أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور ياسر الدوسري المسلمين بتقوى الله سبحانه وتعالى بالإكثار من الطاعات لنيل رضوانه عز وجل ومراقبته في السر والعلن.

وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام إن للعلمِ في الإسلامِ منزلةً عُظمى، ومرتبةً كُبرى، يبلغُ العبدُ بهِ منازلَ الأبرارِ، في جناتٍ تجري منْ تحتهَا الأنهارُ، قالَ تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فالعلمُ أفضلُ ما أُفنيتْ فيهِ الأعمارُ، وأُنفقتْ فيهِ الأموالُ، فهو الطريقُ إلى معرفةِ اللهِ وخشيتِهِ، وتعظيمِهِ ومخافتِهِ، قالَ تَعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولكلِّ ساعٍ إلى النجاةِ وصولٌ، وإنَّما الوصولُ إحكامُ العَملِ بأحكامِ العِلْمِ المنقولِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ”.

رواهُ مسلمٌ.

وأشار إلى أنَّ العلمَ حياةُ القلوبِ، ونورُ البصائرِ والعقولُ، بهِ يُطاعُ الله ويُعبدُ، ويُذكرُ ويحمدُ، وبهِ توصلُ الأرحامُ، ويُعرفُ الحلالُ منَ الحرامِ، طلبُه قُربةٌ، وبذلهُ صدقةٌ، ومدارستُهُ عبادةٌ، ولذا جاءتْ نصوصُ الوحيين متضافرةً في بيانِ فضلِهِ، وما أُعدَّ لأهلِهِ، قالَ تَعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وعن مُعَاوِيَةَ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ”.

رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

 

وأكد أن العِلمَ بالكتابِ والسنةِ هو الأصلُ الذي تُبنى عليه سائرُ العلومِ، وعلماءُ الشريعةِ الراسخون همْ ورثةُ الأنبياءِ، وهم الأخيارُ الأصفياءُ، والأئمةُ الثقاتُ، والأعلامُ الهداةُ، والأدلّاءُ الذين يُهتدى بهم في المُلماتِ، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ يَقُولُ: “إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”.

رواه أحمد، فمِنْ سلكَ الطريقَ بلا علمٍ، وقطعَ مفازةَ الحياةِ بلا بصيرةٍ وفهمٍ، فقدْ سلكَ عسيراً ورامَ مستحيلاً، إذ لا يستطيعُ المرءُ أنْ ينفعَ نفسَهُ، أو يقدِّمَ خيراً لمجتمعِهِ إلا بالعلمِ، فبالعلمِ تُبنى الأمجادُ، وتُشيّدُ الحضاراتُ، وتسودُ الأممُ، وما فشَا الجهلُ في أمةٍ منَ الأممِ إلا قَوَّضَ أركانَهَا، وصدَّعَ بنيانَهَا.

ومضى فضيلته قائلاً إنَّ ديننَا الحنيف كما فرضَ طلبَ العلومِ الشرعيةِ، فإنه حثَّ على اكتسابِ العلومِ الكونيةِ؛ التي بها صلاحُ الإنسانِ وعمارةُ الأرضِ، قالَ تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، ومنْ محاسنِ هذا الدينِ وكمالِهِ أنهُ جاءَ بالأخلاقِ العاليةِ، والمبادئِ الساميةِ، التي تحكمُ الحياةَ وعلومَهَا، وتضمنُ استقرارَهَا واستمرارَهَا، محققةً المقاصد الكبرى والغاياتِ العظمى، التي أرادَهَا اللهُ تَعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ”.

رواه البيهقيُّ.

وقال إمام وخطيب المسجد الحرام أوشكتِ الإجازةُ على الانقضاءِ، وأيامُها على الانتهاءِ، غَنِمَ فيها قومٌ، وفرَّطَ آخرونَ، وها نحنُ على مشارفِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، تستأنفُ فيه رحلةُ العلمِ والمعرفةِ، وتنطلقُ مسيرةُ التعليمِ في طريقِ الرُّقي والازدهارِ والعِزَّةِ والافتخارِ.

