عالمٌ غريبٌ هو ذلك المعاصر الذي نعيش فيه، ولئن كان المطالبون بالتغيير في القرن الماضي، خاصةً في أعقاب المسلختين الكبريين المسميتين بالحربين العالميتين الذين هاجموا القسوة والتوحش والاستغلال، مطالبين حالمين بعالمٍ أكثر عدلاً، تحدوهم آمالٌ عريضة، قائمة على نظرياتٍ بدت راسخةً غنيةً صلدةً ومتماسكة، فالشاهد أن العالم الآن يزداد توحشاً، مع فارق أن أملاً ما، وعداً أو مشروعاً لا يلوح في الأفق، كل ما هنالك هو السعار المتلفع أحياناً بالنفاق، والسافر الصفيق أحياناً أخرى.
لا شك أن همي الأكبر هو حرب الإبادة على غزة، وما يتعرض له شعبنا من تدميرٍ متوحشٍ، بالإضافة إلى كونه ممنهجاً.
المشروع الصهيوني هو مشروع نفيٍ لأي إمكانية للاستقلال والنهوض العربيين الحقيقيين
في الحقيقة لا يروعني إجرام الكيان الصهيوني في حد ذاته، فأنا لم أمِل يوماً لتصديق الأوهام المبثوثة بغزارة عبر وسائل الإعلام العربية، عن إمكانية ما يسمى بـ»السلام»، أو العيش المشترك ولم أبتلع اختراعات وهمية كهذه، فأنا على يقين من أن المشروع الصهيوني هو مشروع نفيٍ لأي إمكانية للاستقلال والنهوض العربيين الحقيقيين.
لكن ما فاجأني هو ذلك الكم المذهل والمرعب من انعدام المبالاة، التي تتلقى بها الأنظمة العربية والحكومات الكبيرة والفاعلة شرقاً وبالأخص غرباً أنباء مجزرة الشعب الفلسطيني.
في ما مضى، كانت هذه الدول على الأقل تتظاهر بالاهتمام، بأنها تدرك أن كارثةً إنسانيةً بشعة تقع، وأنها تسعى لإيقافها وإنقاذ الناس الأبرياء، وفي حالة الأنظمة العربية فإنها تشفع ذلك بإبراز ضعفها الذليل كالمتسول بعاهته، كانوا يبذلون جهداً ليبدوا مقنعين.
أما الآن، فلا شيء قريبٌ من هذا، كأن ما يحدث يقع في المريخ، عالمٌ غريب بالفعل، في مرحلةٍ ما هلل فوكوياما لنهاية التاريخ واستقراره في خانة الليبرالية على الطراز الأمريكي وقبل ذلك كان دانيال بيل قد تناول «نهاية الأيديولوجيا».
لكن ما نراه اليوم هو اضمحلال تام لمفهوم القيمة البشرية وارتداد إلى ما قبل الحداثة والقيم الكونية وحقوق الإنسان.
كتبت وغيري من قبل أن حرب غزة كاشفة، إلا أنني لا بد أن أقرر أيضاً أن أحداً لم يكن يتصور مدى ما ستكشفه ولا أين سيقف.
لقد اتضح على ضوئها أن العالم، والدول الكبرى بالأخص، في صراعها المحتدم على السيادة، بين إمبراطورية أمريكية تنحسر، أو على الأقل تقف في مواجهة قوى صاعدة، قد تحللت من عبء الادعاء بالمبادئ، كأن لسان حالهم يقول «نحن نخوض حرب بقاء ومعركةً وجودية فلا وقت لدينا لتلك اللطائف».
والشاهد أن إسرائيل ليست وحدها التي تجنح نحو اليمين المتطرف، بل إن هذا جزءٌ من تيارٍ عالميٍ عريض، لم نر آخره في اقتراب «حزب لوبن» في فرنسا من الفوز في الانتخابات وترامب بأفكاره الكارثية.
