على مدى عام مضى لم يتمكن حراك محافظة السويداء السورية من تحقيق التغيير السياسي المنشود أو حتى تحقيق مكاسب الشعب الآنية المتمثلة بلقمة العيش، لكنه ثبّت حالة تكمن في إحياء وتثبيت "سردية الثورة" التي انطلقت بعد 2011 وقابلها النظام السوري بالعنف والقتل.

وإلى ما هو أبعد من ذلك، حسبما يقول ناشطون سياسيون لموقع "الحرة" فقد كشف الحراك عن "زيف ادعاءات النظام"، وكسر الصورة التي حاول أن يرسخها رئيس النظام السوري بشار الأسد خلال السنوات الـ13 الماضية، من منطلق أن كل من يخرج ضده عبارة عن "مجموعات إرهابية".

قبل 12 شهرا غيّر الأهالي في السويداء ذات الغالبية الدرزية اسم ساحة "السير" إلى "ساحة الكرامة" وحددوا موعدا يوميا وأسبوعيا للخروج والتعبير عن مطالبهم. ورغم أن صيحاتهم تعالت أولا بعد شرارة رفع الأسعار والتضييق المعيشي سرعان ما اتضحت ملامح من الغضب الكامن.

ومن المطالب المعيشية إلى السياسية انتقل السكان ومن مختلف فئاتهم المجتمعية في ساحة "الكرامة" إلى المناداة بإسقاط النظام ورئيسه الأسد، وكانوا يطالبون أيضا بتطبيق قرار مجلس الأمن الخاص بالحل السياسي في البلاد، والمعروف برقم 2254.

هتفوا كثيرا وما يزالون لكافة المناطق السورية وحملوا مختلف الأعلام، وعبروا عن تضامنهم مع جميع السوريين، وفي غضون ذلك كانوا يرسمون "صورة الوجه الحقيقي للسوريين"، كما تقول الناشطة السياسية، ميساء العبد الله لموقع "الحرة".

ويضيف الكاتب والباحث السياسي، الدكتور جمال الشوفي أنهم ثبتوا مجموعة من النقاط الأساسية، وعلى رأسها التظاهر السلمي "كرافعة للحل السياسي الوطني، سواء في السويداء أو بقية المحافظات السورية".

"صداع النظام وتساقط الرموز"

لم يكن حراك السويداء السلمي الذي شهدته السويداء خلال عام مضى أول التجارب التي عاشتها المحافظة وخرج فيها الشعب هناك، ومع ذلك كان الأشد زخما على صعيد المشاركة والمطالب والحالة العامة التي رسخها بالتدريج.

وكان أكثر ما ميزه انخراط الشبان فيه من نساء ورجال، وإقدام رجال دين كبار من الطائفة الدرزية على الابتعاد عن "التموضع في المنتصف"، ليقف ويؤيد اثنان منهما (يوسف الهجري وأبو حمود الحناوي) المطالب الشعبية بالديمقراطية والحرية والكرامة.

المشاركة تلك أعطت دافعا قويا للبقاء في الشوارع يوميا وبشكل أسبوعي، وشكّلت في منحى ما نوعا من الغطاء والدعم من الخلف.

وفي المقابل عززت "صداع" النظام السوري، الذي عجز عن الخروج منه، على الرغم من أنه اتخذ موقفا وكأنه "خارج التغطية" كما يتم تداوله بين أوساط السكان.

لم يبدِ النظام السوري منذ انطلاقة الحراك السلمي أي بادرة إيجابية أو سلبية، والتزم بسياسة واحدة قامت على "عدم التعليق".

وبينما كانت وسائل إعلامه وصحفيون مقربون منه يتخذون مسارا هجوميا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شهدت المحافظة عدة تطورات عنيفة أسفرت عن قتلى لكنها لم تتدهور إلى حد انزلاق الشارع للعنف.

أحد القتلى الذين كانوا يتصدرون المظاهرات هو جواد الباروكي ومرهج الجرماني قائد "لواء الجبل"، الذي قضى على فراش نومه في منزله، قبل أسابيع.

