منذ صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسدة الحكم قبل ربع قرن، وهو يسعى بكل قوة إلى تحقيق أمجاد روسيا القديمة في أزمنتها القيصرية والسوفياتية؛ لقد وضع الإمبراطور بطرس الأكبر (توفي عام 1725م) إستراتيجية طويلة الأمد لروسيا وهي التي تُعرف تاريخيا بوصايا بطرس الأكبر، التي تسعى لتحقيق أمجاد روسيا الدينية والسياسية والعسكرية في القارة الأوروبية وعلى حساب جيرانها المنافسين.

نجح بوتين في وأد الانتفاضة التي دامت في القوقاز ولا سيما الشيشان وداغستان (اللتان استقلّتا عن الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات من القرن الماضي)، ونجح في جعلهما تابعتين للاتحاد الروسي بقوة وعنف، فدعم بقوة تعيين حليفه رمضان قديروف في حكم غروزني، كما دخل عام 2008 في حرب بمواجهة جورجيا المدعومة من الغرب، وتمكن من السيطرة على أوسيتا الجنوبية بالقوة، ولم يتوقف بوتين حتى احتل شبه جزيرة القرم وانتزعها من أوكرانيا عام 2014، ثم تدخل في سوريا عام 2015 حتى أصبح له وجود لافت شرق البحر المتوسط بريا وبحريا، ولم يتوقف بوتين حتى تدخّل في ليبيا وجنوب الصحراء والسودان ووسط أفريقيا وفي بعض دول غرب أفريقيا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"الإمبراطور الإله" الذي استسلم لأمريكا.. قصة رجل عبده اليابانيونlist 2 of 2أطفالي يدمنون مواقع التواصل.. ماذا أفعل؟ علماء النفس يجيبونكend of list

ويبدو بوتين في كثير من خطاباته حريصًا على استعادة التاريخ وإحيائه؛ فهو مدرك للشخصية الروسية التاريخية التي نجحت في هزيمة التتار المسلمين الذين سيطروا على أجزاء واسعة من روسيا وأوكرانيا منذ القرن الـ13 الميلادي، وتمكن الروس كذلك من القضاء على استقلال بولندا وتقسيمها مع الألمان والنمساويين زمن القياصرة ثم ابتلاعها زمن السوفيات، بل وهجومهم الساحق على أراضي الدولة العثمانية في القوقاز والبلقان وحتى الأناضول وإسطنبول في القرنين الـ18 والـ19، وها هو بوتين اليوم يحاول جاهدًا السيطرة على أوكرانيا التي يعتبرها جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية في التاريخين القيصري والسوفياتي.

والحق أن الإستراتيجية الروسية التي ينفذها بوتين لا تشكل خطرًا على أوكرانيا فقط، بل بوصفها تهديدا مباشرًا لبولندا ومولدوفا وتركيا والسويد ودول البلطيق وفنلندا؛ وهو الأمر الذي بات يدركه الجميع، ويستشعرون من ورائه خطرًا ماثلا في ذاكرة التاريخ والواقع.

ولإدراك استبطان الروس المعاصرين لدروس التاريخ وعِبره، سنسلط في هذا التقرير ضوءًا على لحظة تاريخية فارقة حين نجح الروس في فرض شروطهم على الدولة العثمانية؛ وهي لحظة مفصلية في تاريخ العثمانيين ودخولهم في طور من الضعف والاضمحلال والانهيار كان الروس سببا مباشرًا فيه.

الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" (الجزيرة) الأزمة البولندية

كان الروسُ من قديم الزمان أمةً تعيش في المناطق الشمالية من البحر الأسود، وهم فريق من الأمم السلافية التي امتدت من البحر الأسود إلى القطب الشمالي ومناطق البلطيق، ولم يكن لهم في التاريخ القديم مكانة مميزة أو مرموقة حتى القرن العاشر الميلادي؛ فقد أشار الرحالة العربي زمن الدولة العباسية أحمد بن فضلان في القرن التاسع الميلادي أنهم "أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيديهم من الطّعام، بل هم كالحمير الضّالة".

وقد رحل ابن فضلان لبلاد الروس في عصور وثنيتها قبل أن تعرف المسيحية الأرثوذكسية التي اعتنقوها في القرن العاشر الميلادي، وهو نفس القرن الذي تحول فيه قطاع كبير من الأتراك إلى الإسلام، وكانت فتوح السلاجقة ثم أبناء عمومتهم المغول لمناطق القوقاز الجنوبي ثم مناطق شمال بحر قزوين وأوكرانيا وحتى بولندا ووسط أوروبا سببا في هيمنتهم على هذه المنطقة لعدة قرون، وسيادتهم حتى على الروس أنفسهم الذين كانوا مضطرين إلى دفع الجزية والتبعية السياسية للمغول والتتار المسلمين.

ولكن سنوات السيادة الإسلامية للمغول جنوب روسيا والقوقاز وأوكرانيا وحتى بولندا بدأت في التراجع حين عمل الروس على تهديدها منذ القرن الـ15؛ إذ دخلوا في العديد من المعارك والحروب والتي أثمرت في النهاية عن تمدد الروس من موسكو وما حولها حتى بلغوا منطقة آزوف شمال البحر الأسود، وبدؤوا لأول مرة في تهديد النفوذ الإسلامي المغولي أولا ثم العثماني الذي كان منذ القرن الـ15 الميلادي يعتبر البحر الأسود بُحيرة عثمانية خالصة من كافة الجوانب.

وطوال قرون تالية كانت عوامل الشد والجذب بين العثمانيين والروس لا تكاد تتوقف؛ ذلك أن الروس في زمن أباطرتهم الكبار مثل بطرس الأكبر وكاترينا وضعوا إستراتيجية كبرى تتضمن إسقاط ثلاثة من جيرانهم (السويديين والبولنديين والعثمانيين) حتى يصحبوا على حافّة التماس والتجاور مع أوروبا الغربية ويكون الطريق مفتوحا أمامهم للبحار الدافئة؛ وهي الإستراتيجية التي يحاول الرئيس الروسي إحياءها في يومنا هذا بعد هجومه على أوكرانيا وتهديده المباشر للسويد والتي أجبرها هذا التهديد وجارتها فنلندا على الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

وفي القرن الـ18 بلغت القوة الروسية حدّا جعل خلفاء بطرس الأكبر يسعون لتحقيق وصاياه المتمثلة في إزالة نفوذ كل من السويد وبولندا قبل تهديد الدولة العثمانية، والسيطرة على أراضيها الأوروبية مثل رومانيا وبلغاريا وكذلك القوقاز، وقد نجحت الإمبراطورة كاترينا في الاستيلاء على جميع الولايات السويدية الفاصلة بينها وبين ألمانيا، وتم إبرام اتفاقية بين الجانبين عُرفت باسم اتفاقية "ني ستاد" التي تم توقيعها عام 1672.

ولكن الأمر الذي أثار العثمانيين على الروس كان عقب وفاة ملك بولندا أغسطس الثالث سنة 1763، حيث تدخلت الدول الأوروبية لاختيار من يخلفه، وقد استطاعت كل من روسيا وبروسيا (ألمانيا) أن تنجحا عن طريق الضغوط المشتركة في اختيار ستانيسلاس بونياتوفسكي ليكون ملكا على بولندا سنة 1764، ولكن فريقا كبيرا من المعارضين البولنديين رفضوا هذا العاهل الجديد التابع للروس، وأقاموا تنظيمًا كونفدراليًا أسموه كونفدرالية بار.

