أمريكا من محاولات ترويض السودان إلى العمل على تفكيكه.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT
الكتاب : السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا السودان أنموذجا
الكاتب: د. هاني محمد امبارك
الناشر: المركز العربي الديمقراطي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ط1 برلين المانيا،2023.
عدد الصفحات: 170 صفحة
ـ 1 ـ
قبل بداية الحرب الباردة، لم تكن الولايات المتّحدة الأمريكية تضع أفريقيا ضمن أولوياتها ولم تكترث بتقسيمها بين القوى الاستعمارية الأوروبية.
ـ 2 ـ
يعسر تحديد مفهوم السياسة الخارجية التحديد الدقيق الذي يسلّم به مختلف الباحثين في العلوم السياسية. فهو يرتبط بالمتحولات الكثيرة على مستوى الفكر والممارسة ويتأثر بطبيعة العلاقات الدّولية بين مرحلة وأخرى. فاستقلال القرار الوطني اليوم، على سبيل المثال، بات مفهوما مائعا بالنّظر إلى عولمة الاقتصاد وتحوّل الشركات العالمية الكبرى إلى كيانات تخترق الدّول الكثيرة أو بالنّظر إلى عولمة الاتصال الذي أوجد وضعيات عابرة للدول شأن الجرائم الإلكترونية أو العملات الافتراضية. ومع ذلك فإن رصد تطور فهم السياسة الخارجية يؤرخ بشكل مّا للتحوّل في العلاقات بين الدّول ويبرز ظهور قوى إقليمية وتراجع أخرى. غير أنّ هاني محمد امبارك يحدد السياسة الخارجية من خلال ارتباطها بأهداف تعمل الدول وفقها على تحقيق مصالحها، من ذلك تعبئة الموارد واكتساح الأسواق وضمان حقوق مواطنيها في الخارج.
لترويض السودان عملت الولايات المتحدة على تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا. ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على إفريقيا بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.وتكمن أهمية تحليل أبعاد السياسة الخارجية لدولة ما في شرح خلفياتها الإيديولوجية وطموحاتها الإقليمية والدّولية. فتكون زاوية خاصّة ضمن المنظور الكلي الذي يحاول تفسير العلاقات الدولية في مرحلة تاريخية بعينها.
تصاغ السياسة الخارجية إذن في سياق دولي محدّد، وتشمل العديد من القضايا الأمنية العسكرية، والسياسية الديبلوماسية، والاقتصادية التنموية، والثقافية العلمية، وغيرها. وتنفذ من خلال مجموعة من الوسائل المناسبة. ولا بدّ لصانع القرار السياسي قبل أن يرسم أهداف سياسته الخارجية أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانيات دولته والمادية والمعنوية والاقتصادية والبشرية. وطبيعي أن تميل الدول النامية إلى التركيز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والرمزية. ولكن كثيرا ما تعمد الدّول العظمى إلى الضغط على شركائها لضمان مصالحها باستعمال نفوذها كاستدعاء السفراء للتشاور أو قطع العلاقات. وقد يصل الأمر إلى القوة الإلزامية لفرض تصوّراتها واكتساب الولاء لها في بعض الأحيان.
ورغم أن سياسة أي بلد الخارجية لا تنفصل في جوهرها عن سياسته الداخلية، من جهة علاقتها بطبيعة النظام السياسي، وخصائصه الأيديولوجية وخصائص القيادة السياسية، ورغم كونها تعدّ مصدرا من مصادر اكتساب الشرعية وحشد المناصرين وتقوية الأطراف الحاكمة لجبهاتها الدّاخلية، يسود الاتفاق غالبا على تحييدها عن الجدال السياسي الداخلي.