حادثة اغتيال تهز السويداء السورية.. من هو مرهج الجرماني؟ هزت حادثة اغتيال استهدفت قائد فصيل محلي محافظة السويداء السورية صباح الأربعاء، وتفيد التحقيقات الأولية بإقدام مجهولين على تنفيذها داخل منزله وباستخدام سلاح كاتم صوت.

وحصلت حوادث أخرى مثل إقدام النظام السوري على تثبيت حواجز أمنية في مدخل المحافظة وإطلاق الرصاص على رؤوس المحتجين عندما كانوا يزيلون صور بشار الأسد وينثرون التقارير الموجودة في أدراج المكاتب التابعة لـ"حزب البعث".

ويوضح الأكاديمي، جمال الشوفي أن النظام السوري ومنذ انطلاقة الحراك أدرك أنه في موقف "صعب"، كونه يواجه "امتدادا شعبيا من أقليات لطالما ادعى أنه يحميها زورا وبهتانا"، على حد تعبيره.

وكان لديه فكرة تقوم على أن أي مواجهة عنيفة ضد المتظاهرين "ستنقلب عليه بالعكس في المجتمع الدولي"، مما دفعه للعب على "وتر الخلافات الداخلية".

لكن الشوفي يقول لموقع "الحرة" إن الحراك السلمي في السويداء أبدى ميزة إيجابية، من خلال قدرته على التحكم بتحرشات النظام السوري وافتعالات عصاباته.

كما عمل على دحض الفكرة التي يصدرها النظام كجهة "ديمقراطية".

ويتابع الشوفي مردفا: "الحراك أعلن على الملأ أن النظام أباد الشعب السوري"، وأنه "ديكتاتوري ومستبد".

"زخم أقل ونفس طويل"

مدّة الـ12 شهرا من التظاهر لا تعتبر شيئا عابرا وخاصة في سوريا، كما يرى الأكاديمي الشوفي والناشطة المدنية، ميساء العبد الله، وهي الممرضة المتقاعدة والتي انخرطت في التظاهرات منذ اليوم الأول.

وبينما لا يقلل الاثنان من مسار الاستمرارية يوضحان أن طبيعة "المقبل والمتوقع" تطلق العديد من التساؤلات الكبيرة والمفتوحة.

وكان زخم المظاهرات قد انخفض خلال الأشهر الأربعة الماضية، لكن "ساحة الكرامة" لم تكن ليوم دون متظاهرين.

ويعتقد الشوفي أن "تراجع الزخم يدل على الوضع الاقتصادي المتردي للناس وانشغالها بهمومها اليومية".

وفي حين كانت هناك أحلام كبيرة لم تكون الصورة تسير في المقابل باتجاه "الواقع الموضوعي المعقد للمسألة السورية"، بحسب الشوفي.

العبد الله من جانبها تشير إلى "وجود خشية على الحراك، وإمكانية استثماره وجره لتبعية دينية أو طائفية أو إيديولوجية، ومن الممكن توقفه بأي لحظة نظرا لكثرة الضغط والشد فيه".

لكنها تعتبر أن "البذور التي زرعها لا يمكن إزالتها، وهي تأسيس لحالة ديمقراطية يمكن البناء عليها والعبور من خلالها لمشاركة سياسية للإنسان السوري، وثم الوصول إلى دولة مواطنة يسودها القانون والقيم الإنسانية".

السويداء.. "تجربة ديمقراطية أولى" رغم وجود نظام الأسد في خطوة غير مسبوقة، أعلنت الهيئة العامة الممثلة للحراك السلمي في السويداء السورية، عن تشكيل لجنة سياسية من خلال انتخابات وصفت بـ"الديمقراطية"، وذلك عقب أيام من إجراء انتخابات مجلس الشعب التابعة للنظام، وقبل بضعة أسابيع من إتمام الاحتجاجات الشعبية لعامها الأول في تلك المحافظة الجنوبية. ماذا حقق الحراك؟

بوجهة نظر الباحث السياسي الشوفي ثبت الحراك مجموعة من النقاط.

