مارك أوجيه و”أنا”: الحفر في ذاكرة المدينة
تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT
د. محمد عبد الله الحسين
عفوا مستر أوجيه. لا يمكن أن استرسل في الكتابة عن موضوعي الخاص بعنوان إطلالة كوزموبوليتانية على المدينة من داخل تلك الكبسولة الأرضية المتحركة(الأسانسير)، لا يمكن أن أسترسل دون أن أوفيك حقك في التعريف بك وبكتابِك، فذلك حق عليّ قبل كل حق. كانت تستوقفني من حين لآخر تعبيرات مارك أوجيه وأفكاره في كتابه" إثنولوجي في المدينة" وهو يستطلع ملامح مدينة ما بعد الحداثة ممثلة في باريس.
كتاب أوجيه "إثنولوجي في الميترو"-عبارة عن ملاحظات وآركيولوجيا من (شخص شغوف بمتابعة الأعراق والثقافات(الإثنولوجيا). ألف أوجيه الذي يوثق من خلال تواجده المتكرر، كإثنولوجي وكراكب وكمشاهد ضمن ركاب الميترو في مدينة باريس، باعتبارها مدينة كوزموبوليتانية(عولمية)، تفتقر للتواصل الحميم بين المدينة وسكانها المدينة. كما كل المدن الكوزموبوليتانية المابعد حداثية.
يقول أوجيه إن الحداثة المفرطة التي تشكِّل المدينة ينتج عنها بما سماه ب "اللأمكنة أي بمعنى أن المدينة المعاصرة بمفرداتها وتفاصيلها من بنايات ومرافق وخدمات وعناصرها المختلفة تفتقر للحميمية وليس لها مكان في ذاكرة قاطني المدينة. يفتقر المكان كذلك للثبات في الزمان لأنه عابر، وكذلك المدينة. فالمدينة بعناصرها المختلفة مثل الأسواق والمولات والمطارات وأماكن الخدمات، يتعامل معها الإنسان معاملة آنية متعجلة وعابرة دون أن تترك بصماتها في ذهن وذاكرة الإنسان، إلا في لحظات التواجد اللحظي وأوقات العبور، ولحظات التواجد المؤقت فقط. وبالتالي فإن اللامكان أو بالأحرى اللاحميمية، فهي سِمة العلاقة بين تلك المدينة الكوزمية/العولمية، بهويتها وعناصرها وملامحها القابلة للتغير باستمرار، ويكون بالتالي وجودها سطحيا وهشاً في الذاكرة والمشاعر.
مساحة خارج النص: الآن انفرجت أساريري (اللغوية)، بأن وجدت مخرجا لتفادي كلمة كوزموبوليتانية (طويلة التيلة)، وبكلمة بديلة(إجرائيا هنا على الأقل) وهي كلمة "كوزمية باعتبارها استبدال(ونحت) لغوي خفيف الظل ، ويمكن بالتالي اعتبارها مبرئة للذمة اللغوية على الأقل من حيث التخفيف.
ما هي العلاقة بين ما كنت قد أنتويت كتابته وما كتبه مارك أوجيه؟
كنت قد وجدت لاحقا فيما كتبه أوجيه، ما يشبه التناص، أو في شكل تخاطر متأخر، إن صح التعبير، وهو التخاطر الذي ترافق مع شغفٍ خاص لاكتشاف وتلمس بعضاً من ملامح التآلف البشري للإنسان ذلك الكائن الاجتماعي. أقصد تلك الرغبة المتمثلة في تبادل المشاعر الإنسانية إطار فضاء اجتماعي كوزمي(ضيِّق). كان ذلك الشغف يحدث ذلك من خلال تتبع الرحلات المكوكية اليومية المتتابعة (طوال 14 ساعة في اليوم) للمصاعد الثلاثة الواسعة، في تلك البناية العالية. حيث أوعز إلي شغفي (الإثنولوجي) العابث والجاد في آنٍ واحد التمتع باستجلاء الدواخل والمشاعر الإنسانية من خلال تفحص وجوه وملامح مرتادي البناية خلال رحلات صعودهم إلى الأسانسير وهبوطهم اليومي المتكرر منه. تحول الأمر لاحقا لما يشبه الملاحظ المنتظمة (كمنهج انثربولوجي) ليس ذلك وقفاً على من يقصدون الأسانسير بل حتى الذين ينتظرون في الردهات أو الذين يتسكعون في مدخل تلك البناية. وهكذا كنت أنا مدفوعا بشغف خاص وكذلك ببعض تأثيرٍ من دراستي للعلوم الاجتماعية. إذن هي محاولة لممارسة بحثية، دون تقيدٍ راسخ بمنهجية تلك العلوم.
وهكذا كنت خلال فترات زمنية يومية استقطعها من وقت عملي في نفس البناية، أحاول أن أتفرغ لدقائق عدة مرات في اليوم لأتابع تلك الوجوه والسحنات وكذلك تلك الدفقات الشعورية/العاطفية الإنسانية التي يكشف عنها السلوك الاجتماعي الفطري في الإنسان. كانت تلك السمات تتبدى في ردود الأفعال والاستجابات التلقائية ملامح الوجوه وملامح الابتسامات الودود كرد على عبارة التحية والابتسامات وإيماءات العرفان المقتضبة. كنت في كل ذلك أحاول استوقف الخط الزمني (التايم لاين) لمطالعة السلوكيات الاجتماعية المختلفة المكللة بالروح الإنسانية وتجلياتها التلقائية تعبيرا عن الكوامن الشعورية الكاشفة عن التآلف الإنساني.
قد لا يمكنك أن تتخيل أن يحدث كل ذلك في فضاءٍ مكانيِّ محدود يحتشد بأشخاصٍ بخلفياتها الكوزمية المتعددة وبأحاسيسها البشرية المكللة بقلقها الوجودي، وبتوقها الفطري للاندماج والتآلف مع الآخر عبر إيماءات ذات معنى، وإشارات وتلويحات إنسانية عابرة، تتخطى في نزوعها حدود ذلك الحيز المكاني، وتتخطي أيضا حواجز اللغة، وحواجز الهويات القومية ومتجاهلة كذلك -ولو مؤقتا تحيّزات اللون والجنسية والسمات، احتراما لهذا السياق. كان مناط اهتمامي الرئيسي (هو التقاط بعض أطراف الخيوط التي تقود للتعرف على تلك الروح الخفية والإحساس الحقيقي الذي يجمع بين كل هؤلاء الأشخاص بخلفياتهم وسماتهم وطبائعهم واهتماماتهم المتعددة والمتنوعة كبشر. في نفس السياق، لم يكن ذلك الفضول المعرفي وقفاً على رفقاء الانتقال اليومي في الأسانسير فقط. كان مكتب الترجمة الذي أعمل به والذي يقع في نفس البناية يستقبل العشرات من الزوار القاصدين خدمات الترجمة. كنت كذلك أختار أحيانا بعضا ممن يقصد المكتب لكي افتح معه حواراً (مقابلة غير مقننة، حسب المنهج البحثي). كان الحوار عبارة عن أسئلة عن الشخص المُستَجوب، ومعلومات يدلي بها عن وجهات نظره حول موضوعات تتعلق بالتواجد في الخليج واختلاف الثقافات، وعن علاقاته الاجتماعية وعلاقاته مع الجنسيات الأخرى وما إلى ذلك. بالطبع ليست كل المقابلات تسير كما ينبغي أو مخطط له، ولكنها في المجمل تضيف الكثير ضمن التراكم العام من جملة المقابلات، وبما يسمح بالمقارنة بين الأجوبة المختلفة وتقييم وجهات النظر المختلفة والخروج منها بفكرة عامة تصلح للبناء عليها لاحقا.
mohabd505@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
هاشم: اذا لم تستح فقل ما تشاء كأن ذاكرة الناس قد محيت
قال النائب قاسم هاشم في تصريح: "اذا لم تستح فقل ما تشاء كأن ذاكرة الناس قد محيت ليطل من اقام الدنيا ولم يقعدها وكان الفراغ فعل وطني لعامين ونصف العام ليتكرس رئيسا للجمهورية واحدا ومن غيره المنقذ والمخلص والتغييري يومها كان كل ذلك مطلوب ومباح واليوم ومع الظروف الصعبة والمعقدة والتحديات انقلبت المعايير مع اصحاب النظريات الخنفشارية يومذاك لخدمة وصول الشخص كانت المقاومة لخدمة الجمهورية واليوم في مواجهة العدوان وفق الاهواء والمزاج المنقلب لم تعد الحاجة لمقاومة العدو واخطائه، يبدو ان المرآة اصبحت تعكس صورة ضبابية".