بدأ تدوين السيرة منذ عهد الصحابة الكرام، وقد ذكرنا شيئاً من أدلة ذلك، ونقلنا فى هذا الصدد قول سيدنا عبدالله بن عباس رضى الله عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رضى الله عنه يأتى الصحابى الجليل أبا رافعٍ رضى الله عنه فيقول: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ومعه ألواح يكتب فيها.

وهذا تدوين خاص بسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان لسيدنا ابن عباس رضى الله عنه تلاميذ من بلدان وأقطار مختلفة نقلوا كُتبه عنه، وقرأوها عليه، وانتشرت عنهم فى الأمصار.

ولم يكن هو وحده القائم بهذا الأمر، فقد رَوى أصحابُ السِّير ما يدل على أن الصحابى الأنصارى سيدنا سَهْلَ بن أبى حَثْمَة رضى الله عنه كان له كتاب يفيدون منه، فقد كان حفيده محمد بن يحيى بن سهل يروى قائلاً: «وجدت فى كتب آبائى»، وهذا دليل على أن جده الصحابى ووالده التابعى كان لهما مصنفات يرجعُ إليها العلماء بالسيرة النبوية.

بل اهتم الصحابة الكرام بجمع ما كتبه صلى الله عليه وسلم من وثائق للجهات المختلفة وهى تُمثّل تأريخاً لبعض الكتابات النبوية الكريمة، حتى إن أول مجموع للوثائق النبوية -كما قال الدكتور محمد حُميد الله- قد جمعه الصحابى الجليل سيدنا عمرو بن حزم رضى الله عنه، حيث جمع من هذه الوثائق بضعة وعشرين كتاباً كتبَها النبى صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى كتابٍ أرسلَه به صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، فكان هذا أول مجموعة لبعض الوثائق النبوية، وقد نُقِلَ مجموع هذه الوثائق جِيلاً فجيلاً حتى وصلَ إلينا، أليس يُعدُّ هذا ضرباً دقيقاً من ضروبِ توثيق السيرة العطرة؟!

هذا بخلاف ما كتبه الصحابة الكرام لأنفسهم من صحف تضمنت سُنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى بهذا تضمنت قدراً ما من سيرته العطرة، وذلك كصُحُف وكُتب سيدنا عبدالله بن عمرو بن العاص، وسيدنا سعد بن عُبادة، وسيدنا جابر بن عبدالله، وسيدنا عبدالله بن أبى أَوْفَى، وسيدنا سَمُرة بن جُندب، وسيدنا أبى رافع، وسيدنا أبى موسى الأشعرى.. وغيرهم من الصحابة الكرام رضى الله عنهم، فكل هذه الكتب -وغيرها كثير- تُعدُّ مصادر مبكرة وموثقة للسنة والسيرة معاً.

ثم قام بالتأليف فى خصوص السيرة النبوية جيل التابعين، وهو الجيل الذى أدرك جيل الصحابة وأخذ عنهم، ومن هذا الجيل أبناء الصحابة أنفسهم، فمِمن ألف كتاباً فى السيرة النبوية عروةُ بن الزبير (ت 93هـ)، وجدير بالذكر أن كتابه فى السيرة قد دخل مصر عن طريق تلميذه أبى الأسود محمد بن عبدالرحمن.

كما ألَّف فيها أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ)، وكذلك كان للشَّعْبى (ت 103هـ) كتاب فى المغازى كان يقرأ منه ومرّ بمجلسه وهو يقرأ سيدُنا عبدالله بن عمر رضى الله عنهما فقال: كأنه كان شاهداً معنا.

وهذا القول من سيدنا ابن عمر رضى الله عنهما يُعدُّ توثيقاً لهذا الكتاب فى السيرة العطرة؛ فقد سمع روايته الدقيقة للأحداث وكأنه كان حاضراً معهم فيها وليس مجرد ناقل لها عنهم. وممن كان لهم كتب فى السيرة النبوية أيضاً شرحبيل بن سعد (ت 123هـ).

وهؤلاء أخذوا عن الصحابة الكرام وعن مصنفاتهم؛ وقد تميزت مصنفات هذا الجيل بالوثاقة لأمور:

أولها: أنهم رووا عن الصحابة الذين عاشوا هذه السيرة المباركة وكانوا جزءاً منها.