واعلموا – رحمكم الله – أنَّ المؤسساتِ التعليمية إنما أُنشئتْ لتكونَ مناراتٍ للهُدى، وأبوابًا للخيرِ، ونماءً للعلمِ، وزكاءً للنفسِ، وتأسيسًا للفضيلةِ، فعلينا أنْ نستشعرَ هذه المسؤوليةَ العظيمةَ، وأنْ تتحدَ جهودُنَا لتحقيقِ تلكَ الأهدافِ الساميةِ، والغاياتِ النبيلةِ، وأنْ يكونَ مدارُ أعمالِنَا على الإخلاصِ؛ فما كان للهِ يدومُ ويتصلُ، وما كانَ لغيرهِ ينقطعُ ويضمحلُ، فإنما الأعمالُ بالنياتِ، يقولُ ابنُ المباركِ رحمه الله: “أَوَّلُ العِلْمِ النِّيَّةُ، ثُمَّ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الفَهْمُ، ثُمَّ الحِفْظُ، ثُمَّ العَمَلُ”.

 

وخاطب الدكتور الدوسري المعلمين والمعلمات قائلاً إنَّ التعليمَ مِهنةٌ جليلةٌ، تقلَّدهَا الأنبياءُ، وورثَهَا العلماءُ، وقامَ بها الأخيارُ والصلحاءُ، فطوبى لمن عَرَفَ حقَّهَا، وبذلَ الوسعَ في إتقانِهَا، فالتعليمُ رسالةٌ وأنتم حملتُهَا، وعليكمْ بعدَ اللهِ تُعقدُ الآمالُ، وتُحطُّ عندكمْ الرِّحَالُ، فبينَ أيديكمْ عقولُ الناشئةِ، فأغنوهُم بالعلومِ النافعةِ، وأَقْنُوهُم بالوصايا الجامعةِ، وابذلوا قصارَى جهدِكُم في التربيةِ على الأخلاقِ الفاضلةِ، والآدابِ الزاكيةِ، والمكارمِ الساميةِ، واغرسُوا في القلوبِ الولاءَ للهِ ولرسولِهِ، ثم السمعَ والطاعةَ لولاةِ الأمر، واحرصُوا على تعزيزِ الانتماءِ للوطنِ، والمحافظةِ على ثقافتِهِ ومقدراتِهِ، والسعي لتحقيقِ رؤيتِهِ وتطلعاتِهِ.

اقرأ أيضاًالمجتمعترقية الدكتور علي العقلا إلى رتبة أستاذ

يا مصابيحَ العلمِ والنورِ، لقدْ كانَ نبيُّكم؟ في تعليمِهِ حليماً رفيقاً، رحيماً شفيقاً، ييسِّرُ ولا يُعسِّرُ، يبشِّرُ ولا يُنفِّرُ، فعنْ معاويةَ بنِ الحكمِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: “فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي”.

رواه مسلمٌ.

 

ودعا فضيلته الآباء والأمهات إلى تربية الأبناء على حُبِّ العلمِ وإجلالِ العلماء وأنَّ الأدبَ قبلَ العلمِ رفعةٌ وسناءٌ، فهذه والدةُ الإمامِ مالكٍ كانتْ تُلبسُهُ أحسنَ الثيابِ، ثمَّ تقولُ لَه: اذهبْ إلى ربيعةَ فتعلَّمْ مِنْ أدبِهِ قَبلَ علمِهِ.

واعلمُوا – رحمكم اللهُ – أن لكم في التربيةِ والتعليم الجانبَ الأكبرَ، والحظَّ الأوفرَ، فإنَّ أولادَكُم ودائعُ عندَكُم، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”.

متفقٌ عليهِ.

وحث فضيلته الطلاب والطالبات على الجدِّ والاجتهادِ، وعلوِّ الهمةِ لنيلِ المرادِ، واستثمارَ ما أعطاكُم اللهُ منَ الهباتِ والملكاتِ للرقي في مدارجِ العلمِ، وتحقيق أعلى الدرجاتِ، فمنْ طلبَ عظيمًا بذلَ عظيمًا.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية ى الله

إقرأ أيضاً:

السياسة والإدارة في الإسلام بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب (2من2)

في نهاية حديثه عن السياسة في الإسلام لخص الشيخ العلامة الدكتور عبد الباقي الحقاني الأفغاني نتائج بحثه، والتي من أهمّها:

1 ـ الإسلام ليس مجرد اعتقاد قلبي سلبي، لا دخل له في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، بل هو عقيدة تنبثق منها شريعة يبنى عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص ويدبر الشأن العام.

2 ـ السياسة الشرعية هي كل ما يوافق مقاصد الشريعة، ويحقق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن لم يرد فيها نص شرعي، ولم يسبق بشأنها اجتهاد عقلي.

3 ـ السياسة العادلة من صميم الشريعة، أما السياسة الظالمة، فلا تمتُّ إليها بصلة، وإن أضيف إليها أي شكل من أشكال التأويل.

4 ـ السياسة فعل من الأفعال الشرعية، تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة، قد تكون واجبة، أو محرمة، أو مندوبة، أو مكروهة، أو مباحة، بحسب نوعها، ومرجعيتها، ومقاصدها ونتائجها والحاجة إليها.

5 ـ علاقة السياسة والدولة بالإسلام، علاقة عضوية بحيث لا يتصور أحداهما دون الآخر، فهما أشبه ما يكونان بعلاقة القلب أو الدماغ بالجسم، فلا حياة لجسم بدون قلبه، ولا قيمة له بدون دماغ، كما أنه لا قلب، ولا دماغ بدون جسم، ولذلك فلا يمكن لهما إلا يكونا متلازمين أحدهما مع الآخر، وإلا وقع الخلل فيهما كما هو واقع حال الأمة اليوم.

الإسلام ليس مجرد اعتقاد قلبي سلبي، لا دخل له في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، بل هو عقيدة تنبثق منها شريعة يبنى عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص ويدبر الشأن العام.6 ـ لا مجال للتمييز في السياسة الشرعية بين السيادة والحكم، فالإمام أو الرئيس في الدولة يسود باختيار الأمة ورضاها، ويحكم بشرع الله، ومشورة أهل العلم والدين، وكل من تولى دون اختيار الأمة، ومبايعتها الرضائية ولم يحكم بشرع الله، ومشورة أهل العلم والدين؛ فلا شرعية له، وعزله واجب، كلما أمكن ذلك، كما قال الإمام ابن عطية المالكي – رحمه الله – الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا لا خلاف فيه.

وأما الجزء الثاني من الكتاب: فكان عن الإدارة في الإسلام، وفي مقدمة الجزء الثاني اعتبر الدكتور عبد الباقي الحقاني ـ حفظه الله ـ أن النبي ﷺ معلّم الساسة، ومؤسس الدولة الأولى، ورئيس الإدارة والإداريين وأن الخلفاء الراشدين الأربعة (رضي الله عنهم)؛ هم النموذج الأعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتداء بهم فهم سادة الساسة وهم الذين شيّدوا ووسعّوا إدارة دولة الإسلام الأولى الفتيّة وساسوا الدنيا سياسة، لم يُرَ لها مثيل في العالمين.

ثم شرع في الباب الأول، فتحدث عن الإدارة، وفي الفصل الأول منه، تحدث عن الإدارة لغة واصطلاحاً، وعن أقسامها وصلة الإدارة بالسياسة. واعتبر أن صلة السياسة بالإدارة صلة وثيقة وقديمة ترجع إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوضح مثالا على ذلك، وهو حادثة الهجرة النبوية، فهي تدبير سياسي وقرار إداري في نفس الوقت. وأشار إلى الإدارة عبر التاريخ البشري، وأهميّـها في المجتمع الإنساني الإسلامي.

وتحدّث عن الإدارة في تاريخ الأنبياء، وضرب مثلاً بيوسف (عليه السلام)، فقد أدار تموين المملكة المصرية في خطة مدتها خمسة عشر عاماً، بنجاح لا مثيل له.

والنبي سليمان (عليه السلام) فقد ورد ذكره في القرآن الكريم، وأدار حكم بلاده على أساس عقد اتفاقيّات تجارية واضحة المعالم، وأدار مشروعات إنشاء وتعمير، وأبرم معاهدات أمن وسلام في القرن العاشر قبل الميلاد.

ذكر الله تعالى صفات سليمان (عليه السلام) القيادية في القرآن الكريم والتي من أهمها: الإيمان والعلم، والتنظيم، واليقظة، والمتابعة، والتقدم والحزم، والصرامة، وقدرته على بناء العلاقات المميزة، والكرم، وحسن الاستقبال، والتواضع والعدل، وقبول العذر، والهيبة، والوقار، والتثّبت من الأخبار، وسعة الصدر، وحسن الاستماع، والتدرج في تحقيق الأهداف، وتوظيف المهارات والمواهب والإمكانات، والاستماع لكبار مستشاريه، وحب الجهاد والبناء والإبداع، وعلو الهمة، والانفتاح على الآخرين، والقدرات الإدارية الهائلة في التخطيط والتنفيذ.

وتعتبر دولته في القرآن الكريم نموذجاً للحكم الرشيد في المقومات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والتشريعية والسياسية.

ومن ثمرات الحكم الرشيد في عهده:

ـ النهضة العلمية.
ـ والإعلامية.
ـ والعمرانية.
ـ والموصلات، والاتصالات.
ـ والنهضة العسكرية.
ـ والنهضة البحرية.
ـ والنهضة التجارية.
ـ والنهضة الحضارية القائمة على توحيد الله، وإفراده بالعبادة ومحاربة الشرك.

وقد توسعت في بيان حكمه الرشيد في كتابي: "الأنبياء الملوك داود وسليمان وهيكل سليمان المزعوم".

إن قصة سليمان (عليه السلام) تُعدُّ نموذجاً حضارياً ربّانياً تُستخرج منه قواعد في علم السياسة والإدارة.

وفي الفصل الثالث، من الجزء الثاني من كتاب السياسة والإدارة في الإسلام، توسع الشيخ الدكتور عبد الباقي الحقاني في الإدارة والتنظيم الإداري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والإدارة في عهد الخلفاء الراشدين، ومصادر استخراج أحكام الإدارة عند المسلمين.

وتحدث عن مقاصد الإدارة الإسلامية من حفظ الدين، والنفس والعقل، والنسل، والعرض، والمال، وعن وظائف الإدارة، كالتخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والرقابة.

وميّز بين الإدارة الإسلامية  والإدارة العلمانية، حيث تتقيد الإدارة الإسلامية في كل خططها وتنظيماتها وآلياتها بالشريعة؛ تحافظ عليها وتعمل وفقها، ويكون القرآن والسنة المصادر الأصيلة التي تستمد منها الإدارة الإسلامية خططها، ووسائلها في ظل العمل على تطبيق أحكام الشريعة خلافاً للإدارة التي لا توصف بكونها إسلامية، كالإدارة العلمانية، ونحوها، فهي إدارة يُبتغى منها تحقيق الأهداف المرصودة من غير نظر إلى التقيّد بحلال أو حرام، وهذا لا شك أنّ له تأثيره المباشر على الأهداف والخطط والأساليب والوسائل ومصطلح الإدارة.

علاقة السياسة والدولة بالإسلام، علاقة عضوية بحيث لا يتصور أحداهما دون الآخر، فهما أشبه ما يكونان بعلاقة القلب أو الدماغ بالجسم، فلا حياة لجسم بدون قلبه، ولا قيمة له بدون دماغ، كما أنه لا قلب، ولا دماغ بدون جسم، ولذلك فلا يمكن لهما إلا يكونا متلازمين أحدهما مع الآخر، وإلا وقع الخلل فيهما كما هو واقع حال الأمة اليوم.وفي الباب الثاني المتعلّق بالإدارة في الإسلام: أفرده لكيفية التوظيف وشروطه وآدابه.

وفي الفصل الأوّل، من الباب الثاني: تحدّث عن التوظيف وضرورته في الإدارة الإسلاميّة ومن له حقّ التوظيف، ومن يفوّض الإمام للتوظيف. واستدلّ بآثار في ذلك عن عمر وعثمان وعليّ (رضي الله عنهم).

وبيّن أنّ الطريقة الانتخابيّة في اختيار العمّال لم تكن غريبة عن نظام الحكم الإسلامي، واستدلّ بقول معاوية (رضي الله عنه) لأهل العراق: واطلبوا والياً ترضونه.

ووضّح شروط التوظيف وآدابها في الإدارة الإسلاميّة، وسنّه رسول الله في تقليد الوظائف ورعايته للكفاءة والخبرة وأنه لا يولّي الضعفاء جلائل الأعمال وعويصها مهما، ولو كانوا تقاة وثقات.

وبيّن منهج الاستشارة في تعيين الولاة وهي سنة ثابتة عن رسول الله والخلفاء الراشدين، وبين أهميّة القوّة والأمانة في التوظيف، وغير ذلك من الشروط، وتكلّم عن طلب الإمارة، وهل هي جائزة أو محرمة. واختار الشيخ عبد الباقي عدم الاستعجال في فتوى الجواز والحظر، وبيّن أقوال العلماء في ذلك، وتحدّث عن أجر الحاكم، واستدلّ بكلام العزّ بن عبد السلام – رحمه الله – عندما قال: أجمع المسلمون على أنّ الولايات من أفضل الطاعات، وأنّ الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحقّ ودرء الباطل، فإنّ أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فياله من كلام يسير وأجر كبير.

وأمّا ولاة السوء وقضاة الجور من أعظم الناس وزراً وأحطّهم درجة عند الله لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام.

وتحدّث الشيخ الدكتور عبد الباقي عن تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأجل المصلحة العامّة. وتوسّع في الاستدلال الإداري بتجارب الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) في ممارستهم وآثارهم القوليّة والفعليّة في المحاسبة والمراقبة واحترام الموظفين، وتوفير ما يحتاجون إليه، والزيادة والنقصان في مرتباتهم ومنعهم من ظلمهم للرعيّة ومحاسبتهم على التجاوز في ذلك، ومكافأة المحسن ومجازاة المسيء، والتسامح عن الهفوات، ورفع الموظف وترقيته تدريجيّاً.

وفي الباب الثالث: تحدّث عن وظائف الأمير في الإدارة الإسلاميّة، وأهم وظائفه؛ كالتعيين والتوظيف، والعزل، والتخطيط، والتنظيم، والتوجيه والإرشاد والتنسيق، والاتصال بعماله وأعوانه، والرقابة والكشف. واستدلّ بالسيرة النبويّة الشريفة وممارسة الخلفاء الراشدين الراشدة في كلّ ما له علاقة بين الأمير والعمال والأمراء من تعيين وعزل ومحاسبة وإنزال عقوبة، إلى غير ذلك من الصنوف الإداريّة المهمّة في تحقيق أهداف الدولة الإسلاميّة.

وفي الباب الرابع: تكلّم عن السياسة الخارجيّة وعن ضرورة العلاقات الخارجية وتاريخها، وبواعثها وعن العلاقة السياسية بين الدول الإسلاميّة وغيرها، وبداية علاقات الرسول ﷺ الخارجيّة، وعن أهمّ الأهداف السياسيّة الخارجيّة من دعوة الناس إلى دين الله تعالى والحفاظ على منافع الدولة واستقلالها، وأهميّة التمثيل الدبلوماسي في الإسلام، وإرسال السفراء وأهميّة السفير وأهم صفاته الجسمانيّة والخلقيّة، وفوائد إرسال السفراء إلى الدول الخارجية، ووظائف الرسل والسفراء، كالتمثيل الرسمي للدولة والدعوة إلى الإسلام، والتفاوض، وحماية مصالح الدولة الإسلاميّة ورعاياها لدى الدول المعتمد لديها، وتتبع الأوضاع في الجهة التي أوفدوا إليها، والاستعلام عن كافّة أحوالها. وتحدّث عن امتيازات المبعوثين السياسيّين، وموقف الإسلام من هذه الحصانات في الأعراف الدبلوماسيّة ومتى يعطل التمثيل الدبلوماسي. وعن المعاهدات ومشروعيّتها في الإسلام والوفاء بها، ومتى تنقض المعاهدات.

وفي الفصل الرابع تحدّث عن حفظ الوقار المركزي للدولة والإمارة.

وفي الفصل الخامس: تحدّث عن إكرام الضيوف الأجانب الوافدين من خارج الدولة.

وفي الباب الخامس: تحدّث عن الاستقالة والاستعفاء؛ أسبابها وآدابها. ففي الفصل الأوّل من الباب الخامس: تكلّم عن أسباب الاستقالة، كالورع والتقوى، وترجيح العبادة عن المنصب، ووجود مصلحة دينيّة أو اجتماعيّة، أو الضعف الصحيّ، والعجز عن تنفيذ المهام، وقلّة الخبرة في العمل الذي وُكّل إليه، أو شكوى الناس، أو التدخّل المشروع من أصحاب المناصب العليا، وغير ذلك من الأمور الإدارية المهمّة.

إنّ كتاب "السياسة والإدارة في الإسلام" إضافة نوعيّة للمكتبة والثقافة الإسلاميّة والحضارة الإنسانيّة حيث يقدّم رؤية سياسيّة استمدّت أصولها وقواعدها ونظريّتها من المصادر الإسلاميّة الأصيلة، بدون تردّد أو تلعثم أو انهزام نفسي أمام النظريّات السياسيّة الوافدة من غزاة هذه الأمّة.

إنّ الاهتمام بالفقه السياسي في عالمنا اليوم من الأمور العظيمة، في نهضة الأمّة الإسلاميّة، التي بدأت تتلمّس طريقها نحو الشهود الحضاري، وتقديم ما ينفع الناس في كلّ المجالات الحضاريّة.

إنّ ما قام به الدكتور عبد الباقي الحقاني في حديثه عن البعدين السياسي والإداري في الإسلام يخدم المشروع الحضاري الإسلامي السنّي، لكي يتصدّى للمشاريع الغازيّة، المرتبطة بالمنظومة الشيطانيّة في العقائد والقيم والأخلاق والتشريعات والقوانين والنظم... إلخ.

نحن في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الدراسات الرائعة التي تجمع بين العمق التاريخي والأبعاد الحضارية، والتي تساهم في تلبية احتياجات الإنسانية من خلال تقديم دين الإسلام العظيم الذي يوفر حلولاً شاملة ويجيب على جميع الأسئلة في مختلف جوانب الحياة، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَا ‌يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾.

إنّني أنصح الباحثين وطلّاب العلم والعلماء في علم السياسة والإدارة والعاملين لنهضة الإسلام، قراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وتحويله إلى ثقافة عامّة على مستوى شعوبنا وأمّتنا؛ لما فيه من فوائد جليلة، فقد استطاع الشيخ الدكتور عبد الباقي الحقاني أن يختصر لنا المسافات بما بذله من جهود مضينة متواصلة في البحث والتنقيب في المتون والشروح والمصادر والمراجع التي خطّها العلماء الأفذاذ في أمّهات كتب التفسير والحديث، والسير والفقه وأصوله والعقيدة، والتاريخ والسياسة والإدارة، بالإضافة إلى استخراج الفوائد، والقواعد والفقه السياسي والإداري، وجواهر المسائل الإداريّة، ودرر الفوائد السياسيّة التي تحتاجها الأمّة المسلمة في كلّ عصر وخصوصاً في زماننا هذا.

فهذا الكتاب يُعد مرجعًا قيّمًا للزعماء والملوك والأمراء والرؤساء، والساسة بمختلف مستوياتهم. فقد قدم منهجًا متميزًا للباحثين عن أنظمة الحكم السياسي والإداري في الإسلام، وذلك من خلال تقديمه في إطار راقٍ يعكس جمال الترتيب والتنظيم، في أسلوب رفيع في مخاطبة العقل الإنساني والفطرة السويّة والوجدان الإيماني.

إقرأ أيضا: "السياسة والإدارة في الإسلام" بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب (1من2)

مقالات مشابهة

  • برنامج «تعليم» يتبنى دعم طلاب العلم من الجنسيات المختلفه الدارسين في الجامعات
  • السياسة والإدارة في الإسلام بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب (2من2)
  • هل يجوز للراقصة قراءة الفاتحة قبل بدء عملها؟ سعاد صالح تُجيب (فيديو)
  • سعاد صالح توضح حكم قراءة الراقصة الفاتحة قبل بدء عملها -(فيديو)
  • عن ضرورة التسامح والتنوع الدينيين
  • العبادة الصامتة.. المقصود بها وفضلها في الإسلام
  • كيف نظم الإسلام العلاقة بين الرجل والمرأة؟
  • كأنك تراه.. رسم وتفاصيل وجه رسول الله
  • فضل دعاء الأم في الإسلام
  • استحلال الحرام "كفر".. عالم أزهري يرد على فتوى إباحة سرقة الكهرباء والغاز