من هذا المنطلق، وفي السياق ذاته، فقد صاروا يراهنون ويعولون ويعمدون عمداً إلى زرع البلادة والتوحش في الشعوب، لكي تتقبل ذلك الصراع. لقد صرنا نصحو ونبيت كل يوم على أخبار العشرات، بل المئات من الشهداء في غزة، حتى وقع ما كنا نخشاه ونحذر منه: لقد اعتاد الناس على ذلك وألفوه.
هو عالمٌ جديد شجاع ليس بعيداً عن الذي تنبأ به هكسلي، عالمٌ قبيح، حيث تُساق الجماهير الواسعة من قبل المصالح الكبرى المستترة بالقوميات الشعبوية، إلى طمس القيمة والكرامة الإنسانيتين.
ملمحٌ آخر لافت هو أنه على الرغم من المظاهرات، وما بدا من تعبيرٍ عن السخط على الدور المنحط للحكومات الغربية في حرب الإبادة تلك، إلا أن الحكومات لم تغير مسارها.
بل آثرت أن تنتهج سياسة النفس الطويل والمرونة، إلى أن تستهلك موجة السخط نفسها ثم تنحسر، والنتيجة أنه عقب أن انتهى العام الدراسي وتدخل الأمن في الجامعات، فُضت الاعتصامات وصارت أعداد الضحايا خبراً يومياً مألوفاً كالنشرة الجوية.
من جملة التخفف أيضاً من «البضاعة البائرة» هو مسلك الأنظمة العربية، تلك التي كلما أرادت أن تبرر قمعها ساقت المؤامرة الصهيو- كونية والتربص الإسرائيلي بثرواتنا ورفاهيتنا وسؤددنا، وإذا بها تتخطى أحلك تقديراتنا لانحطاطها، حيث نجدها تحارب مع إسرائيل في الخندق نفسه بصفاقةٍ مدهشة، فتدافع عنها من الصواريخ الإيرانية.
الأنظمة العربية دون استثناء تقريبا مندمجة منسجمة تماما في الخط العريض للسياسة الغربية
لقد تبين أن الأنظمة العربية، دون استثناء تقريباً، مندمجةٌ منسجمةٌ تماماً في الخط العريض للسياسة الغربية في المنطقة، ومن ثم فإنه من السذاجة المفرطة والسخافة أن نتصور أن الولايات المتحدة أو غيرها من القوى الغربية، في هذا المنعطف، بل المأزق التاريخي، ستضغط على نظام السيسي، أو أي نظامٍ آخر لتحسين أوضاع الناس، سواءً الاقتصادية أو في ما يخص الحقوق السياسية أو الإنسانية.
وحدها معلوماتٌ تفيد بأن سياسات هذه الأنظمة قد تؤدي إلى انفجارٍ وشيك بما قد يؤدي إلى خلخلة الأوضاع، بما يهدد مصلحة الغرب من شأنه أن يحملها على ممارسة أي ضغطٍ من هذا النوع.
لقد أضاءت الحرب على غزة المساحات المعتمة، فأتاحت الرؤيا لمن أراد أن يتبصر؛ نحن نعيش في عالمٍ يزداد قسوةً، تصورَ أو آمن أنه طرح عنه أوهام السرديات الكبيرة وإمكانية الحقيقة المطلقة وبلغ الغايات، إلا أن تلك هي أكبر كذبة، سيزداد العنف وستزداد التفاوتات وستُبخس قيمة الحياة البشرية أكثر فأكثر ولا خلاص للبشرية سوى بإعادة الاعتبار لقيم التحرر فوق المكاسب والمصالح الضيقة ولمشروعٍ يهدف إلى إقامة مجتمعٍ عادل.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة اليمين المتطرف غزة اليمين المتطرف العدوان حرب مدمرة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأنظمة العربیة
إقرأ أيضاً:
على أعتاب عالم جديد.. وصعب
مع أن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية كان مفاجئاً للكثيرين، إلا أن خطاب التنصيب الذي ألقاه من يومين جاء مفاجئاً بقدر أكبر، في الشكل وفي المضمون.