ثانيها: أنهم أخذوا عن أكثر من صحابى، ومن شأن تعدد هذه الروايات أن يُعضّد [أى: يقوى] بعضها بعضاً، كما أن هذا من شأنه أن يجعل روايتهم أكثر شمولاً لأن كل صحابى سيحدثهم بما رآه وحضره من أحداث ووقائع وغزوات.

ثالثها: أن بعض كتبهم هذه نُسخ وعُرف وكان يُقرأ فى مجالس العلم تحت سمع وبصر الصحابة الكرام وبمحضر منهم كما رأينا فلم ينكروا منه شيئاً، وهذا شهادة ضمنية بصحة ما فى هذه الكتب.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: مجالس العلم الصحابة الكرام رسول الله صلى الله علیه وسلم السیرة النبویة الصحابة الکرام رضى الله عنه عبدالله بن

إقرأ أيضاً:

الجندي: الصحابة لم يترددوا في سؤال النبي ﷺ عن طبيعة أقواله وأفعاله

أكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، خلال حلقة مميزة من برنامجه «لعلهم يفقهون» على قناة DMC بعنوان «حوار الأجيال»، على الوعي الديني العميق والجرأة المؤدبة التي تميز بها الصحابة رضوان الله عليهم في طلب العلم والمعرفة.


وأوضح الشيخ الجندي أن الصحابة لم يترددوا في سؤال النبي محمد ﷺ عن طبيعة أقواله وأفعاله، سواء كانت وحيًا من الله أم اجتهادًا شخصيًا منه، مشيرًا إلى أن الإسلام لم ينه عن السؤال بل شجع عليه ضمن إطار الأدب وحسن النية للفهم والتعلم.

واستشهد الجندي بموقف الصحابي الحباب بن المنذر في غزوة بدر، الذي سأل النبي ﷺ بأدب عن موقع الجيش، ليتبين أنه كان رأيًا ومكيدة، مما دفع الحباب لاقتراح موقع استراتيجي أفضل، وهو ما يوضح وعي الصحابة بضرورة التمييز بين الوحي الإلهي والاجتهاد البشري.


كما ذكر الجندي موقف الصحابي كعب بن مالك عندما بشره النبي ﷺ بقبول توبته، حيث سأله كعب: "أمنك أم من الله؟"، ليؤكد النبي ﷺ أنها من الله، مما يدل على حرص الصحابة على التثبت من مصدر المعلومات حتى في لحظات الفرح.


وأشار الشيخ الجندي إلى أن هذه النماذج تبين أن الصحابة لم يكونوا يسلمون تسليمًا أعمى، بل كانوا يتحققون ويميزون بين الوحي والرأي النبوي الشريف، مع الحفاظ على كامل الاحترام والإيمان.


واختتم الجندي حديثه بالتأكيد على أهمية معرفة متى نسأل ومتى نسلم، موضحًا أن النبي ﷺ كان في بعض الأحيان يجتهد، وأن التمييز بين الوحي والاجتهاد ضروري للفهم الصحيح للدين والامتثال لأوامر الله ورسوله.
 

طباعة شارك خالد الجندي برنامج الجندي الشئون الاسلامية

مقالات مشابهة

  • فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. بين طواف الحجاج حول الكعبة وطواف الجياع بين ركام غـزة
  • السيد القائد يؤكد الوقوف إلى جانب حزب الله في أي تصعيد عدواني شامل يقدم عليه العدو الإسرائيلي
  • علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم رسول الله
  • علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم الرسول
  • دعاء لمن تعسر عليه الرزق .. احرص عليه يرزقك الله من حيث لا تحتسب
  • دعاء تسهيل الأمور الصعبة وقضاء الحاجة.. احرص عليه في جوف الليل
  • الجندي: الصحابة لم يترددوا في سؤال النبي ﷺ عن طبيعة أقواله وأفعاله
  • ماذا فعل النبي عند هبوب الريح؟ ردد دعاء الرياح وهذه السنن النبوية
  • معايير اختيار الصديق الصالح على الطريقة النبوية