وإلى جانب تأكيده على التظاهر السلمي كرافعة للحل السياسي الوطني عزز فكرة عدم الانجرار للعنف مع السعي للخروج من المعادلات الإقليمية.

وكان أبرز ما حققه أيضا بحسب الشوفي "التمسك بالحل السياسي بمرجعية القرارات الدولية مثل 2254 وجنيف 1، والتأكيد على أهمية الأثر الدولي في الملف السوري".

ويتوقع الباحث أن "يعيد الحراك ترتيب أوراقه بالتشارك مع بقية السوريين في المرحلة المقبلة، والانفتاح عليهم بشكل جماعي".

ويأتي ذلك من منطلق التأكيد على سردية الثورة في 2011، وبأن "سوريا دولة لكل السوريين ورافعة الحل فيها هو السلمية واستبعاد الحل العنفي، حتى لو اضطر الأمر للدخول لمفاوضات طويلة مع الدول الراعية للنظام كروسيا"، وفقا لذات المتحدث.

"الحراك نموذج ديمقراطي قابل للنجاح وللفشل"، كما تعتبر الناشطة العبد الله.

وتوضح أنه "استطاع أن يوصل صوت السوريين الصافي البعيد عن التبعية والإيديولوجية والتطرف".

كما نقل "الملف السوري من الاستعصاء إلى المحافل الدولية، وأسس لحياة سياسية ومشاركة لن يستطيع أحد أن يسلبها، وكانت قد غابت عن السوريين لأكثر من 50 عاما"، وفق حديث الناشطة.

وتشير العبد الله أيضا إلى أن "الحراك أظهر الوجه الحقيقي للسوريين، الذين يطمحون لدولة مدنية يسود فيها القانون والدستور يكون فيها الإنسان هو الأهم".

ومن جهته يعيد الشوفي التأكيد على ما سبق، ويعتبر أن ما حققه الحراك في المحافظة هو أنه "أعاد إحياء الملف السوري عربيا ودوليا، من أجل الوصول لاستحقاق التغيير السياسي".

ورغم أن التغيير في ظل الظروف الحالية ليس بالأمر السهل يعتبر الباحث السياسي أنه يوجد الكثير من الأمل.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: السویداء السوریة النظام السوری فی السویداء العبد الله

إقرأ أيضاً:

موقف حركة النهضة وحلفائها من الثورة السورية

في خاتمة المقال السابق، كنا قد أشرنا إلى أن قراءة مواقف الفاعلين السياسيين والمدنيين التونسيين من الثورة السورية لا تكتمل إلا بالاشتغال على موقف أحد أهم الفاعلين السياسيين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ألا وهو حركة النهضة. ولا يمكن فصل هذه الحركة عن حلفائها سواء أولئك الحلفاء الاستراتيجيين (ائتلاف الكرامة أو حزب المؤتمر بقيادة الدكتور منصف المرزوقي) أو أولئك الذين التقوا معها موضوعيا دون اعتراف مبدئي. فرغم الالتقاء البراغماتي بين حركة النهضة والتكتل الديمقراطي (خلال مرحلة الترويكا)، والالتقاء بينها وبين حركة نداء تونس أو تحيا تونس (خلال مرحلة التوافق) والتقائها مع حركة قلب تونس (بعد انتخابات 2019)، فإننا لا نعتبر هذا الالتقاء من باب التحالف الاستراتيجي أو الاعتراف المبدئي بهذه الحركة، بل هو مجرد تقاطع مصالح ظرفي لم يكسر التقابل الجذري الذي حكم المشهد السياسي التونسي منذ المرحلة التأسيسية، أي التقابل بين "العائلة الديمقراطية" وبين النهضة وائتلاف الكرامة باعتباره -حسب ما يسمى بالقوى الديمقراطية- مجدر "واقي صدمات" أو جسما وظيفيا في خدمة النهضة مثلما كان شأن "لجان حماية الثورة".