في الشكل، فقد خرق التقاليد والأعراف السياسية بعدم ذكر الرئيس المنتهية مدته بكلمة طيبة بينما الرجل جالس على بعد مترين منه! ثم عدم الإعلان التقليدي عن مد يديه لمن صوتوا له أو ضده على حد سواء، بل جاء خطابه مليئاً بالتشفي والنية الواضحة في التنكيل بخصومه.
ولكن الأهم هو المضمون. وهنا يستوقفني ليس السياسات والبرامج المعروفة التي كان قد وعد الناخبين بها، بل ما تعبر عنه من فلسفة جديدة للحكم وتوجهات طويلة المدى ستكون ذات نتائج عميقة على المجتمع الأمريكي وعلى العالم بأسره. وفي تقديري أن هناك 5 توجهات كبرى تستحق التوقف عندها:
1- الاستعداد لتجاهل قواعد القانون الدولي التي شكلت الإطار الحاكم للعلاقات الدولية منذ منتصف القرن الماضي، بما في ذلك مبدأ سيادة الدولة ذاته. ويرتبط بذلك خروج الولايات المتحدة من المنظمات الدولية التي لا تأخذ مواقف متفقة مع سياساتها.
2 - العدول عن كثير من السياسات الداعمة للبيئة- مع أنها لم تكن كافية أصلاً- والانحياز لتنشيط الصناعة واستخراج المواد الطبيعية دون اعتبار لمصلحة الإنسانية في حماية البيئة والحد من التدهور المناخي.
3 - العمل على تنفيذ السياسات الاقتصادية التي تحقق منافع مباشرة للولايات المتحدة (أمريكا أولاً) أياً كان أثرها السلبي على الاقتصاد العالمي وعلى التجارة والاستثمار الدوليين، والعدول عن منهج العولمة الذي قاد التفكير الاقتصادي العالمي من سبعينيات القرن الماضي.
4 - الانتقال بالولايات المتحدة من بلد جاذب للمهاجرين ومشجع لانخراطهم في «أسلوب الحياة الأمريكي» إلى دولة ذات أسوار عالية وبوابات منيعة لا تُرحب إلا بمن له حاجة في سوق العمل أو سيضيف للمجتمع والاقتصاد.
5 - التعامل مع مبدأ سيادة القانون بشكل أقل قطعية، ليس باعتباره أساس تنظيم المجتمع، بل كواحد من أسس متعددة ومتصارعة لتنظيمه، مع القوة والسلطة والنفوذ المالي والاعتبارات العملية التي قد ترتفع فوق العدالة معصوبة العينين.
هذه أسس فكرية مختلفة جذرياً ليس فقط عن تلك التي انتهجها الرئيس السابق بل وعن الاتجاه العام الذي ساد مع الأنظمة الغربية حتى تحت حكم الحكومات اليمينية التي ربما انتهجت سياسات اقتصادية محافظة، ولكنها لم تتبنَ بهذا الوضوح رؤية شاملة ومغايرة لأسس الليبرالية الغربية المستقرة.
وهذا لا يعني أن الرئيس «ترامب» مخترع هذه الأفكار أو أنه جاء بجديد، بل لعله كشف الغطاء أكثر من غيره عن عجز الليبرالية التقليدية عن مواكبة تغيرات ديمغرافية وتكنولوجية وثقافية لعالم جديد، وعن إخفاء تناقضات متراكمة بين الأفكار المثالية والحالمة لطبقة حاكمة استراحت في مواقعها الوثيرة واحتياجات العصر ومتطلبات الجماهير.
فوز «ترامب» عام 2017 كان يبدو حدثاً استثنائياً وغريباً وعابراً. أما فوزه الثاني فيعبر عن شيء أكبر وأكثر استمراراً حتى بعد نهاية ولايته، عن تغير حادث في الولايات المتحدة وخارجها، نحو عالم أكثر قسوة وأقرب إلى الصدام على الموارد، وأبعد ما يكون عن أحلام العولمة والتكامل والأمن والسلم العالميين.
فاستعدوا لأننا على أبواب عصر جديد.. صعبٍ وقاسٍ.