مع أفول دولة الرفاه الاجتماعي، باتت جميع المجتمعات في مهب الصدمات العالمية الانعكاسية، والسياسات الاقتصادية غير المواتية وحياة غالب فئات المجتمع؛ الذي يحاول جاهدًا أن يحيا اعتمادًا على نفسه من هذه الآن، مع تغير مفاهيم الحماية والرعاية الاجتماعية، وتراجع دور الدولة وتخليها عن أداء بعض التزاماتها تجاه مواطنيها، ومع حدوث تفاوتات كبيرة بين أفراد المجتمع الواحد، نالت من تحقيق العدالة الاجتماعية، وكرسَت لأشكال مُتباينة من اللامساواة لا سيما المكانية تجددت محاولات إحياء دولة الرفاهية مُجددًا على أن تقوم على مبادئ المساواة في الفرص، والتوزيع العادل للثروة، والمسؤولية العامة للمواطنين غير القادرين على منح أنفسهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

وتظهر الخبرة الدولية، أن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية سيستمر أو يزداد دون الجهود المركزة على تهيئة الفرص للسكان الريفيين الفقراء، بمن فيهم الأشد فقرًا وضعفًا، أو تعديل علاقات القوة غير المتساوية التي تُسهم في توليد الفقر، ما يعني إلحاحًا ضرورة «الاستهداف الريفي» ضمن إطار إنمائي يلتحف «العدالة المكانية» عبر مجموعة من الإجراءات والتدابير المصممة بشكل هادف؛ لضمان استحقاق الفئات الأكثر فقرًا وحاجة، وتفعيل ما أمكن من مبادرات التنمية الريفية الداعمة.

ويُطَبَّق مفهوم العدالة المكانية من خلال نهجين رئيسين: الأول يتعلق باستكشاف التوزيع الاجتماعي والمكاني، فيما يتعلق بتحقيق التوزيع الجغرافي العادل للخدمات والمرافق لتلبية احتياجات ومتطلبات المجتمع، دون تمييز، أما النهج الثاني يقوم على تحليل عملية صناعة القرار فيما يتعلق بفهم الأبعاد المكانية للتمثيل، والهويات المتباينة، والممارسات الاجتماعية.

وبشكل عام يرتبط موضوع العدالة المكانية بالتفاوتات الإقليمية بين المناطق المختلفة داخل البلد الواحد «الريف والحضر، الشمال والجنوب، الأكثر تحضرًا والأكثر عشوائية»، ويبيّن النظر في الحالة المصرية على وجه الخصوص سوء تخصيص وتوزيع الموارد والخدمات والاستثمارات العامة بين المدن الحضرية والريف المصري، وأن ثمة تحيزًا لمناطق جغرافية بعينها، يكتنفها مغالطة النظر إلى المناطق الفقيرة بشكل متجانس؛ إذ يفترض توزيع الموارد وفق منطق العدالة لا المساواة، أي وفق الاحتياجات لا التساوي الكمّي لتقليل الفجوات التنموية.

وهذا ما ظهر جليًا في مسوح الفقر في مصر، وتزايد معدّلاته في ريف الوجه القبلي بنسبة تصل إلى 48%، وقد حال ضعف مستويات التنمية لسنوات عديدة في الريف المصري من الارتقاء بالمستويات المعيشية والتنمية البشرية للمواطنين بهذه القرى، وهو المؤشر الذي كان يشكل خطرًا، خاصة وأن أكثر من نصف سكان مصر يعيشون في الريف، والذين تبلغ نسبتهم 57.8% من إجمالي السكان، مقابل 42.2% يعيشون في الحضر.

ولهذا تم إطلاق المشروع القومي لتنمية الريف المصري ضمن مبادرة حياة كريمة في العام 2019، برؤية شابة، وقيادة داعمة، ليكون بمثابة الدفعة القوية نحو إنهاء هذه المعاناة، بهدف إحداث تغيير ارتقائي مخطط لأوضاع القرية المصرية من خلال تحسين جودة حياة أهالي القرى الريفية الأكثر فقرًا في إطار استراتيجية التنمية المستدامة، ورؤية مصر 2030؛ لتستهدف تحسين جودة حياة المواطن المصري، ومواجهة الفقر متعدد الأبعاد، مع توفير حياة كريمة تتسم بالاستدامة للفئات المجتمعية الأكثر احتياجًا والأكثر فقر، ومراعاة العدالة المكانية بما يكفل سد الفجوات التنموية بين المراكز والقرى وتوابعها، والاستثمار في تنمية الإنسان المصري، وإحياء قيم المسؤولية المشتركة بين الجهات الشريكة لتوحيد التدخلات التنموية الريفية.

وتقوم المبادرة على أربع ركائز أساسية، منها: تحسين خدمات البنية الأساسية، والخدمات العامة، وتحسين مستوى الدخول والاستفادة من كل معطيات التنمية الاقتصادية، فضلًا عن تدعيم مؤسسات المشاركة الشعبية من خلال تأهيل وتدريب المواطنين على المشاركة الشعبية، وإتاحة فرص أوسع لكافة فئاتهم في المشاركة في كل مراحل تخطيط وتنفيذ وإدارة وتشغيل المشروعات والخدمات.

وعليه، قسمت القرى المستهدفة من جانب المبادرة وفقًا لقاعدة بيانات خرائط الفقر الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لتحديد القرى الأكثر فقرًا مرتبة حسب نسبة الفقراء بكل قرية. وتغطي المبادرة في مرحلتها الأولى أكثر من 4500 قرية، بإجمالي 175 مركزًا في 20 محافظة.

وتتضمن المبادرة ثلاث مراحل: الأولى تشمل القرى ذات نسب فقر تتجاوز 70% وهي الأكثر احتياجًا وتحتاج إلى تدخلات عاجلة، والثانية القرى ذات نسب الفقر التي تتراوح بين 50% إلى 70%، والثالثة القرى ذات نسب الفقر أقل من 50%، بإجمالي استثمارات تتجاوز 500 مليار جنيه، غايتها الاستهداف الريفي، بتنويع الفئات المستفيدة من المبادرة، حيث الأسر الأكثر احتياجًا في التجمعات الريفية والعشوائية، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة، والنساء المعيلات والمطلقات، والأطفال الأيتام، والشباب العاطل عن العمل، ومظلة رسمية في نفس الآن لعمل الشباب المتطوع.

وجاءت مبادرة حياة كريمة كحاضنة مجتمعية جامعة للأنماط الأساسية الثلاثة لبرامج الحماية الاجتماعية، والتي تشتمل على برامج الحماية التى لا تستند إلى اشتراكات أو مساهمات مالية، والتي تشتمل على جميع المساعدات الاجتماعية التي تقدم للفئات الأكثر احتياجًا والبرامج المعنية بالتمكين الاقتصادي والمساعدات ذات الطابع الإغاثي والطارئ عبر شبكات الأمان الاجتماعي، وبرامج الحماية الاجتماعية القائمة على اشتراكات المستفيدين أو الممولين، مثل نظام التأمينات، وبرامج سوق العمل النشطة، وإدارة مخاطر هذا السوق لحماية الفئات الأفقر وإدماج العاطلين، والشكل الأساسي هو أن تدفع الحكومة نسبة معينة، والمجتمع المدني يساهم بنسبة أخرى.

ولتحقيق جدارة الأداء وسرعة الإنجاز وحوكمة جميع أركان المشروع القومي لتطوير الريف المصري «حياة كريمة»، بُغية الاستهداف الريفي والعدالة المكانية في نفس الآن؛ باشرت الدولة منظومة إلكترونية متكاملة للمتابعة مبنية على منهجية البرامج والأداء، حيث تربط بين الاعتمادات الموجهة للتدخلات التنموية والعائد المستهدف منها، من خلال التحديث اللحظي لمؤشر جودة الحياة (معدل إتاحة الخدمات الأساسية)، كما ترتكز على التخطيط المبني على الأدلة والاستفادة من قواعد البيانات المتوفرة بالدولة، فضلاً عن تكاملها مع منظومة التغيرات المكانية.

وتقييم المبادرة بمراحلها المتحققة، ينبأ عن الاستهداف الريفي، حيث استطاعت مراحل عمل المبادرة تحقيق العدالة المكانية، وهي من أهم مستهدفات خطة الدولة، علاوة على تحسين مؤشر جودة الحياة، وخفض معدلات الفقر متعدد الأبعاد في القرى المستهدفة، وعليه، تم إدراج المبادرة ضمن سجل منصة «الشراكات من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة» التابعة للأمم المتحدة، وهذا دليل استيفاء المبادرة للمعايير الذكية للمنصة بكونها محددة الأهداف، وقابلة للقياس، وقابلة للإنجاز، وقائمة على أساس الموارد المتاحة، ومحددة زمنيًا، وأنها ضمن أفضل الممارسات التنموية ومسرعات أهداف التنمية المستدامة 2030؛ نظرًا لإحداثها تغييرًا ارتقائيًا مخططًا لأوضاع القرية المصرية.

ولا يزال المشروع القومي لتنمية الريف المصري «حياة كريمة» هو الملاذ الآمن والأمل المرتجي للاستهداف الريفي والعدالة المكانية الغائبة؛ فهو البرنامج الإنمائي الأضخم من حيث التمويل، والأكبر من ناحية النطاق الجغرافي، والأعلى من حيث المستهدف البشري، وعليه يُعقد العزم وحلم الجمهورية الجديدة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حياة كريمة مؤسسة حياة كريمة التنمية المستدامة الريف المصري الأکثر احتیاج ا الریف المصری الأکثر فقر حیاة کریمة من خلال

إقرأ أيضاً:

د.غانم السعيد يكتب: الدين واللغة.. دعائم الهوية

في الآونة الأخيرة صدر قراران أعتقد- من وجهة نظري- أنهما سيغيران مسار التعليم في مصر، ويدفعان إلى تعزير الهوية العربية والإسلامية في نفوس أبناء الأمة، القرار الأول، هو اعتبار الدين مادة أساسية على طلاب وزارة التربية والتعليم، فهذا القرار هو بداية الحقيقة للعودة إلى منظومة القيم والأخلاق التي  أوشكت على التلاشي والذوبان، ونظرا لسقوط قيمة الدين من طلاب المدارس والجامعات، بسبب إنها مادة غير مهمة، لأنها لا تأثير لها في نجاح الطالب من عدمه، مما أدى إلى أن يكون هناك شبه انفصال بين الطالب وبين بدائيات دينه، وهذه تعد ثغرة كبيرة في نظام التعليم نفذ منها أصحاب الفكر المتطرف إلى استقطاب كثير من الطلاب ممن لهم ميول دينية فطرية، فحاولوا أن يملأوا هذا الفراغ الذي لم تستطع وزارة التربية والتعليم أن تسده، بسسب ضعف المادة العلمية المقدمة للطالب، وعدم قدرتها على الإجابة على كثير من الأسئلة التي تشغل فكر الطلاب، إلى جانب عدم الاهتمام بها أصلا لأنها لا تؤثر في مجموعه، فجاء قرار وزير التربية والتعليم - الشجاع الذي أحييه عليه- ليسد هذه الفجوة الكبيرة في مناهج التعليم، ويصبح الفكر الديني الوسطي يتلقاه الطالب تحت عين ورقابة الدولة والمجتمع، ونأمل - حتى تكون للقرار ثمرته المرجوة منه- أن يكون محتوى المادة من القوة والإحاطة بحيث يسد حالة الفراغ الديني لدى الطالب، وأن يتناول واقع الناس وظروفهم الحياتية، والقضايا التي عليها خلافات تؤدي إلى قلق المجتمع واضطرابه، كما نسمع ونرى كل عام ما يدور من حول تهنئة النصارى بعيدهم، أو الخلاف حول إخراج زكاة الفطر فهناك من يتمسك بأن تكون من نفس الأنواع حددها رسول صلى الله عليه وسلم- ومنهم من يقول يجوز إخراجها نقدا... الخ ذلك من خلافات تعكر صفو المجتمع، وتفتته، وتقضي على هويته ؟؟ الخ

أما القرار المهم أيضا في هذا السياق فهو قرار وزير الأوقاف، بتكليف من رئيس الجمهورية، بإعادة الكتاتيب لتؤدي دورها المنوط بها، والتشجيع إلى إنشاء أعداد كثيرة منها في جميع أنحاء الوطن، ومعلوم أن الكتاتيب كان لها دور مهم ومتعاظم في تربية النشء على حفظ كتاب، وتعلم القراءة والكتابة الصحيحة إملائيا، والتي نعاني منها كثيرا في المصالح الحكومية، وحتى في الرسائل والبحوث العلمية، كما أن الكتاتيب تعلم الطالب كيفية النطق الصحيح لحروف اللغة، وقراءة وحفظ  القرآن الكريم من أهم ما يقوِّم اللسان لدى الأطفال، ويُسهل عليهم النطق باللغة العربية الفصيحة، وهذا  سيؤدي إلى إحساس التلميذ والطالب بقيمة لغته، ويزداد اعتزازه بها، كما أن قرار وزير التربية والتعليم باعتماد الدين مادة أساسية سيعيد من جديد منظومة القيم الأخلاقية التي تصحرت وجفت منابعها من نفوس أبنائنا، كما يؤكدان معا على الهوية، ويدعمان الانتماء.
وللأسف فإننا سنجد أصوتا نشازا ترفض القرارين، وستعمل على إلغائهما من خلال تشويه أغراضهما السامية، لأنهما يرونهما خطرا على مشروعهم القائم على تذويب الهوية، وهدم منظومة القيم التي تعتمدها الأمة في كل تاريخها كأساس من أهم أسس تقدمها ونهضتها، والمشكلة في هؤلاء أنهم - مع كونهم قلة- يسيطرون على كثير من وسائل الإعلام المختلفة التي يعلنون من خلالها أفكارهم المسمومة التي بلا شك ستؤثر في عقول كثير من الناس فتجعلهم ينساقون وراءهم، ويشجعون أفكارهم الهدامة، ومن هنا أطالب وسائل الإعلام المختلفة أن تقوم بدورها المنوط بها  في تحقيق الوعي المجتمعي بمثل هذا القضايا المهمة والخطيرة، وأن تشجع مثل هذه القرارات الجريئة التي تحاول أن  تعيد توجيه بوصلة الأمة إلى الأهداف والغايات النبيلة والسامية التي من خلالها يتم الحفاظ على هوية الأمة.

الدكتور غانم السعيد - أستاذ الأدب والنقد، عميد كليتي الإعلام واللغة العربية السابق جامعة الأزهر

مقالات مشابهة

  • "التضامن": تنفيذ 1040 نشاط متنوع في 295 قرية لرفع وعي الأطفال بخطورة المخدرات
  • صندوق مكافحة الإدمان يواصل جهوده التوعوية في قرى "حياة كريمة" خلال 2024
  • مايا مرسي تستعرض جهود صندوق الإدمان في القرى المستهدفة من حياة كريمة خلال 2024
  • «التضامن»: تنفيذ 1040 نشاطا متنوعا في 295 قرية لرفع وعي الأطفال بخطور الإدمان
  • قومي المرأة بأسوان يواصل تنظيم جلسات الدوار بقرى المبادرة الرئاسية حياة كريمة
  • الاستاذ عقيل العجالين يكتب .. متى يكون القضاء تعسفيا.؟
  • د.غانم السعيد يكتب: الدين واللغة.. دعائم الهوية
  • انطلاق القوافل الرياضية للقرى الأكثر احتياجا بسوهاج
  • «حياة كريمة» تطلق قافلتين طبيتين في محافظتي الشرقية والبحيرة
  • معاون محافظ بني سويف يتابع جاهزية و إجراءات دخول الخدمة لعدد من مشروعات حياة كريمة بقرية بني عدي بمركز ناصر.