الكتاب : السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا السودان أنموذجا
الكاتب: د. هاني محمد امبارك
الناشر: المركز العربي الديمقراطي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ط1 برلين المانيا،2023.
عدد الصفحات: 170 صفحة

ـ 1 ـ


قبل بداية الحرب الباردة، لم تكن الولايات المتّحدة الأمريكية  تضع أفريقيا ضمن أولوياتها ولم تكترث بتقسيمها بين القوى الاستعمارية الأوروبية.

ولكن تحوّلها إلى قوّة عظمى ونشأة الاتحاد السوفييتي المختلف عنها إيديولوجيا جعلها تأخذ في بسط نفوذها على هذه القارة لتحول دون انتشار المدّ الاشتراكي. وبعد انتهاء الحرب الباردة أضحت إفريقيا بعد مجالا حيويا. فأضحت الولايات المتحدة تعمل على انتزاع نصيبها منه. وسياستها تجاه السودان أنموذج جيّد على ذلك.

ـ 2 ـ

يعسر تحديد مفهوم السياسة الخارجية التحديد الدقيق الذي يسلّم به مختلف الباحثين في العلوم السياسية.  فهو يرتبط بالمتحولات الكثيرة على مستوى الفكر والممارسة ويتأثر بطبيعة العلاقات الدّولية بين مرحلة وأخرى. فاستقلال القرار الوطني اليوم، على سبيل المثال، بات مفهوما مائعا بالنّظر إلى عولمة الاقتصاد وتحوّل الشركات العالمية الكبرى إلى كيانات تخترق الدّول الكثيرة أو بالنّظر إلى عولمة الاتصال الذي أوجد وضعيات عابرة للدول شأن الجرائم الإلكترونية أو العملات الافتراضية. ومع ذلك فإن رصد تطور فهم السياسة الخارجية يؤرخ بشكل مّا للتحوّل في العلاقات بين الدّول ويبرز ظهور قوى إقليمية وتراجع أخرى. غير أنّ هاني محمد امبارك يحدد السياسة الخارجية من خلال ارتباطها بأهداف تعمل الدول وفقها على تحقيق مصالحها، من ذلك تعبئة الموارد واكتساح الأسواق وضمان حقوق مواطنيها في الخارج.

لترويض السودان عملت الولايات المتحدة على تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا. ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على إفريقيا بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.وتكمن أهمية تحليل أبعاد السياسة الخارجية لدولة ما في شرح خلفياتها الإيديولوجية وطموحاتها الإقليمية والدّولية. فتكون زاوية خاصّة ضمن المنظور الكلي الذي يحاول تفسير العلاقات الدولية في مرحلة تاريخية بعينها.

تصاغ السياسة الخارجية إذن في سياق دولي محدّد، وتشمل العديد من القضايا الأمنية العسكرية، والسياسية الديبلوماسية، والاقتصادية التنموية، والثقافية العلمية، وغيرها. وتنفذ من خلال مجموعة من الوسائل المناسبة. ولا بدّ لصانع القرار السياسي قبل أن يرسم أهداف سياسته الخارجية أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانيات دولته والمادية والمعنوية والاقتصادية والبشرية. وطبيعي أن تميل الدول النامية إلى التركيز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والرمزية. ولكن كثيرا ما تعمد الدّول العظمى إلى الضغط على شركائها لضمان مصالحها باستعمال نفوذها كاستدعاء السفراء للتشاور أو قطع العلاقات. وقد يصل الأمر إلى القوة الإلزامية لفرض تصوّراتها واكتساب الولاء لها في بعض الأحيان.

ورغم أن سياسة أي بلد الخارجية لا تنفصل في جوهرها عن سياسته الداخلية، من جهة علاقتها بطبيعة النظام السياسي، وخصائصه الأيديولوجية وخصائص القيادة السياسية، ورغم كونها تعدّ مصدرا من مصادر اكتساب الشرعية وحشد المناصرين وتقوية الأطراف الحاكمة لجبهاتها الدّاخلية، يسود الاتفاق غالبا على تحييدها عن الجدال السياسي الداخلي.

ـ 3 ـ

وليست السياسة الخارجية الأمريكية واحدة على مرّ التاريخ. فقد مرّت بجملة من الأطوار. فكانت  تستند في تاريخ الولايات المبكّر، إلى مبدإ العزلة الذي نادى به الرئيس جورج واشنطن. ومداره على عدم الانخراط في العلاقات الخارجية المتعدّدة والاتجاه إلى التنمية والاستغراق في الإنتاج ومراكمة الثروة. ولهذا المبدإ خلفيات جغرافية وعسكرية. فالولايات المتحدة المتوارية بعيدا وراء الأطلسي لم تكن بحاجة إلى الانخراط الكبير في مجتمع دولي تهيمن عليه القوى العظمى تنفّذ مشاريعها الاستعمارية في ظل تقاسم وتخطيط مسبقين.

وفي 1919م ومع نهاية الحرب العالمية الأولى بلورت الولايات المتحدة فكرة الأمن الجماعي فأسهمت في بعث عصبة الأمم وسهرت على تحقيقه. ولكن مجلس الشيوخ المأخوذ بفكرة العزلة رفض التصديق عليها مما أعاد سياستها الخارجية إلى الانكفاء من جديد حتى 1939. ولكن الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر وضع نهاية لهذه السياسة ودفع بالولايات المتّحدة إلى الانخراط لاحقا في الحرب العالمية الثانية. فتحوّلت بذلك من طور العزلة إلى عقد التحالفات التي أساسها فكرة التعاون لتحقيق جملة من الأهداف الاقتصادية أو العسكرية. وكان تأسيس الحلف الأطلسي (الناتو) بما هو معاهدة للدفاع المشترك ردة الفعل الغربية التي قادتها الولايات المتحدة على حصار برلين من قبل الاتحاد السوفييتي وعلى الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا 1948.

تظل شخصية الرئيس مؤثرة في توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة (من ذلك التحوّل الكبير في علاقة الولايات المتحدة بروسيا وبلدان الخليج بين عهدي ترامب وبايدن مثلا). ولكنّ عنصرين قارّين يجسّدان ثوابتها هما الأمن القومي ويشمل حماية المصالح الأمريكية في الخارج والدفاع عن الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية. لذلك تتحرّك هذه السياسة في دائرة البراغماتية. فتعمل على تحقيق المصالح وتحدّد طبيعة علاقتها بالطّرف المقابل عبر إدراك مصادر قوتها وحجم إمكانياتها الذّاتية وبالنّظر، في الآن نفسه، إلى البيئة الخارجية من قوى ومواقف ومتغيّرات ومكاسب.

ـ 4 ـ

السياسة الخارجية الأمريكية وإفريقيا:

دفعت التحولات التي باتت تعيشها إفريقيا منذ الخمسينيات الولاياتِ المتحدة إلى إعادة النظر في سياساتها السابقة تجاه إفريقيا.  ضمن هذا الأفق وقطعا مع مبدإ العزلة أرسل الرئيس ايزنهاور " في عام 1957م نائبه ريتشارد نیکسون إلى أفريقيا. فزار ثماني دول دفعة وحدة من أجل تحليل الأوضاع المتغيرة التي تشهدها القارة في ذلك الوقت. وانطلاقا من تقريره ضُبطت  أبعاد السياسة الأمريكية في القارة السمراء التي تظل قائمة حتى اليوم رغم تغيّر الظروف الجيو ـ سياسية. فقد دعا التقرير إلى ضرورة وضع سياسة أمريكية مستقلة تجاه أفريقيا. ورأى أن ذلك يتحقّق عبر مساندة موجة الاستقلال والتحرر الوطني فيها. وعليه فقد دعا إلى أن تعترف كافة إدارات الحكومة الأمريكية بالأهمية المتزايدة لأفريقيا بالنسبة للمصالح الأمريكية. ولكن ما لم يذكره الباحث أن هذا المبدأ يتنزّل ضمن خطة أمريكية تعمل على تجريد القوى الأوروبية من مصادر قوتها بعد أن باتت هي القوة العالمية العظمى.

ويختزل الباحث هذه السياسة في عدد محدّد من النقاط. فقائمة المصالح والأهداف القومية التي كانت تشكل محددا للسياسة الأمريكية تجاه إفريقيا اشتملت على أربع قضايا أساسية هي احتواء الشيوعية أولا (في مرحلة الحرب الباردة) وحماية خطوط التجارة البحرية ثانيا وتأمين الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام ثالثا ودعم القيم الليبرالية، ولاسيما تلك الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان رابعا، وإن كنّا نحترز على هذا الفصل الرابع ونقدّر أنه ليس غير مسألة شكلية وغير مبرر للتدخّل في الشأن الداخلي لهذه الدّول. وتورطها في دعم بعض الانقلابات ضد الحكومات المنتخبة أو مباركتها على الأقل دليلنا على ذلك.

ـ 5 ـ

 السودان وأمريكا:

للعلاقات السودانية الأمريكية تاريخ متقلّب بتقلب الحكام أو باختلاف الإستراتيجيات التي تعتمدها الولايات المتّحدة الأمريكية. وأوّل مراحلها كان بعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م على يد الرئيس الأسبق إبراهيم عبود.

كان المبدأ الذي يحكم السياسة الأمريكية عندئذ هو الاعتماد على الأنظمة العسكرية. فللأسباب الكثيرة كانت ترى فيها طرفا طيّعا يمكن التعامل معه بيسر. ولكن سريعا ما تدهورت هذه العلاقة بعد الإطاحة بعبود في أكتوبر 1964 ثم قطعت نهائياً بعد حرب 1967م. وساءت أكثر بعد انقلاب مايو 1969م الذي قاده جعفر النميري وانحاز إثره إلى المعسكر الشرقي. فاعترف بألمانيا الشرقية وتبنى نزعة معادية للرأسمالية. ولكن سريعا ما عدّل سياسته بعد المحاولة الانقلابية الشيوعية الفاشلة (1971) التي دبّرها الرّائد هشام العطا ضدّه. فحصل التقارب بين السودان وأمريكا ممن جديد.

بديهي أن  ثمار هذه العلاقة ستكون اقتصادية أساسا. فاستثمرت الشركات الأمريكية في مجال النفط  وقدّم صندوق النقد الدولي قروضه إلى السودان. وقدّم  الرئيس النميري العون بالمقابل في عملية نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. النزاع في دارفور.

ـ 6 ـ

 من العزلة إلى العمل على عزل نظام حكم الجبهة الإسلامية في السودان

يتنزّل إذن التفات الولايات المتحدة الأمريكية إلى السودان في سياق عام من سياستها، ظهر بعد نهاية الحرب الباردة وكان يستهدف فرض نظام عالمي جديد أحادي القطب. وفي هذه الأثناء كشف حكم عمر البشير الذي ترسّخ بعد ذلك، عن نزعته الإسلامية وعن عمله على استقطاب رموز الإسلام السياسي المنبوذين في بلدانهم. فكان الصّدام المحدث للتحوّل الكبير الثالث في تاريخ هذه العلاقات. فسجّل في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب مدة طويلة وعوقب بالحظر الاقتصادي منذ 1997م.  وجعلت الحكومة الأمريكية تسعى إلى تغيير نظام الحكم. ففرضت إدارة كلينتون عليه حزمة إضافية من العقوبات لاحقا بسبب حرب دارفور. وفي هذه الأثناء تصاعد نسق الحرب في جنوب السودان إلى أن وقع تقسيم البلاد عمليا إلى سلطة في الشمال وأخرى في الجنوب.

يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. يتثمل في اتجاهها إلى إفريقيا للسيطرة على مصادر الطاقة، ف نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط أفريقيا وغربها وهو مرشّح اليوم ليصل إلى  (20%).

ولترويض السودان عملت الولايات المتحدة على  تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا. ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على إفريقيا بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.

ـ 7 ـ

وعامة يحاول الباحث أن يردّ علاقة الولايات المتّحدة بالقارة الإفريقية إلى أربع مراحل. فالمرحلة الأولى عند، تمتدّ منذ تأسيس دولة الولايات المتحدة خلال القرن 18م إلى الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وقد تميزت بضعف الارتباط بين الجانبين نتيجة سياسة العزلة. وتمتد المرحلة الثانية منذ بداية الحرب العالمية الأولى إلى الخمسينيات. فكانت أمريكا حذرة في تعاملها مع القارة الإفريقية باعتبارها منطقة نفوذ الدول الاستعمار. ومثلت فترة الحرب الباردة المرحلة الثالثة ، فمع اشتداد الاستقطاب بين المعسكرين، سعت الولايات المتّحدة إلى احتواء الأنظمة في المنطقة. وتمثل مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي المرحلة الرابعة وسمتها توسيع النفوذ. فتعاملت الإدارة الأمريكية مع إفريقيا باعتبارها تمثّل المستقبل.

يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. يتثمل في اتجاهها إلى إفريقيا للسيطرة على مصادر الطاقة، ف نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط أفريقيا وغربها وهو مرشّح اليوم ليصل إلى (20%).في هذه المرحلة يتضح وجود اتجاهين رئيسيين يتوازيان في التفكير الاستراتيجي الأمريكي بشأن مستقبل أفريقيا في السنوات القادمة وعلاقتها بالسودان تحديدا. يتمثّل الأول في ترسيخ صورة فوضوية وتشاؤمية عن أفريقيا في الأذهان، ويجد أن عددا من الدبلوماسيين والمفكرين يروجون له ومن أمثلة ذلك مقالة كابلان عن الفوضى القادمة في أفريقيا فيمثل العصا. وعلى خلافه يمثله الاتجاه الثاني الجزرة. فيروّج لأفريقيا المزدهرة المندمجة في الاقتصاد العالمي. والفيصل بينهما هو مدى استجابتها لبرامج التكيف الهيكلي، وقيامها بالتحول نحو الديمقراطية الليبرالية، أي مدى سيرها في ركب تصوّر الولايات المتحدة الأمريكية للعالم الذي تتسيّده هي ويكون الآخرون مجرد تابع وهامش ملحق بالأصل.

ضمن الأفق الثاني يمكن أن ننزل علاقة السودان ما بعد البشير بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد رحّبت به عضوا كامل الانخراط في المجتمع الدولي بعد ربع قرن من القطيعة وتعهّدت بالعمل على بناء علاقات قوية معه لمساعدته على السير في "طريق الديمقراطية" والعمل معه على استكشاف الفرص التعاون الاقتصادي المستقبلية.

ويمتلك السودان من الأهمية الجيو ـ إستراتيجية ما يجعله يثير لعاب أهم الفاعلين الدوليين. فهامش التنمية فيه كبير وأراضيه الغفل القابلة للاستصلاح الزراعي شاسعة. لذلك يمثّل اليوم موضوع تنافس بينها وبين الصين التي تنتشر بوتيرة سريعة في إفريقيا وروسيا التي اتفقت مع الخرطوم على إنشاء قاعدة روسية في البحر الأحمر.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب السودان العلاقات امريكا السودان علاقات كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المتحدة الأمریکیة الولایات المت حدة الولایات المتحدة السیاسة الخارجیة الحرب العالمیة الحرب الباردة حدة الأمریکیة الد ول

إقرأ أيضاً:

NYT: كيف عزّز ترامب انعدام الثقة ودفع حلفاء الولايات المتحدة بعيدا؟

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مقالا، للصحفي داميان كيف، قال فيه إنّ: "من الصعب جدا بناء الثقة، ومن السهل تدميرها. وتعيش أمريكا وشركاؤها اليوم في دوامة من انعدام الثقة".

وبحسب المقال الذي ترجمته "عربي21" فإنّه: "طُوّرت طائرة إف-35، وهي مقاتلة من الجيل الخامس، بالشراكة مع ثماني دول، ما يجعلها نموذجا للتعاون الدولي. عندما قدّم الرئيس ترامب خليفتها، طائرة إف-47، أشاد بنقاط قوتها - وقال إن مزايا النسخة المباعة للحلفاء ستُخفّض عمدا، مبيّنا أن ذلك منطقي "لأنه يوما ما قد لا يكونون حلفاءنا".

وتابع: "بالنسبة للعديد من الدول المتمسّكة بالولايات المتحدة، أكد تصريحه استنتاجا ذا صلة: أنه لم يعد بالإمكان الوثوق بأمريكا. حتى الدول التي لم تتأثر بشكل مباشر بعد، تستطيع أن ترى إلى أين تتجه الأمور، حيث يهدد ترامب اقتصادات حلفائه، وشراكاتهم الدفاعية، وحتى سيادتهم".

وأضاف: "في الوقت الحالي، يتفاوضون لتقليل الألم الناجم عن الضربة تلو الأخرى، بما في ذلك جولة واسعة من الرسوم الجمركية المتوقعة في نيسان/ أبريل. لكنهم في الوقت نفسه يتراجعون. استعدادا لأن يصبح الترهيب سمة دائمة للعلاقات الأمريكية، ويحاولون اتباع نهجهم الخاص".

وتابع: "بعض الأمثلة على ذلك: أبرمت كندا صفقة بقيمة 4.2 مليار دولار مع أستراليا هذا الشهر لتطوير رادار متطور، وأعلنت أنها تُجري محادثات للمشاركة في التعزيزات العسكرية للاتحاد الأوروبي".

"تُعيد البرتغال ودولٌ أخرى في حلف الناتو النظر في خطط شراء طائرات إف-35، خوفا من السيطرة الأمريكية على قطع الغيار والبرمجيات" وفقا لمثال آخر، وأيضا: "تسارعت وتيرة المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والهند فجأة بعد سنوات من التأخير".

وفي مثال آخر: "لا تُعزز البرازيل تجارتها مع الصين فحسب، بل تُجريها بالعملة الصينية، مُهمّشة بذلك الدولار"، وأيضا: "في العديد من الدول، بما في ذلك بولندا وكوريا الجنوبية وأستراليا، أصبحت المناقشات حول إمكانية بناء أو تأمين الوصول إلى الأسلحة النووية لحماية نفسها أمرا شائعا".

ووفقا للمقال: "كان هناك أصلا قدرٌ من التباعد عن الولايات المتحدة، إذ ازدادت دولٌ أخرى ثراء وقدرة، وانخفض اقتناعها بأن الدور الأمريكي المحوري سيدوم. لكن الأشهر القليلة الماضية من عهد ترامب الثاني قد عززت هذه العملية".


وأضاف: "يساعد التاريخ وعلم النفس في تفسير السبب. فإنّ قليل من المؤثرات القوية وطويلة الأمد على النواحي الجيوسياسية لها مفعول كما هو الحال في انعدام الثقة، وفقا لعلماء الاجتماع الذين يدرسون العلاقات الدولية. فقد أفسد انعدام الثقة مرارا وتكرارا المفاوضات في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأبقى توترات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مشتعلة لعقود".

"يجادل من يُسمّون بالواقعيين -الذين يرون العلاقات الدولية على أنها صراعٌ غير أخلاقي بين دول ذات مصالح ذاتية- بأن الثقة يجب أن تُقيّم دائما بتشكك، لأن الإيمان بالنوايا الحسنة أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر" وفقا للمقال نفسه الذي ترجمته "عربي21".

وأردف: "لكن ترامب أثار أكثر من مجرد شكوك حذرة. قوبل انعدام ثقته بحلفائه، والذي يتجلى في اعتقاده بأن مكاسب الآخرين خسائرٌ لأمريكا، بالمثل. ما خلقه هذا الأمر مألوفٌ -دوامة انعدام الثقة. إذا كنت تعتقد أن الشخص الآخر (أو الدولة) غير جدير بالثقة، فأنت أكثر عرضة لخرق القواعد والعقود دون خجل، كما تُظهر الدراسات، ما يعزز عدم ثقة الشريك، مما يؤدي إلى المزيد من العدوان أو تقليل التفاعل".

وفي السياق ذاته، كتب عالم النفس بجامعة أوريغون، بول سلوفيك، في دراسة رائدة عام 1993 حول المخاطرة والثقة والديمقراطية: "الثقة هشة؛ عادة ما تُبنى ببطء، ولكن يمكن تدميرها في لحظة، بحادث أو خطأ واحد"، مؤكدا: "في حالة  ترامب، يُشير حلفاؤه إلى هجوم مُستمر".

وتابع: "أذهلت تعريفاته الجمركية على الواردات من المكسيك وكندا، والتي تجاهلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي وقّعها خلال ولايته الأولى، جيران أمريكا".

وأضافت: "كانت تهديداته بجعل كندا ولاية أمريكية وإرسال الجيش الأمريكي إلى المكسيك لملاحقة عصابات المخدرات تدخلات صارخة في السيادة، لا تختلف عن مطالبه بغرينلاند وقناة بنما. إن إلقاء اللوم على أوكرانيا في الحرب التي أشعلتها روسيا زاد من نفور الحلفاء، مما دفعهم إلى التساؤل: هل الولايات المتحدة تدافع عن الديكتاتوريين أم عن الديمقراطية؟".

وأردفت: "بسرعة نسبية، أدركوا أنه حتى لو كانت مقترحات  ترامب الأكثر وقاحة -مثل تحويل غزة إلى ريفييرا شرق أوسطية- مجرد خيالات، فإنّ خطوط التوجهات تشير إلى نفس الاتجاه: نحو نظام عالمي أقل شبها بالألعاب الأولمبية وأكثر شبها بلعبة: القتال النهائي".

وأكدت: "ربما لا توجد دولة أكثر صدمة من كندا. فهي تشترك مع الولايات المتحدة في أكبر حدود غير محمية في العالم، على الرغم من التفاوت الكبير في القوة العسكرية بينهما. لماذا؟ لأن الكنديين كانوا يثقون بأمريكا. أما الآن، فهم لا يثقون بها إلى حد كبيرش"؛ فيما صرّح رئيس وزراء كندا، مارك كارني، الخميس، بأن علاقة بلاده التقليدية مع الولايات المتحدة قد "انتهت".


وقال أستاذ الشؤون العالمية بجامعة تورنتو، برايان راثبون: "لقد انتهك ترامب الافتراض الراسخ في السياسة الخارجية الكندية، بأن الولايات المتحدة دولة جديرة بالثقة بطبيعتها"؛ مضيفا: "هذا يُهدد بشدة المصالح الكندية الأساسية في التجارة والأمن، مما يدفعها إلى البحث عن بدائل".

وأكد: "تُعتبر الوطنية الاقتصادية جديدة بعض الشيء على كندا، لكنها أدت إلى ظهور حركة "اشترِ المنتجات الكندية" التي تحث المستهلكين على تجنب المنتجات والأسهم الأمريكية. كما يُلغي الكنديون العطلات الأمريكية بأعداد كبيرة".

ولفت إلى أنّ: "الأهم من ذلك على المدى البعيد، أن تهديدات ترامب قد شكّلت إجماعا مفاجئا حول سياسة كانت مثيرة للجدل أو تم تجاهلها: وهي أن على كندا بناء خطوط الأنابيب والموانئ وغيرها من البنى التحتية من الشرق إلى الغرب، وليس من الشمال إلى الجنوب، لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة وتوجيه مواردها إلى آسيا وأوروبا".

وأردف: "أوروبا متقدمة في هذه العملية. بعد الانتخابات الأمريكية، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية تجارية مع دول أمريكا الجنوبية لإنشاء واحدة من أكبر المناطق التجارية في العالم، وسعى إلى توثيق العلاقات التجارية مع الهند وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية والمكسيك".

"كما تُعطي اليابان، أكبر حليف لأمريكا في آسيا، الأولوية للأسواق الجديدة في دول الجنوب العالمي، حيث تُقدم الاقتصادات سريعة النمو، مثل فيتنام، عملاء جدد" تابع التقرير نفسه.

وقال أستاذ السياسة الدولية والأمن في جامعة كيو في طوكيو، كين جيمبو: "نشأ تصور في اليابان مفاده أنه يتعين علينا بالتأكيد تغيير محفظة استثماراتنا". مردفا أنه "بالنسبة للإدارة الحالية والإدارة التي تليها، علينا تعديل توقعاتنا من التحالف الأمريكي".

ولفت إلى أنّه: "على الصعيد الدفاعي، يُعد ما يُطلق عليه البعض "نزع الطابع الأمريكي" أكثر صعوبة. وينطبق هذا بشكل خاص على آسيا، حيث لا يوجد ما يُعادل الناتو، وأدّى الاعتماد على الدعم الأمريكي إلى إعاقة جيوش الدول التي وعدت الولايات المتحدة بالدفاع عنها (اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين)".

إلى ذلك، كان وزير الدفاع، بيت هيغسيث في مانيلا، يوم الجمعة، واعدا بإعطاء الأولوية الحقيقية لهذه المنطقة والتحول إليها. لكن العديد من شركاء أمريكا يعملون الآن معا بدون الولايات المتحدة، ويوقّعون اتفاقيات وصول متبادلة لقوات بعضهم البعض، ويبنون تحالفات جديدة لردع الصين قدر الإمكان.


وأبرز التقرير: "أوروبا أيضا على بُعد سنوات من القدرة على الدفاع عن نفسها بشكل كامل دون مساعدة الأسلحة والتكنولوجيا الأمريكية. ومع ذلك، ردا على رسوم إدارة ترامب الجمركية وتهديداتها وازدرائها العام -كما في محادثة سيغنال المسربة التي وصف فيها هيغسيث أوروبا بأنها "مثيرة للشفقة" -أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخرا عن خطط لزيادة الإنفاق العسكري. ويشمل ذلك برنامج قروض بقيمة 150 مليار يورو لتمويل الاستثمار الدفاعي".

كذلك، أبرز التقرير: "يتعاون الاتحاد الأوروبي، المؤلف من 27 دولة، بشكل متزايد مع دولتين غير عضوين، هما بريطانيا والنرويج، في الدفاع عن أوكرانيا وغيرها من الأولويات الدفاعية الاستراتيجية".

واسترسل: "بالنسبة لبعض الدول، لا يكفي أي من هذا. صرح رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، للبرلمان في أوائل آذار/ مارس أن بولندا ستستكشف إمكانية الحصول على أسلحة نووية، خوفا من عدم إمكانية الوثوق بترامب للدفاع الكامل عن دولة زميلة في حلف شمال الأطلسي". فيما قال توسك: "هذا سباق نحو الأمن".

وفي شباط/ فبراير، صرّح وزير خارجية كوريا الجنوبية، تشو تاي يول، للجمعية الوطنية بأن بناء الأسلحة النووية "ليس مطروحا على الطاولة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه غير مطروح أيضا". ووفقا لبعض التقديرات، تمتلك كل من كوريا الجنوبية واليابان المعرفة التقنية اللازمة لتطوير أسلحة نووية في أقل من شهرين.

وقال الدبلوماسي السنغافوري السابق، بيليهاري كاوسيكان، إنّ: "القليل من عدم الثقة يمكن أن يؤدي إلى حذر صحي"، مشيرا إلى أنّ: "آسيا كانت متشككة في أمريكا منذ حرب فيتنام. وقال إن النتيجة النهائية لعهد ترامب قد تكون: عالما أكثر تنوعا، مع مساحة أكبر للمناورة، والولايات المتحدة أقل هيمنة".


وأكّد: "لكن في الوقت الحالي، ينتشر انعدام الثقة". قال الخبراء إنّ: "الأمر سيستغرق سنوات وسلسلة من جهود بناء الثقة المكلفة لجمع أمريكا مع حلفائها، الجدد والقدامى، على المدى الطويل".

قالت عالمة السياسة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، والتي ألّفت كتابا عن دور انعدام الثقة خلال الحرب الباردة، ديبورا ويلش لارسون: "من الصعب بناء الثقة، ومن السهل فقدانها"؛ مضيفة: "إن انعدام الثقة في نوايا الولايات المتحدة ودوافعها يتزايد يوما بعد يوم".

مقالات مشابهة

  • السلاح الأمريكي في السودان: رقصة الموت على أنغام السياسة
  • الخارجية الأمريكية تفرض عقوبات اقتصادية على مسؤولين في هونغ كونغ
  • الخارجية الأمريكية: سندعم تايوان في مواجهة الضغوط العسكرية الصينية
  • الخارجية الأمريكية تصف غارات إسرائيل على لبنان: دفاع عن النفس
  • NYT: كيف عزّز ترامب انعدام الثقة ودفع حلفاء الولايات المتحدة بعيدا؟
  • الخارجية الأمريكية: إذا سلمت حماس كل المحتجزين وألقت سلاحها ينتهي الأمر
  • الخارجية الأمريكية: لا ينبغي لإيران الحصول على سلاح نووي
  • الخارجية الروسية ترجح مواصلة الاتحاد الأوروبي فرض عقوباته على موسكو حتى لو رفعتها أمريكا
  • وزير الخارجية الإيطالي: نحتاج إلى بناء الاتحاد الأوروبي بدلًا من تفكيكه
  • السياسة الأمريكية تجاه السودان: من صراعات الماضي إلى حسابات الجمهوريين الباردة