ـ 3 ـ
وليست السياسة الخارجية الأمريكية واحدة على مرّ التاريخ. فقد مرّت بجملة من الأطوار. فكانت تستند في تاريخ الولايات المبكّر، إلى مبدإ العزلة الذي نادى به الرئيس جورج واشنطن. ومداره على عدم الانخراط في العلاقات الخارجية المتعدّدة والاتجاه إلى التنمية والاستغراق في الإنتاج ومراكمة الثروة. ولهذا المبدإ خلفيات جغرافية وعسكرية. فالولايات المتحدة المتوارية بعيدا وراء الأطلسي لم تكن بحاجة إلى الانخراط الكبير في مجتمع دولي تهيمن عليه القوى العظمى تنفّذ مشاريعها الاستعمارية في ظل تقاسم وتخطيط مسبقين.
وفي 1919م ومع نهاية الحرب العالمية الأولى بلورت الولايات المتحدة فكرة الأمن الجماعي فأسهمت في بعث عصبة الأمم وسهرت على تحقيقه. ولكن مجلس الشيوخ المأخوذ بفكرة العزلة رفض التصديق عليها مما أعاد سياستها الخارجية إلى الانكفاء من جديد حتى 1939. ولكن الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر وضع نهاية لهذه السياسة ودفع بالولايات المتّحدة إلى الانخراط لاحقا في الحرب العالمية الثانية. فتحوّلت بذلك من طور العزلة إلى عقد التحالفات التي أساسها فكرة التعاون لتحقيق جملة من الأهداف الاقتصادية أو العسكرية. وكان تأسيس الحلف الأطلسي (الناتو) بما هو معاهدة للدفاع المشترك ردة الفعل الغربية التي قادتها الولايات المتحدة على حصار برلين من قبل الاتحاد السوفييتي وعلى الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا 1948.
تظل شخصية الرئيس مؤثرة في توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة (من ذلك التحوّل الكبير في علاقة الولايات المتحدة بروسيا وبلدان الخليج بين عهدي ترامب وبايدن مثلا). ولكنّ عنصرين قارّين يجسّدان ثوابتها هما الأمن القومي ويشمل حماية المصالح الأمريكية في الخارج والدفاع عن الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية. لذلك تتحرّك هذه السياسة في دائرة البراغماتية. فتعمل على تحقيق المصالح وتحدّد طبيعة علاقتها بالطّرف المقابل عبر إدراك مصادر قوتها وحجم إمكانياتها الذّاتية وبالنّظر، في الآن نفسه، إلى البيئة الخارجية من قوى ومواقف ومتغيّرات ومكاسب.
ـ 4 ـ
السياسة الخارجية الأمريكية وإفريقيا:
دفعت التحولات التي باتت تعيشها إفريقيا منذ الخمسينيات الولاياتِ المتحدة إلى إعادة النظر في سياساتها السابقة تجاه إفريقيا. ضمن هذا الأفق وقطعا مع مبدإ العزلة أرسل الرئيس ايزنهاور " في عام 1957م نائبه ريتشارد نیکسون إلى أفريقيا. فزار ثماني دول دفعة وحدة من أجل تحليل الأوضاع المتغيرة التي تشهدها القارة في ذلك الوقت. وانطلاقا من تقريره ضُبطت أبعاد السياسة الأمريكية في القارة السمراء التي تظل قائمة حتى اليوم رغم تغيّر الظروف الجيو ـ سياسية. فقد دعا التقرير إلى ضرورة وضع سياسة أمريكية مستقلة تجاه أفريقيا. ورأى أن ذلك يتحقّق عبر مساندة موجة الاستقلال والتحرر الوطني فيها. وعليه فقد دعا إلى أن تعترف كافة إدارات الحكومة الأمريكية بالأهمية المتزايدة لأفريقيا بالنسبة للمصالح الأمريكية. ولكن ما لم يذكره الباحث أن هذا المبدأ يتنزّل ضمن خطة أمريكية تعمل على تجريد القوى الأوروبية من مصادر قوتها بعد أن باتت هي القوة العالمية العظمى.
ويختزل الباحث هذه السياسة في عدد محدّد من النقاط. فقائمة المصالح والأهداف القومية التي كانت تشكل محددا للسياسة الأمريكية تجاه إفريقيا اشتملت على أربع قضايا أساسية هي احتواء الشيوعية أولا (في مرحلة الحرب الباردة) وحماية خطوط التجارة البحرية ثانيا وتأمين الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام ثالثا ودعم القيم الليبرالية، ولاسيما تلك الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان رابعا، وإن كنّا نحترز على هذا الفصل الرابع ونقدّر أنه ليس غير مسألة شكلية وغير مبرر للتدخّل في الشأن الداخلي لهذه الدّول. وتورطها في دعم بعض الانقلابات ضد الحكومات المنتخبة أو مباركتها على الأقل دليلنا على ذلك.
ـ 5 ـ
السودان وأمريكا:
للعلاقات السودانية الأمريكية تاريخ متقلّب بتقلب الحكام أو باختلاف الإستراتيجيات التي تعتمدها الولايات المتّحدة الأمريكية. وأوّل مراحلها كان بعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م على يد الرئيس الأسبق إبراهيم عبود.
كان المبدأ الذي يحكم السياسة الأمريكية عندئذ هو الاعتماد على الأنظمة العسكرية. فللأسباب الكثيرة كانت ترى فيها طرفا طيّعا يمكن التعامل معه بيسر. ولكن سريعا ما تدهورت هذه العلاقة بعد الإطاحة بعبود في أكتوبر 1964 ثم قطعت نهائياً بعد حرب 1967م. وساءت أكثر بعد انقلاب مايو 1969م الذي قاده جعفر النميري وانحاز إثره إلى المعسكر الشرقي. فاعترف بألمانيا الشرقية وتبنى نزعة معادية للرأسمالية. ولكن سريعا ما عدّل سياسته بعد المحاولة الانقلابية الشيوعية الفاشلة (1971) التي دبّرها الرّائد هشام العطا ضدّه. فحصل التقارب بين السودان وأمريكا ممن جديد.
بديهي أن ثمار هذه العلاقة ستكون اقتصادية أساسا. فاستثمرت الشركات الأمريكية في مجال النفط وقدّم صندوق النقد الدولي قروضه إلى السودان. وقدّم الرئيس النميري العون بالمقابل في عملية نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. النزاع في دارفور.
ـ 6 ـ
من العزلة إلى العمل على عزل نظام حكم الجبهة الإسلامية في السودان
يتنزّل إذن التفات الولايات المتحدة الأمريكية إلى السودان في سياق عام من سياستها، ظهر بعد نهاية الحرب الباردة وكان يستهدف فرض نظام عالمي جديد أحادي القطب. وفي هذه الأثناء كشف حكم عمر البشير الذي ترسّخ بعد ذلك، عن نزعته الإسلامية وعن عمله على استقطاب رموز الإسلام السياسي المنبوذين في بلدانهم. فكان الصّدام المحدث للتحوّل الكبير الثالث في تاريخ هذه العلاقات. فسجّل في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب مدة طويلة وعوقب بالحظر الاقتصادي منذ 1997م. وجعلت الحكومة الأمريكية تسعى إلى تغيير نظام الحكم. ففرضت إدارة كلينتون عليه حزمة إضافية من العقوبات لاحقا بسبب حرب دارفور. وفي هذه الأثناء تصاعد نسق الحرب في جنوب السودان إلى أن وقع تقسيم البلاد عمليا إلى سلطة في الشمال وأخرى في الجنوب.
يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. يتثمل في اتجاهها إلى إفريقيا للسيطرة على مصادر الطاقة، ف نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط أفريقيا وغربها وهو مرشّح اليوم ليصل إلى (20%).
ولترويض السودان عملت الولايات المتحدة على تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا. ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على إفريقيا بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.
ـ 7 ـ
وعامة يحاول الباحث أن يردّ علاقة الولايات المتّحدة بالقارة الإفريقية إلى أربع مراحل. فالمرحلة الأولى عند، تمتدّ منذ تأسيس دولة الولايات المتحدة خلال القرن 18م إلى الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وقد تميزت بضعف الارتباط بين الجانبين نتيجة سياسة العزلة. وتمتد المرحلة الثانية منذ بداية الحرب العالمية الأولى إلى الخمسينيات. فكانت أمريكا حذرة في تعاملها مع القارة الإفريقية باعتبارها منطقة نفوذ الدول الاستعمار. ومثلت فترة الحرب الباردة المرحلة الثالثة ، فمع اشتداد الاستقطاب بين المعسكرين، سعت الولايات المتّحدة إلى احتواء الأنظمة في المنطقة. وتمثل مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي المرحلة الرابعة وسمتها توسيع النفوذ. فتعاملت الإدارة الأمريكية مع إفريقيا باعتبارها تمثّل المستقبل.
يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. يتثمل في اتجاهها إلى إفريقيا للسيطرة على مصادر الطاقة، ف نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط أفريقيا وغربها وهو مرشّح اليوم ليصل إلى (20%).في هذه المرحلة يتضح وجود اتجاهين رئيسيين يتوازيان في التفكير الاستراتيجي الأمريكي بشأن مستقبل أفريقيا في السنوات القادمة وعلاقتها بالسودان تحديدا. يتمثّل الأول في ترسيخ صورة فوضوية وتشاؤمية عن أفريقيا في الأذهان، ويجد أن عددا من الدبلوماسيين والمفكرين يروجون له ومن أمثلة ذلك مقالة كابلان عن الفوضى القادمة في أفريقيا فيمثل العصا. وعلى خلافه يمثله الاتجاه الثاني الجزرة. فيروّج لأفريقيا المزدهرة المندمجة في الاقتصاد العالمي. والفيصل بينهما هو مدى استجابتها لبرامج التكيف الهيكلي، وقيامها بالتحول نحو الديمقراطية الليبرالية، أي مدى سيرها في ركب تصوّر الولايات المتحدة الأمريكية للعالم الذي تتسيّده هي ويكون الآخرون مجرد تابع وهامش ملحق بالأصل.
ضمن الأفق الثاني يمكن أن ننزل علاقة السودان ما بعد البشير بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد رحّبت به عضوا كامل الانخراط في المجتمع الدولي بعد ربع قرن من القطيعة وتعهّدت بالعمل على بناء علاقات قوية معه لمساعدته على السير في "طريق الديمقراطية" والعمل معه على استكشاف الفرص التعاون الاقتصادي المستقبلية.
ويمتلك السودان من الأهمية الجيو ـ إستراتيجية ما يجعله يثير لعاب أهم الفاعلين الدوليين. فهامش التنمية فيه كبير وأراضيه الغفل القابلة للاستصلاح الزراعي شاسعة. لذلك يمثّل اليوم موضوع تنافس بينها وبين الصين التي تنتشر بوتيرة سريعة في إفريقيا وروسيا التي اتفقت مع الخرطوم على إنشاء قاعدة روسية في البحر الأحمر.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب السودان العلاقات امريكا السودان علاقات كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المتحدة الأمریکیة الولایات المت حدة الولایات المتحدة السیاسة الخارجیة الحرب العالمیة الحرب الباردة حدة الأمریکیة الد ول
إقرأ أيضاً:
القرصنة من العمل اللصوصي إلى التوظيف السياسي والحربي.. قراءة في كتاب
الكتاب: تاريخ القرصنة في العالمالكاتب: ياتسيك ماخوفسكي، ترجمة أنور إبراهيم
الناشر: مؤسسة هنداوي عام 2022
عدد الصفحات: 278 صفحة
ـ 1 ـ
يعود الكاتب ياتسيك ماخوفسكي في أثره " تاريخ القرصنة في العالم" إلى أزمنة الإغريق والرومان والقرطاجنيين في حوض البحر الأبيض المتوسط ما قبل الميلاد. فيعرض بداية ظهور أعمال القرصنة. ثم يتدرج من القرون الوسطى إلى العصور الوسطى والحديثة في البحر الكاريبي وبحار أمريكا الشمالية والمحيط الهادي وبحار الجنوب. ويبحث في مدى إسهام القراصنة في تشكيل التحالفات بين الدّول بعد أن أصبحوا يشكلون جيوشا غير نظامية. ويحاول من وراء ذلك أن يسد فراغا في المكتبة الروسية، اللغة الأصلية للكتاب، وفق مؤلفه. فيردّ نشأة هذه الظاهرة إلى الفينيقيين أولا ثم لجأ إليها الإغريق لاحقا، خاصّة قبائلهم المقيمة على السواحل. وإليها يرد الفضل في ظهور الملاحة البحرية.
ـ 2 ـ
ورغم قيام القرصنة على النهب والاستيلاء على أملاك الغير، عدّت عند الإغريق حرفةً رفيعة المنزلة. فتغنوا بها في ملاحمهم. فأخيل بطل حرب طروادة مثلا، يعترف بفخر في الإلياذة بأنَّه احترف القرصنة. أما بوليكراتس طاغية ساموس في أواخر القرن السادس ق م، الذي اشتهر بإحسانه للمواطنين الفقراء، ورعايته للفنون والعلوم وتقريب أبرز الشعراء والمعماريين والأطباء إليه، فقد بنى مجده من القرصنة ومن سيطرة أسطوله الضخم على بحر إيجه. وبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخويه، قتل أولهما (بانتاجنوت)، ونفى أخاه الآخر (سيلوزدن)، ليستأثر بالسلطة كلّها وليضاعف ثرواته من الإتاوات الضخمة التي كان يفرضها على قباطنة السفن.
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدةيفسر الباحث تحويل الإغريق للقرصنة إلى قيمة ايجابية، رغم ثقافتهم الروحية الرفيعة إلى فقرهم المادي مقارنة بجيرانهم الفينيقيين. "وهكذا فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين، وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجه" وكان على الفينيقيين أن يدفعوا الأموال للصوص البحر في هيئة فدية وتعويضات سخية.
ـ 3 ـ
أصبح القراصنة لاحقا من القوة والتنظيم ما خوّل لهم إنشاء دويلات ومكّنهم من عقد الاتفاقيات مع الدّول الكبيرة. وكانوا يعوّلون على الهجومات المباغتة ليلا بعد أعمال تجسس دقيقة فيسرقون الحلي الثمينة والمشغولات الفضية والذهبية، وينهبون المعابد ويختطفون النساء والأطفال، لبيعهم بأسعارٍ باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. أو يحاصرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، وإبَّان رسو مراكبهم على الشواطئ يتحوّلون إلى قطاَع طرق.
وعلى خلاف الإغريق كان الرومان أكثر صرامة مع القراصنة. يذكر الكاتب وفق سرد أدبي بيّن، تعرض يوليوس قيصر، الجنرال والقائد السياسي والكاتب الروماني وقائد الجيوش الرومانية في حروب الغال الأهلیة، لهجوم القراصنة لما نفاه لوسيوس كورنيليوس سولا القائد والديكتاتور (138 ق.م-78 ق.م) من روما، وانتقامه لاحقا بإعدام ثلاثمائة وخمسين منهم وصلب ثلاثين من قادتهم. وهذا ما خلّص شعوب البحر الأبيض المتوسط من خطرهم لزمن. ولكن بعد موته سنة 44 ق. م. ستعود القرصنة من جديد. فقد كان بأسهم يشتدّ كلما كان الإمبراطور الجالس على العرش أضعف. واستمرّ الوضع حتى سقوط إمبراطوريتهم في القرن الخامس الميلادي.
ـ 4 ـ
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها. فأمكن لحركة القرصنة هذه وفق الكاتب أن تستولي على معظم الموانئ الكبرى في شمال أفريقيا، شأن مواني طرابلس وتونس والجزائر. فمارسوا النهب البحري على نطاق واسع. ويردّ سطوتهم إلى إبرام محمد بن الحسن آخر حكام الدولة الحفصية، معاهدة مع الأخوين بارباروس، فقد خوّل لهما الهيمنة على جزيرة جربة مقابل مبلغ من المال وقدر دائم من الغنائم.
ينتهي الكاتب إلى أن قراصنة البربر القادمين من جزيرة جربة كان، [يحدوهم الإحساس بارتباطهم الديني والاقتصادي بالأتراك، بالوقوف ضد أعدائهم مُغيرين على السواحل الجنوبية لكلٍّ من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، حيث كانوا يُعملون النهب في الموانئ المحلية الغنية، ويأسرون الآلاف من السكان. كان الأغنياء منهم يدفعون فديةً ضخمة، بينما كان الفقراء يبقون ليرزحوا في أغلال العبودية.
على هذا النحو تعاظمت القدرة الاقتصادية والسياسية للقراصنة البربر، وما هي إلا سنوات معدودة، حتى استولوا تقريبًا على الساحل الشمالي المطلِّ على البحر الأبيض المتوسط]. ويصف تنصيب عروج (1447- 1516) لنفسه سلطانًا على الجزائر باسم بارباروس الأول بظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا. ورغم انتباهه إلى الصلات العميقة بين ازدهار عمل القرصنة في المتوسط ومحاولة الأسبان التوسع شرقا على حساب بلدان شمال أفريقيا.
ـ 5 ـ
يختتم الأثر بالبحث في القرصنة في العصر الحديث. فيؤكد تراجعها مع انتهاء القرن التاسع عشر، وعدم تمثيلها خطرًا حقيقيًّا على الملاحة البحرية، مستثنيا بعض أعمال النهب البحري الفردية خاصةً في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين. ومع ذلك يعرض تحول القرصنة في عشرينات القرن الماضي ثلاثيناته أشكالًا منظمة تجعلها شبيهة بالمؤسسات الرأسمالية، ممثلة في هيكل يستأجر بعض المرتزقة الذين يتولون البحث عن الأهداف المفترض.
وفي فترة الحربين العالميتين وما بينهما، ظهرت قرصنة من نوع جديد. فقد قصف الألمان السفينة ـ المستشفى الإنجليزية "ليندوفيري كاسل" بقذائف الطوربيد قرب شواطئ أيرلندا، رغم بروز الإشارات التي تكشف طابعها السلمي، ثم لاحقوا قوارب النجاة التي لجأ إليها الضحايا لطمس جريمتهم. وظهرت أعمال إجرامية تنفذها الأساطيل البحرية ضد السفن التجارية التابعة للدول المحايدة. وتعرضت السفينتان السوفيتيتان "تميريازيف" و"بلاجوييف"، اللتان كانتا تبحران عبر البحر المتوسط إلى هجمات لم يتم تبنيها من قبل أي طرف. ولكن السوفييت احتجوا لدي ايطاليا الفاشية واتهموها بالضلوع في الهجوم رفقة القوات الألمانية.
بالمقابل، قادت الدول البحرية الكبرى الجهود منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي غير سياق الحرب، عمليات مشتركة، بهدف القضاء التام على النهب البحري. وتم ذلك وفق الباحث نتيجة للانتقال من الاقتصاد الإقطاعي إلى الاقتصاد الرأسمالي. فعندها بات ينظر إلى القراصنة باعتبارهم أفرادا خارجين على القانون. فصيغت مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتحمي مبدأ حرية التجارة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقدّر عند العمل على وضع تشريع القانون الدولي في عام 1962 "أن القرصنة بهذا الشكل الذي يُعنى به القانون الدولي لم يعُد لها وجود تقريبًا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزًى كبيرٌ."
ولكن لم يتم القضاء عليها قضاء نهائيًّا، فبعض الأعمال لا تزال تجد اليوم هنا أو هناك. وفضلا عن ذلك ظهرت قرصنة جديد ة تُمارس بإيعازٍ من بعض الدول، فتصادر سفن بعض الدّول بطريقة غير القانونية ويتم الاستيلاء على حمولتها أو إغراقها في عرض البحر بتعلة مقاومة الإرهاب أو منع الدول المحاصرة من توريد السلع أو تصديرها. وهذا ما جعل فُقهاء القانون يعيدون تعريف القرصنة فيؤكدون أنها تشمل كل الأعمال الإجرامية التي تهدد أمن الملاحة البحرية.
ـ 6 ـ
يعرض الكتاب تاريخ القرصنة في بقاع مختلفة من العالم على مدار تاريخ البشرية إذن. ولكن يعنينا منه خاصّة ما تعلّق بـ"ـقراصنة البربر". فقد بدا ملمّا بطبيعة الصدام بين الدولة العثمانية والأسبان غير المباشر في حوض المتوسط منذ بدايات حرب الاسترداد التي أفضت إلى سقوط الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية مدركا أنّ قراصنة شمال أفريقيا كانوا يمثلون قوات غير نظامية تعمل على السيطرة على البحر الأبيض المتوسط وأنّ معظم عناصرها هم من أحفاد المسلمين الذين طردوا من إسبانيا، آخذا للبعد الديني لهذه المعارك بعين الاعتبار. فما كان يجدّ من الصدام هو في الأصل "حرب ضد قوات الهلال تحت القيادة الروحية للبابا" ممثل المعسكر المسيحي.
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها.ولكنه مع ذلك ينتهي إلى استنتاجات متسرعة غير منسجمة مع هذا التمشي التحليلي. فالأسبان، عنده، اتجهوا إلى جربة ثم إلى الجزائر لا لبسط نفوذهم على العالم الإسلامي ضمن خططهم التوسعية وإنما " لما أصابهم الذعر من جراء النهب البحري الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط - بتنظيم حملة مسلحة شقَّت طريقها نحو شمال أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أنَّ التوفيق لم يحالفها في تدمير جربة، فيممت إلى الجزائر". والجزائر عنده تمثل "أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا".
ورغم إقراره بأن" المغاربة يقدرون أصحاب الحَرف والفنانين والأطباء تقديرا رفيعا، وكانوا كثيرا ما يُعيدون العبيد إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم الإسلام، وارتدوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة"، فإنه لا يفهم من ذلك أنّ المسلمين كانوا يحسنون إلى الأسرى من منطلق قيمهم الدينية. فيرى أنهم يعاملونهم "في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجيةً لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون كثيرا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين، أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير". فيؤكد ظاهرة تلازم أغلب الغربيين كلّما فكروا في الحضارة العربية الإسلامية، هي عدم بذل الجهد لفهمها والاكتفاء برؤية تبسيطية متعالية.
ـ 7 ـ
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدة، ومن هنا مأتى أهمية هذا الكتاب. ولكن للأسف غلب على الأثر الطابع التجميعي من المراجع المختلفة دون تحقيق وساد سرد التفاصيل بإسهاب أقرب إلى التخييل الأدبي منه إلى النقل التاريخي الرصين المتوخي للدّقة. فكان شديد الحساسية للمراجع التي يستند إليها. فتأثر بالملاحم بجلاء في حديثه عن القرصنة عند الإغريق قبل الميلاد. وتأثر بوجهة النظر المسيحية والاسبانية خاصّة عند الحديث عن قراصنة القرون الوسطى ثم تأثر بوجهة النظر السوفييتية عند عرض القرصنة الحربية في عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته.