يدفع الحكومة الجديدة لتجاوز المحاسبة في مرحلة يفترض أنها تأسيس لدولة العدالة والقانون؟
رغم تأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مؤتمر النصر أنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر عفواً عمن ارتكب جرائم منظمة، وأن الحكومة مستمرة بملاحقة "الرؤوس الكبيرة المجرمة"، فإن غياب المحاكمات العادلة لرموز النظام، وعدم وجود مسار واضح لتطبيق "العدالة الانتقالية" لحد الآن رغم النص عليه في الإعلان الدستوري، أدى إلى تعاظم مشاعر النقمة بين السوريين الذين فقدوا أحباءهم وتعرضوا لانتهاكات جسيمة، مما يفتح الباب واسعا لعمليات الثأر الفردي.
ويحذر مراقبون من أن سياسات العفو إن لم تقترن بمحاسبة ومكاشفة قد تتحول إلى شرارة جديدة لصراعات داخل المجتمع، مما يسهم في تقويض جهود المصالحة الوطنية، خصوصاً في مناطق لا تزال تعاني من انقسامات عميقة نتيجة لسنوات من العنف والانتهاكات.
وفي هذا السياق، كشف معهد دراسة الحرب في واشنطن، عن تصاعد لافت في وتيرة العمليات التي تنفذها مجموعات معارضة سابقة ضد عناصر من نظام بشار الأسد، في ما وصفه المعهد بـ"العدالة الانتقامية"، وذلك رداً على فشل الحكومة الانتقالية السورية في محاكمة ومحاسبة المتورطين في جرائم بحق السوريين.
ووفق التقرير الصادر في 21 أبريل/نيسان الجاري، شكّل مقاتلون معارضون سابقون في مدينة حلب "قوة مهام خاصة" هدفها اغتيال عناصر من النظام السابق، وبدأت هذه القوة بتعقبهم في أنحاء من المحافظة.
ويذكر التقرير عدداً من عمليات الانتقام منها ما وقع في محافظة حمص، عندما أقدم مقاتل (معارض سابق) في 20 أبريل/ نيسان الجاري على قتل قناص من جيش النظام، قال إنه تسبب بمقتل أفراد من عائلته خلال سنوات الحرب، حيث ذكر المقاتل أنه قدّم سابقاً شكوى رسمية ضد القناص، لكن تجاهل السلطات لقضيته دفعه لـ"أخذ العدالة" بيده.
إعلانويشير المعهد إلى أن هذه العمليات -مهما كانت دوافعها- تعكس غياب آليات العدالة الانتقالية، وتؤكد أن تجاهل ملفات المحاسبة يعيد إنتاج دائرة العنف.
وفي 11 يناير/كانون الثاني الماضي تداول ناشطون صوراً لإعدام ميداني بحق مختار حي دمر بدمشق مازن كنينة، المتهم بالتعاون مع سرية المداهمة 215 المسؤولة عن اعتقال وقتل العشرات، إلا أن وكالة الصحافة الفرنسية ذكرت أنها لم تتمكن من التحقق من صحة الصورة والمقطع بشكل منفصل.
أولويات داخلية
يبدو واضحا من خلال مراقبة تعامل الحكومة السورية مع ملف أتباع النظام المخلوع أنها تعمل على تحقيق توازن دقيق بين ضرورات العدالة من جهة، ومتطلبات الاستقرار الأمني والاجتماعي في المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا من جهة أخرى.
وبناء على ذلك، يرى مراقبون أن إطلاق سراح بعض الشخصيات، لا يعكس تجاهلاً لجرائم المرحلة السابقة بقدر ما يعبر عن محاولة لاحتواء التوترات الداخلية.
وتعليقاً على ما سبق، يوضح الباحث في مركز الحوار السوري نورس العبد الله، أن النهج العام للسلطة حالياً يتوجه نحو تحقيق الاستقرار، وتقديم أولويات القضايا الحالية على معالجة انتهاكات النظام المخلوع.
وتتمثل دوافع الحكومة السورية لاتباع هذه السياسة -بحسب حديث العبد الله للجزيرة نت- في معالجة المناطق الملتهبة والشرائح الاجتماعية التي كانت حاضنة للنظام، مما يشجع مسلحي نظام الأسد، كتلاً وأفراداً، على ترك السلاح وتسليمه، ويساعد على حقن الدماء مقابل عدم الملاحقة.
ويستدرك العبد الله أن هذا النهج قد يكون مفهوماً ومقدراً من قبل السوريين بشرط أن يستثني المسؤولين عن الجرائم الكبيرة والانتهاكات الجسيمة، وأن يكون مؤقتاً لحين البدء بمسار العدالة الانتقالية.
من ناحيته، أفاد مصدر سياسي خاص في دمشق للجزيرة نت بأن غاية الحكومة من كل هذه الإجراءات هو تثبيت أركان الحكم في هذه المرحلة، وبحسب المصدر فإن الشرع شدد في لقاءته على أهمية إعطاء الأمان لرؤوس الأموال الكبيرة التي كانت مؤيدة للنظام في سبيل تشجيعها لمتابعة عملها مقابل دعم الدولة بنسبة معينة.
إعلانوأضاف المصدر أن العفو عن بعض الشخصيات الكبيرة جاء في سياق سعي الحكومة لاستقطاب الحاضنة الشعبية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، لترسيخ دعائم السلم الأهلي.
وكان الرئيس الشرع أوضح في تصريحات سابقة أن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، مضيفاً "إن فرطنا في حقوق الناس، فهذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع".
لا تقتصر حسابات العفو عن بعض رموز النظام المخلوع على التوازنات الداخلية فقط، إذ يرى مراقبون أنها تحمل رسائل خارجية أيضاً، تسعى من خلالها الحكومة إلى تقديم نفسها للعالم كدولة تتجنب سياسات الانتقام وتحترم مبادئ العدالة الانتقالية من جهة، وتعكس صورة سوريا الجديدة البعيدة عن أن تكون نسخة عن ممارسات النظام السابق من جهة أخرى.
وبعد سقوط النظام، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عفواً عاما عن جميع العسكريين المجندين في صفوف قوات النظام، إلى جانب إنشاء "مراكز تسوية" في جميع المحافظات لتسليم الأسلحة وتسوية أوضاعهم، بشرط عدم تورطهم في مجازر أو جرائم حرب.
وفي هذا السياق، يرى عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، إسماعيل الخلفان، أنه بالإضافة إلى سعي الحكومة لكسب كل أطياف الشعب السوري من خلال حالات العفو عن بعض رموز النظام، فإن هذه الإجراءات تحمل رسائل سياسية خارجية، تخاطب من خلالها المجتمع الدولي.
وتستخدم سياسة العفو هذه، بحسب حديث الخلفان للجزيرة نت، كأداة دبلوماسية لتقديم الحكومة الجديدة كسلطة مسؤولة ومتسامحة مع كل فئات وطوائف المجتمع السوري، مما يعزز جهودها في الحصول على الدعم وتوسيع الاعتراف الدولي بها.
إعلانوينفي الخلفان وجود أي ضغوط دولية في هذا المجال بشكل رسمي، لأن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم ومسؤولون عن انتهاكات، "لكن ربما يكون هناك مطالبات بشكل غير مباشر من بعض الأطراف لتقصي الحقائق وتهدئة الوضع، والتريث بالمحاسبة ليس إلا".
ومنذ سقوط النظام، تكررت مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية لتحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، إذ أكد رئيس لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا باولو بينيرو أن اللجنة مستعدة للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة لملاحقة مرتكبي الجرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ومحاكمتهم أمام القضاء الدولي.
وأضاف، في مقابلة صحفية في 11 يناير/كانون الثاني، أن هناك آلافا من مرتكبي الجرائم في عهد الأسد يجب محاسبتهم.
من ناحيته، قال المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، في إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 فبراير/ شباط الماضي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، وأشار المبعوث الأممي إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.
معوقات في طريق العدالةرغم المطالبات الشعبية بمحاكمة رموز النظام المخلوع وأتباعه من المتورطين في الانتهاكات والجرائم، فإن خبراء قانونيين يشيرون إلى وجود عقبات تواجه سوريا الجديدة في طريق تحقيق العدالة خلال هذه المرحلة، وتتمثل هذه العقبات بغياب المؤسسات القضائية المستقلة، وافتقار المنظومة القانونية إلى بنية متماسكة وموثوقة.
وفي حديثه للجزيرة نت يلخص المحامي والباحث في القانون الدولي، محمد الحربلية، هذه التحديات بالنقاط التالية:
فساد المنظومة القضائية، إذ لا يخفى على السوريين أن المحاكم الوطنية كانت أدوات في يد أجهزة الأمن لشرعنة جرائمها بحق السوريين، ولذلك فإن هذه المنظومة لا يمكن أن تؤتمن على ملف العدالة ولا تحظى أصلا بثقة السوريين. ويتمثل التحدي الثاني بإنشاء محكمة جنائية خاصة، لأن الجرائم التي ارتكبها رموز النظام تصنف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. ويحتاج النظر في هذه الجرائم -يضيف الحربلية- إلى قانون إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة كبار المسؤولين، وهو ما يتعذر حصوله في الوقت الراهن في ظل عدم وجود سلطة تشريعية لسن هذا القانون. إعلانبدورها، أنشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قاعدة بيانات شاملة تتضمن تفاصيل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ومسؤولوه طيلة 14 عاما، وتضمنت القوائم أسماء 16 ألفا و200 شخص ثبتت مسؤوليتهم عن الجرائم أو ارتباطهم بها.
وفي سياق متصل، يوضح عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، المحامي الخلفان، أن الحكومة الحالية غير قادرة على إصدار قوانين؛ لأن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري لا يملك صلاحية تشريعية، كما لا يوجد حالياَ مجلس شعب من أجل سن التشريعات.
لكن الخلفان شدد في هذه الحالة على ضرورة أن تطمئن الحكومة الشعب بعزمها على المحاسبة والمحاكمة لكل المجرمين، خاصة وأن الإعلان الدستوري نص على العدالة الانتقالية وعلى آلياتها، إذ كلما تأخرت معالجة هذا الملف، تزعزعت الثقة بهذه الحكومة.
وكان وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة أكد في لقاء مع تلفزيون "العربي"، على أن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى، وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، مؤكدا أن "من عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية".