سودانايل:
2024-09-11@12:07:58 GMT

مبادرة بلينكن في جنيف … محادثات أم مفاوضات؟

تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT

Blinken's Geneva Initiative …. Talks or Negotiations?

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري، الخرطوم

تشهد الحرب المستعرة في السودان بين الجيش والدعم السريع استعصاءً دام ستة عشر شهراً على المبادرات الثنائية المتمثلة في منبر جدة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، والمبادرات متعددة الأطراف المتمثلة في الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) ودول الجوار.

وتقع مسؤولية استمرار هذا الاستعصاء وتواصل تبعاته الإنسانية الكارثية على الجيش والدعم السريع اللذين تماديا في ارتكاب جرائم الحرب وانتهاك الحقوق الأساسية للإنسان السوداني على مدار الستة عشر شهراً. حيث أثبت انسداد الأفق العسكري في السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، وانتهاءً بالحرب الطاحنة في أبريل 2023، فشل العسكريين والمسلحين في إدارة الأزمات السياسية والإنسانية في السودان.
ونظراً لأن المخاطر المطبقة بالبلاد لا تحتمل إضاعة الوقت في تبضُّع طرفي القتال في المزيد من المبادرات الثنائية ومتعددة الأطراف، وما يصاحب ذلك من اجترار للاتهامات العقيمة المتبادلة بين الجيش والدعم السريع، فإن تحاشي سقوط السودان في حرب أهلية أفظع دماراً وأبشع تقتيلاً يستدعي مفارقة مسار العلاج الاختياري الذي سلكه منبر جدة والمنابر الأخرى، لسلْك مسار العلاج القسري بالصدمة لتعجيل إرغام الجيش والدعم السرع عنوةً للقبول غير المشروط بوقف الحرب ومعالجة الضرّاء الإنسانية التي أطبقت على جميع السودانيين باعتماد ألية متماسكة تضمن المراقبة والتحقق من الامتثال والتنفيذ من جانب طرفي الاقتتال.
وفي هذا الاتجاه، دعا انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكية كلاً من الجيش والدعم السريع للانخراط مباشرة في محادثات جادة برعاية أمريكية واستضافة سعودية سويسرية لوقف إطلاق النار بدأت في جنيف يوم 14 أغسطس 2024. وتضم المحادثات أيضاً الاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، ومصر، والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين. وقد حددت الخارجية الأمريكية أهداف المحادثات في تحقيق وقف العنف في جميع أنحاء البلاد، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين، ووضع آلية قوية للمراقبة والتحقق لضمان تنفيذ أي اتفاق.
وقبل الخوض في مآلات المبادرة الأمريكية لابد من وقفة ضرورية في المصطلح والتوصيف الدبلوماسي لكلمة "محادثات" (Talks) التي دعا لها بلينكن طرفي الحرب، وكلمة "مفاوضات" (Negotiations) التي كانت السمة الغالبة للمبادرات السابقة لوقف الإحتراب في السودان. وعلى غير ما درج عليه العديد من (الكتاب والباحثين السياسيين) ومراسلو القنوات الفضائية باستخدام كلمتي محادثات ومفاوضات بالتبادل والترادف ليحملا نفس المضمون، فإن هناك اختلاف جوهري بين الكلمتين في دبلوماسية الدول والمؤسسات الدولية. فالكلمتان في الأعراف الدبلوماسية تعبران عن طريقتين مختلفتين تماماً في التواصل اللفظي. فكلمة "محادثات" تعبّر عن عرض رسمي أحادي الاتجاه للمعلومات والآراء من قبل الداعي للقاء (الإدارة الأمريكية) بحيث تتحكم هي في المحتوى والأهداف والمخرجات بما يسمح فقط بالحد الأدنى من التفاعل من المشاركين الجوهريين (الجيش والدعم السريع) والمراقبين (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيقاد وسويسرا ومصر والإمارات والفنيين). وهذا يعني عدم إتاحة المجال للتفاوض والحوار ذهاباً وإياباً بين الجيش والدعم السريع بالقدر الذي ساد المبادرات السابقة لوقف الحرب في السودان. كما يشير إصرار الجانب الأمريكي على ضرورة تمثيل الطرفين بمستوى عالٍ إلى عدم إمكانية فض المحادثات بحجة التشاور أو الانسحاب بعد أن ضاق المجتمع الدولي ذرعاً بتبضع الطرفين في المبادرات المختلفة. ذلك أن تحقيق أهداف "محادثات" جنيف المتمثلة في وقف العنف في جميع أنحاء البلاد، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين، ووضع آلية قوية للمراقبة والتحقق لضمان تنفيذ أي اتفاق ليست مطروحة للتفاوض حولها، بل معروضة لإلزام الجيش والدعم السريع بتنفيذها، بحيث يقوم مراقبو المحادثات بالمساهمة في استنباط آليات التنفيذ القوية والحاسمة.
وقد برزت العديد من الشواهد والمؤشرات التي تؤكد اختلاف "محادثات" جنيف عن ما سبقها من مبادرات تفاوضية. ويعتبر هدف وضع "آلية قوية" للمراقبة والتحقق لضمان تنفيذ أي اتفاق هو المُستجَد الأبرز الذي يميّز محادثات جنيف من المنابر التفاوضية السابقة، وينطوي على جدية صارمة في السعي لوقف الحرب الكارثية في السودان. وقد تجلَّت هذه الجدية غير المسبوقة من الجانب الأمريكي في ما يشبه التهديد بإمهال الجيش فترة اثنتين وسبعين ساعة فقط للانضمام لمحادثات جنيف. وذلك فضلاً عن إحاطة مكان انعقاد المحادثات بسرية غير متعارف عليها في المبادرات السابقة حيث فشل الصحفيون في كشفها. كما استجد أيضاً الإشهار مقدماً باستمرار المحادثات لعشرة أيام كاملة، رغم الهواجس الداخلية للإدارة الأمريكية المتمثلة في انتخابات نوفمبر 2024، والتحديات الخارجية المتمثلة في تداعيات حرب غزة والحرب الروسية الأوكرانية. وذلك فضلاً عن استبعاد بلينكن المتعمد للسياسيين السودانيين من محادثات جنيف لما تمثله مشاركتهم في هذه المرحلة من ضياع الوقت في الجدل العقيم الذي أجج اختلافاتهم الثانوية غير البناءة طوال الفترة التي أعقبت نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط نظام الإسلاميين البائد.
وانطلاقاً من هذا المفهوم لمبادرة بلينكن فإن الجيش والدعم السريع كطرفين للاقتتال الكارثي في السودان مطالبان لأول مرة بالإذعان لما يعرض عليهما من واجبات ومهام مسندة لتحقيق الأهداف المعلنة في محادثات جنيف لوقف تفاقم المعاناة الإنسانية للسودانيين جرّاء احتراب الجيش والدعم السريع، شاملة ويلات القتل والجوع وفظائع الانتهاكات ومآسي النزوح واللجوء.
وتشير الدلائل إلى مشاركة مراقبي المحادثات بفنيين تنفيذيين ذوي كفاءة معتبرة في استنباط الآليات الحصينة التي تمكّن من تحقيق أهداف مبادرة بلينكن المعلنة. وتجدر الإشارة إلى أن وفد الأمم المتحدة يرأسه رمطان لعمامرة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى السودان الذي تولي من قبل منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيريا وأشرف على تنفيذ قرار مجلس الأمن بإنشاء بعثة الأمم المتحدة في ليبريا التي ساندت، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وعملية السلم وتقديم الدعم للإصلاح الأمني عقب الحرب الأهلية الثانية في ليبيريا. كما يرأس وفد الاتحاد الإفريقي الدكتور محمد شنباز الذي شغل منصب الممثل الخاص للاتحاد الأفريقي في عملية الأمم المتحدة المختلطة في دارفور (اليوناميد) تحت البند السابع، كما كان كبير الوسطاء المسؤول عن مفاوضات السلام في دارفور بين عامي 2013 و2014. أما بالنسبة لأمريكا راعية المحادثات فيرأس وفدها توم بيرييلّو صاحب الخبرة الواسعة في قضايا السلام والأمن والعدالة الانتقالية في القارة الأفريقية كمبعوث أمريكي خاص للسودان. ويشمل الوفد الأمريكي أيضاً السفير دانييل روبنشتاين القائم بأعمال السفارة الأمريكية في السودان الذي شغل، فيما شغل، منصب رئيس وحدة المراقبين المدنيين في القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء. ويشير التأمل في خلفية هؤلاء المراقبين الإقليميين والأمميين أن القاسم المشترك بينهم هو خبرتهم الطويلة في فض النزاعات وتحقيق السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، ولو استدعى ذلك إنشاء قوة إقليمية أو دولية تحت البند السابع بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وتأتي مبادرة بلينكن على خلفية قرار مجلس الأمن رقم 2724 في مارس 2024 بوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان الفضيل لأسباب إنسانية. حيث دعا القرار جميع الأطراف إلى ضمان إزالة أي عراقيل وتمكين وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر خطوط التماس، والامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي. وتشمل تلك الالتزامات حماية المدنيين والأعيان المدنية، والتعهدات بموجب إعلان الالتزام بحماية المدنيين في السودان المعروف باسم "إعلان جدة". وشجع القرار المبعوث الشخصي للأمين العام إلى السودان على استخدام مساعيه الحميدة مع الأطراف والدول المجاورة، لاستكمال وتنسيق جهود السلام الإقليمية. ومثل القرار الذي اعتمده مجلس الأمن للمرة الأولى منذ اندلاع الإحتراب رسالة قوية للجيش والدعم السريع بضرورة الاتفاق على وقف فوري للأعمال القتالية. وحث الجانبين على العمل للاستجابة للدعوة الدولية الموحدة للسلام وإسكات البنادق وبناء الثقة والسعي لحل الصراع عبر الحوار. وكما هو معلوم فإن الجيش والدعم السريع قد فشلا في الالتزام بقرار مجلس الأمن المذكور مما فاقم من الواقع الإنساني المأسوي الذي يعاني منه جميع السودانيين.
ويجدر بالذكر أن مجلس الأمن قد اعتمد بالإجماع في نفس الجلسة بتاريخ 8 مارس 2024 القرار رقم 2725 الذي قرر المجلس بموجبه تمديد ولاية فريق الخبراء المعني بالعقوبات لغاية 12 مارس 2025 مما ينذر بتبعات "العصا لمن عصى" بعدم انصياع أي من طرفي الاقتتال في السودان لقراره رقم 2724.
وعلى هذه الخلفية يتضح أن المشاركة الحضورية في جنيف لطرفي الصراع لا تكتسب أهمية إلا بالقدر الذي يعكس انصياعهما لمتطلبات المجتمع الدولي الإنسانية. ذلك أن الطرف المتواجد في المحادثات يحصل فقط على قدر من الرضا لحرصه على تلقي مسارات تنفيذ أهداف المحادثات مباشرة من أمريكا والشركاء. أما الطرف الغائب عن الحضور فلن يغنيه ذلك عن الالتزام بحذافير التنفيذ، بل ينصب عليه فوق ذلك غضب المجتمع الدولي لعدم الامتثال للقوانين الإنسانية الملزمة لكافة الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة في شكل عقوبات رادعة وموجعة.
لا شك أن الكارثة الإنسانية التي شارك فيها على حد سواء طرفا الإحتراب الجيش والدعم السريع قد ساهم في تفاقم آثارها الماحقة تهميش دور لجان المقاومة ومراكز التميُّز(Centers of Excellence) ومؤسسات الفكر الوطنية (Think Tanks) وحرمانهم من المشاركة الفاعلة في إنجاح المبادرات الثنائية ومتعددة الأطراف لوقف إطلاق النار وإعادة إعمار السودان. حيث يمكن لهذه المراكز والمؤسسات بوصفها كيانات وطنية مستقلة المساعدة في تهيئة الجيش والدعم السريع للانصياع لآليات تنفيذ مخرجات محادثات جنيف . ذلك أن ثورة ديسمبر المجيدة قد عمَّقت شعوراً قومياً بضرورة اضطلاع الكيانات الوطنية المستقلة بلعب دور بارز في الجهود الرامية لوقف إطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين لتحقيق الملكية الوطنية(National Ownership) لمخرجات محادثات جنيف. وحتى يتم تحقيق الإنبات المحلي (Homegrown) لتلك المحادثات، تبرز الضرورة لمشاركة هذه الكيانات في الجهود المبذولة. حيث إن الممارسات الجيدة في الدول النامية قد أكدت نجاح مراكز التميُّز ومؤسسات الفكر في حل العديد من الصراعات المستعصية في كل من نيجريا، وأفغانستان، ونيبال، وتونس. كما يمكن لهذه الكيانات الوطنية المستقلة المساهمة في بناء قدرات الجيش والدعم السريع ومساعدتهم على الالتزام الجاد لتهيئة البيئة السلمية الآمنة لتحقيق حكم انتقالي مدني متماسك يهيئ الظروف المناسبة للتحول الديمقراطي المنتظر دون إراقة المزيد من الدماء السودانية.

melshibly@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المساعدات الإنسانیة الجیش والدعم السریع وقف إطلاق النار الأمم المتحدة محادثات جنیف المتمثلة فی مجلس الأمن فی السودان

إقرأ أيضاً:

افتتاح الدورة الـ57 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف

افتتح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة اليوم في جنيف أعمال دورته السابعة والخمسين العادية التي تبحث حتى 11 من شهر أكتوبر المقبل ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان في مختلف مناطق العالم.

وقال فولكر تورك المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة في التحديث الذي قدمه أمام المجلس خلال افتتاح أعماله إن العالم يعرف أن الحروب تمتد إلى الأجيال القادمة وتعزز دورات متكررة من الكراهية اذا ظلت أسبابها دون معالجة لافتا إلى أن الحرب في غزة هي المثال الجوهري لذلك.

وأضاف أنه منذ أن أودت هجمات 7 أكتوبر بحياة أكثر من 1200 إسرائيلي وجرحت العديد فقد قتل أكثر من 40 ألف فلسطيني على يد القوات الاسرائيلية وجرح عدة آلاف بينما لا يزال الآلاف تحت الأنقاض في غزة فى حين يكافح الفلسطينيون كل يوم من أجل البقاء.

المفوض السامي شدد على أن انهاء الحرب فى غزة وتجنب الصراع الاقليمي الكامل هي أولوية مطلقة وعاجلة ومعالجة الوضع في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة الناجمة عن سياسات وممارسات اسرائيل.وام


مقالات مشابهة

  • قصف متبادل بين الجيش السوداني والدعم السريع بالفاشر وإصابة مدنيّيْن في أم درمان
  • …مَنْ لِقلبي..
  • مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان: ما لا يقل عن 69 شخصاً لقوا مصرعهم، وأصيب 112 آخرون بسبب الأمطار والفيضانات
  • الأمطار والفيضانات تطال نصف مليون في السودان والأمم المتحدة تكثف جهود المساعدات الإنسانية
  • «تلغرام» تحارب المحتوى الضار في المحادثات
  • بدء اجتماع مجلس حقوق الإنسان في جنيف برئاسة المغرب
  • افتتاح الدورة الـ57 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف
  • منظمات دولية تحذر من تفاقم الأزمة الإنسانية في السودان
  • تجدد المواجهات العنيفة بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم
  • مقتل طالبة جراء المواجهات بين الجيش والدعم السريع في الأبيض