لو أردنا فهم موقف حركة النهضة من الثورة السورية، فإن الانطلاق من بيان المكتب التنفيذي للحركة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر سيكون مدخلا جيدا، ولكنه مدخل لا يختزل تعقد الملف السوري -محليا وإقليميا- ولا تعقد المتغيرات التي حكمت مواقف الحركة منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية وتحولها التدريجي إلى نزاع مسلّح ذي تداعيات على الأمن الوطني التونسي، خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير. ولكننا سنترك ذلك البيان ولن ندرسه إلا في موضعه من مسار الموقف النهضوي من الثورة السورية.

مهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه
لقد كان الملف السوري من أكثر الملفات التي عمّقت التقابل بين "القوى الديمقراطية" السياسية والمدنية وبين حركة النهضة والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي. ففي 2 شباط/ فبراير 2012 (أي على عهد حكومة الترويكا التي شهدت تحالفا سياسيا بين النهضة وحزب المؤتمر والتكتل الديمقراطي) استضافت تونس مؤتمر "أصدقاء سوريا" بحضور سبعين بلدا، بعد عرقلة روسيا والصين لمشروعي إدانة للنظام السوري. ورغم أن قطع تونس لعلاقاتها الديبلوماسية مع النظام السوري سنة 2012 (بعد مجزرة حي الخالدية في مدينة حمص) كان متوافقا مع توجهات جامعة الدول العربية وأغلب القوى الإقليمية والدولية، فإن هذا القرار السيادي لم يُرض أغلب "القوى الديمقراطية" التي اعتبرت الموقف التونسي دعما للإرهاب وضربا لمحور "المقاومة والممانعة".

لقد كان موقف حركة النهضة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي خاضعا لضغطين كبيرين: ضغط القواعد الانتخابية والحلفاء من جهة (وهو ضغط يدعو إلى تصليب الموقف من لا شرعية النظام السوري، خاصة بعد اعتراف مؤتمر سوريا بـ"المجلس الوطني السوري" ممثلا وحيدا للشعب السوري)؛ وضغط الأغلب الأعم من مكونات المشهد التونسي أو النخب السياسية والنقابية والإعلامية والثقافية التي حاولت توظيف الأزمة السورية للربط بين الحركة والإرهاب، خاصة في ملف التسفير إلى سوريا.

فقد حاولت تلك القوى بعد نجاحها في إسقاط حكومة الترويكا أن تعيد صراعها السياسي مع حركة النهضة إلى المربع الأمني القضائي، سواء بملف "التنظيم السري" أو ملف التسفير. ولأن ملف تورط بعض الجمعيات المدنية في التسفير إلى سوريا مازال مفتوحا أمام القضاء، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حرص "القوى الديمقراطية" على التعامل بازدواجية المعايير مع هذا الملف. فالتسفير لم يشمل فقط تورط بعض التونسيين في الحركات الجهادية السورية، بل تورط البعض الآخر في المجاميع شبه العسكرية الداعمة للنظام السوري (كتيبة محمد البراهمي). ولا شك في أن إدانة "المجاميع الجهادية" (وهو أمر منطقي بحكم عملها خارج الأطر الرسمية، بل على الضد من الموقف الرسمي التونسي الرافض لتسليح المعارضة وللتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى) لا ينفي إدانة "المجاميع التشبيحية" التي مارست السلوك نفسه، أي لا ينفي التعاطي القضائي مع التونسيين الذين حاربوا مع النظام السوري بصورة غير شرعية وخارج وصاية الدولة التونسية، بل ضد مواقفها الرسمية.

بعد دخول مرحلة التوافق مع حركة تونس منذ 2014، لم يكن لحركة النهضة من التأثير السياسي أو من القدرة التفاوضية ما يمنع الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي من فتح مكتب للخدمات الإدارية والقنصلية في سوريا منذ وصوله إلى قصر قرطاج. ورغم أن هذا القرار لم يكن يعني تطبيع العلاقات مع النظام السوري، فإنه كان خطوة في ذلك الاتجاه. فهذا القرار هو اعتراف بشرعية النظام، ولكنها خطوة لم تكن ترتقي إلى مستوى انتظارات "العائلة الديمقراطية" ومكوناتها التي دعمته ضد السيد منصف المرزوقي بمنطق "الانتخاب المفيد". فهذه الخطوة "الرمزية" لا ترتقي إلى مستوى ما وعد به خلال حملته الانتخابية بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا.

ونحن هنا لا نتفق مع السيدة مباركة عواينية (أرملة الشهيد محمد البراهمي) التي رأت أن إسقاط اللائحة البرلمانية المطالبة بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا سنة 2017 كان نتيجة صفقة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس (إسقاط نواب نداء تونس للائحة مقابل تمرير نواب النهضة لمشروع قانون المصالحة مع بعض رموز الفساد المالي والإداري خلال حكم المخلوع). فالمرحوم الباجي لم يتردد في استضعاف حركة النهضة في ملفات أكثر إحراجا لها أمام قواعدها الانتخابية، مثل ملفات الجنسية المثلية ورفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو (مسألة المساواة في الميراث بين الجنسين)، بل لم يتردد في فرض أحد رموز التطبيع (السيد خميس الجهيناوي) لإدارة ملف السياسة الخارجية منذ المرحلة التأسيسية.

لقد كان موقف المرحوم الباجي محكوما أساسا باعتبارات إقليمية ودولية، فالجامعة العربية وأهم القوى الدولية لم تكن قد أعطت الضوء الأخضر لتونس أو لغيرها لتطبيع العلاقات مع النظام السوري. وهو ما فهمه الأستاذ عبد الفتاح مورو، مرشح حركة النهضة للانتخابات الرئاسية سنة 2019، عندما قال: "نحن بلاد منضوية تحت منظمة عربية، ولنا سياسات مشتركة مع الدول العربية لا يمكن أن نخرج عنها"، مضيفا أن "كل تغيير يحصل (في الموقف من سوريا) ينبغي الاقتناع به داخل هذه المنظمة لننفتح على واقع جديد".

ولا شك في أن بيان حركة النهضة الصادر سنة 2019 والذي تحدث عن "مصالحة وطنية شاملة يستعيد فيها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية، وتضع حدا للتقاتل وما نتج عنه من مآس إنسانية" لا يخرج عن هذا النطاق، ولكنه لا ينفي أيضا أن موقف الحركة مرتبط بالتوازنات السياسية الداخلية بصورة أفقدته الكثير من المبدئية. فالارتباط الشرطي بالتوازنات المحلية والخارجية جعل مواقف الحركة براغماتية ومرتبطة بموازين القوى أكثر من ارتباطها بقاعدة مرجعية صلبة.

ومهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه.

رغم أن عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا جاءت في إطار تطبيع عربي شامل مع النظام السوري (عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تعليق عضويتها منذ 2011)، فإن النهضة -ممثلةً في المستشار السياسي لرئيس الحركة السيد رياض الشعيبي- قد اعتبرت أن هذا القرار "يدخل في إطار سعي السلطات إلى البحث عما يؤيد ادعاءها بـ"تورط" الحركة في ملف التسفير إلى بؤر التوتر". وإذا كان السيد الشعيبي لا يرفض -من منطلق ما يسميه بـ"الموقف الأيديولوجي المنغلق"- عودة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا، فإنه يعتبر أن ذلك القرار قد جاء مدفوعا بـ"العقل الأمني" الباحث عما يؤيد تورط حركته في ملف التسفير، ولم يكن بحثا عن دور إيجابي في حل الأزمة السورية.

ولكن بعد مرور أكثر من سنة على عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا، لا يبدو أن "مخاوف" السيد الشعيبي أو تفسيره لأسباب إعادة العلاقات مع سوريا مطابقة للحقيقة. ولذلك فإننا نعتبر أن تصريحاته لا تعكس أسباب ذلك القرار السيادي (موقف جامعة الدول العربية وحلفاء تونس الإقليميين) بقدر ما تعكس استمرارا لمنطق "المظلومية"، تلك المظلومية التي وظفتها النهضة بعد الثورة ثم أضاعت جزءا كبيرا منها بسبب خياراتها التوافقية المرفوضة حتى داخل قواعدها الانتخابية. ونحن نعني بالتوافق هنا خيار التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة وبعيدا عن استحقاقات الثورة وانتظارات عموم التونسيين.

إثر سقوط النظام السوري أصدر المكتب التنفيذي لحركة النهضة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024 بيانا هنّأ فيه الشعب السوري بـ"انتصار ثورته". وقد حرص بيان الحركة على عدم تهنئة فصائل المعارضة أو ذكرها بالاسم، كما حرص البيان على "تصدير" التجربة التوافقية التونسية إلى سوريا تحت مسمى "الوحدة الوطنية"، وحرص أيضا على التعامل مع الثورة السورية وكأنها نسخة أخرى من الثورة التونسية وشعاراتها في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. كما تجنب البيان أي إشارة إلى البنية الطائفية أو الخلفية البعثية للنظام السوري. فالثورة السورية هي "انتصار الحرية على الاستبداد"، وهو موقف لا يمكن فصله عن الواقع التونسي وإكراهاته.

نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة
فالنهضة لا تستطيع مقاربة الملف السوري إلا بترسانة مفهومية "توافقية" قد تسبب لها انتقادات واسعة حتى في صفوف حلفائها السابقين (مثل الرئيس المرزوقي)، ولكنها تبعدها عن أي استهداف على أساس الهوية الأيديولوجية من طرف النظام أو حلفائه الموضوعيين، حتى داخل المعارضة اليسارية والقومية. فسقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة سقوط سرديات الاستئصال الصلب والناعم في تونس، كما لا يعني حصول انفراجة سياسية أو تقارب بين القوى المعارضة. بل إن سقوط النظام السوري قد يعني عودة الصراعات الهوياتية في تونس على أساس ملفي التسفير والإرهاب.

ختاما، فإن سقوط النظام السوري وقيام حكومة جديدة في دمشق، هو أمر قد يفتح تونس على سيناريوهات متناقضة، وهي سيناريوهات لا يمكن أن يكون المحدد الأساسي أو النهائي فيها محليا صرفا. فطوفان الأقصى ومشروع الشرق الأوسط الجديد يلقيان بظلالهما على المشهد التونسي من خلال المحاور الإقليمية والاستراتيجيات الدولية المتناقضة.

ورغم أننا نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة.

ونحن لا نعتبر أن سقوط النظام السوري هو العلة الحقيقية لامتناع التقارب بين النهضة وبين أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في السياق الحالي أو في أي سياق منظور، بل إننا نرد ذلك الامتناع إلى الجوهر الإقصائي واللاديمقراطي للسرديات الأيديولوجية الكبرى، كما نرده إلى المصالح المادية والرمزية والقضايا الصغرى التي توظَّف السرديات الكبرى لحمايتها وشرعنتها.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • قمر قسوم تواصل البحث عن شقيقها المفقود في سجون النظام السوري بعد سقوط الأسد
  • لتسوية أوضاعهم..الموالون السابق للنظام يسلمون أسلحتهم في سوريا
  • من القمع إلى الحرية.. تحولات الإعلام السوري بعد سقوط النظام
  • وزير التعليم السوري يكشف مصير حزب البعث في المناهج الدراسية
  • موقف حركة النهضة وحلفائها من الثورة السورية
  • منظمة الصحة العالمية: مستقبل صعب ومجهول للنظام الصحي في لبنان
  • شنيكر تعليقًا على سقوط النظام السوري: تمّ تحرير لبنان
  • أدوات تعذيب متنوعة داخل أحد فروع أمن النظام السوري بحلب (شاهد)
  • بالتفصيل.. الرواية الكاملة لهروب رئيس النظام السوري السابق «بشار الأسد»
  • وزير النقل السوري: الطيران في الأجواء السورية آمن ومفتوح