الحرب العثمانية الروسية

وقد وجدت المعارضة البولندية نفسها في حاجة ماسّة إلى دعم أقوى الدول المجاورة وقتئذ (العثمانيين) الأمر الذي جعل الروس يتدخلون عسكريا للقضاء على القوات البولندية المعارضة حتى لجأت هذه القوات إلى الأراضي العثمانية التي كانت تمتد حينئذ إلى حدود بولندا وتسيطر على القرم وأجزاء من أوكرانيا المعاصرة، ولكن الروس أصروا على الدخول إلى الأراضي العثمانية وأشعلوا النيران في منطقة تُسمى بلطة.

وكان العثمانيون بداية القرن الـ18 قد دخلوا في العديد من المواجهات العسكرية أمام الروس والنمساويين والفُرس، وحين اعتلى محمد راغب باشا منصب الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) واستمر في منصبه ذلك 6 سنوات في سلطنة مصطفى الثالث كانت إستراتيجيته التي وافق فيها السلطان العثماني إعلان السلام والصلح مع الدول الأوروبية، وصبّ اهتمامه في الإصلاح الداخلي السياسي والاقتصادي والعسكري، وتقوية المؤسسات، وتقوية مؤسسة القضاء بتوسيع نفوذ القُضاة واستقلالهم.

ولكن فريقًا آخر من المؤثرين داخل الدولة العثمانية من الوزراء والعسكريين والإداريين كان متعطشًا للحروب لاستمرار هيبة ونفوذ الدولة عالميًا بعد عقود من الهدنة والسكينة، ولكن كما يقول المؤرخ روبير مانتران في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية" كان الـقرن 18 "يرمز في تاريخ الإمبراطورية العثمانية إلى البداية الحقيقية لهجوم الدول الأوروبية العظمى، أكان ذلك في المجال العسكري والدبلوماسي أم في المجال الاقتصادي".

ولهذا الهجوم أسبابه العميقة، فطوال الـ30 عاما الماضية ركن العثمانيون إلى السلام؛ وبسبب عدم دخول الحرب نسي الجنود تكتيكات القتال والمعارك، بينما جهزت الإمبراطورة كاترينا الثانية جيشها الروسي بشكل جيد، وحتى اشتعال الحرب الروسية العثمانية سنة 1768 لم تكن ثمة دولة أوروبية بمفردها قد استطاعت أن تنتصرَ على الدولة العثمانية كما يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا.

ولم يأبه الروس باعتراض الباب العالي على دخولهم إلى أراضي الدولة العثمانية وإحراق إحدى بلدانها بحجة ملاحقة قوات المعارضة البولندية، الأمر الذي اضطر العثمانيين لإعلان الحرب على الروس "مع تخلف قواتهم، ونقص استعداداتهم من الناحية العسكرية رغم مرحلة السلم الطويلة، ومن ثم تحولت الحرب إلى كارثة مطبقة على رجال الدولة الذين انخدعوا بأحلام الفتح، واستعادة القوة من جديد، وتكشّفَ للعيان مدى ضعف الدولة الإداري والعسكري" كما يقول المؤرخ التركي فريدون أمجَن.

وفي النهاية دخلت الدولة العثمانية الحرب التي اشتعلت على عدة جبهات، وأوعزت لخان القرم وأوكرانيا قيراي باي التابع لها أن يهجم على الروس في الشمال، وقد نجح في هجومه ذلك بداية المعارك، كما اشتعلت المواجهات على خط الحدود الواقعة بين الدولة العثمانية وبولندا في الجهة الغربية.

وكان الروس في السنوات الماضية قد أعدوا العدة جيدًا في المجال البحري، فأنشؤوا أسطولا وضعوه في بحر البلطيق لأن البحر الأسود كان محرما عليهم من قبل العثمانيين، وكان هذا الأسطول يقوده ضباط من الإنجليز والأسكتلنديين والألمان، فاتجه هذا الأسطول من بحر البلطيق باتجاه البحر المتوسط مارا بالمحيط الأطلسي، ولم يصدق العثمانيون أن الروس يملكون أسطولا بالمعنى الحقيقي، حتى تفاجؤوا به في مياههم الإقليمية في بحر المورة ثم بحر إيجه.

وفي بحر إيجه اشتعلت معركة بحرية ضارية بين الجانبين انتهت إلى احتلال الروس جزيرة ساقز المعروفة اليوم باسم خيوس اليونانية، وأُحرقت في هذه المعركة جميع قطع الأسطول العثماني التي كانت راسية في ميناء جشمة، وأحدث الانتصار البحري الروسي في بحر إيجه ليلة 6-7 يوليو/تموز 1770 صدى عظيمًا في أوروبا.

ومع استيلاء الروس على جزيرة خيوس بقيادة الجنرال الأسكتلندي ألفنستون، أراد هذا القائد التقدم للسيطرة على العاصمة إسطنبول لعدم وجود ما يمنعه من الاستحكامات من المرور في مضيق الدردنيل، ولكن لم يوافقه القائد الروسي أورلوف على ذلك، واتفق الاثنان على احتلال جزيرة لمنوس لتكون قاعدة لأعمالهما الحربية، فحاصراها. وكان البارون دي توت -وهو قائد عسكري مجري- قرر الانضمام إلى الدولة العثمانية لتطوير جيشها من تحصين مضيق الدردنيل وبناء القلاع على ضفتيه وتسلحيها بالمدافع الضخمة حتى صار المرور منه شديد الصعوبة.

الروس يشعلون الدولة العثمانية من الداخل

في الشمال استطاع الجيش الروسي أن يحتل قسما كبيرا من ولاية بُغدان وهي مولدوفا ثم توغلت قواته في الأفلاق وهي رومانيا التي كانت تابعة أيضا للدولة العثمانية، وقتلوا عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين، وقد أحدث هذا الانتصار الآخر ضجة كبرى، فلأول مرة في تاريخ الدولة الأولى عالميًا تسقط من حيث القدرة إلى الدرجة الرابعة بعد إنجلترا وفرنسا وروسيا بالتسلسل، كما يصف المؤرخ يلماز أوزتونا.

ولم تتوقف الحرب عند هذا الحد من الخسائر، فقد استطاع الروس إشعال الخلافات الداخلية في إمارة القرم الإسلامية وكان يحكمها التتار المسلمون، وقد وافقوا منذ فترة طويلة على التبعية للدولة العثمانية؛ وقد خدع قسم من أهلها بريق وعود الروس باستقلالها عن العثمانيين، وفريق آخر أصر على البقاء مع الدولة العثمانية ومواجهة الروس، ولكن دخول حرب جديدة دون مساندة المدفعية والوحدات الفنية الأخرى للجيش العثماني كان يعني هزيمة ساحقة أمام الجيش الروسي المتطور.

ونهاية المطاف وبعد معركة سريعة انهزم العثمانيون والقرم أمام الروس، وسرعان ما استولى الروس على كامل القرم، وبهذا انتهى الحكم الفعلي للعثمانيين للجزيرة بعد 296 عامًا، وقد اتضح بشكل حاسم أن روسيا انتصرت في الحرب بشكل حاسم واستطاعت تهديد الدولة العثمانية من البحر الأسود بعدما تمكنت لأول مرة في تاريخها من السيطرة على شماله، وكذلك تهديد العثمانيين من البحر المتوسط بغلق خطوط الملاحة في بحر إيجه.

وأثناء هذه الحالة من الحرب أعلن اثنان من كبار الولاة العثمانيين في مصر والشام، وهما علي بك الكبير وظاهر العُمر التمرد، وثبت وجود دعم كبير من الأسطول الروسي في البحر المتوسط لكل من العُمر وعلي بك، وقد استطاعت قوات الأخير الاستيلاء على كامل فلسطين وسوريا حتى بلغت حدود الأناضول، ولولا انقلاب القائد المملوكي محمد بك أبو الذهب على سيده علي بك، وإدراكه مدى الخيانة التي يقوم بها سيده ضد وحدة الديار الإسلامية لتمكن من دخول الأناضول وربما بلغ إسطنبول.

وفي المقابل اتحدّ علي بك مع العمر في عكا وانضم إليهما 400 ضابط روسي بغية هزيمة أبو الذهب، والتقى الفريقان في منطقة الصالحية شمال شرقي مصر، وأسفرت هذه المعركة عن هزيمة علي بك وفرار العمر ومقتل وأسر عدد من الجنود الروس في هذه المعركة، وعاد الاستقرار والهدوء في المنطقة العربية بعد أشهر من تدبير وتخطيط الروس.

 

معاهدة كوجك قينارجه الخسارة العثمانية الفادحة

لم تتوقف الخسائر العثمانية الفادحة عند هذا الحد، فقد نجح الروس أيضًا في الاستيلاء على مولدوفا ورومانيا، ودخل الفريقان في حرب استنزاف طوال عام 1773. وفي صيف عام 1774 شن الروس هجوما كبيرا استطاعوا التوغل خلاله في بلغاريا، وانهزم العثمانيون أمامهم في قوزلوجه قريبا من مدينة فارنا، وعند هذا الحد أدرك العثمانيون أن الروس باتوا قاب قوسين من العاصمة إسطنبول، ولهذا السبب وبعد 6 سنوات من الحرب المتواصلة، والخسائر المالية والإستراتيجية الفادحة اضطر العثمانيون إلى عقد اتفاقية كُوجك قينارجه في يوليو/تموز 1774.

وكانت هذه الاتفاقية واحدة من أسوأ الاتفاقيات التي وقّعها العثمانيون في تاريخهم؛ فقد نصّت على استقلال القرم عن الدولة العثمانية مع بقاء التبعية الدينية لشيخ الإسلام في إسطنبول، كما نصت على منح الأفلاق والبغدان أي مولدوفا ورومانيا الاستقلال الذاتي تحت السيادة العثمانية، مع إعطاء روسيا حق التدخل واختيار حكّامها، وأعطت المعاهدة الروس أيضًا حق رعاية السكان الأرثوذكس الذين يعيشون في الدولة العثمانية، وتغريم الأخيرة مقدارا كبيرا من الأموال، وكل هذه الشروط وغيرها فتحت الباب واسعًا للروس للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية، وهو الأمر الذي ظهرت عواقبه الوخيمة في القرنين الـ19 والربع الأول من القرن العشرين.

كما ضمنت روسيا موطئ قدم لها في البحر الأسود والاعتراف بوجودها في قبارديا في القوقاز وسيادة مطلقة في ميناء آزوف وفي أوكرانيا، وحصلت أيضًا على حق المرور في الدردنيل. كل هذه الخسائر جعلت الدولة العثمانية تتراجع عسكريا وسياسيا أمام الروس ومن قبلهم الإنجليز والفرنسيين، ولهذا السبب يُنهي المؤرخ هامر تأريخه للدولة العثمانية في عصرها القوي مع معاهدة قاينارجه؛ لأن السنوات التي تلت هذه المعاهدة رغم المحاولات المستمرة للتحديث زمن السلطان عبد الحميد الأول (1774-1789) وحتى زمن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) أثبتت تراجعا ضخما للدولة العثمانية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ويُرجع المؤرخ المصري محمد فريد في كتابه "تاريخ الدولة العلية" تراخي الدولة العثمانية إلى جهل وزرائها بالخطر الروسي الذي بدأ مع بطرس الأكبر بداية القرن الـ18، وهو الأمر الذي أدى إلى ابتلاع بولندا والولايات السويدية في أوروبا، وأصبح الطريق مفتوحا أمامها لإزالة الحاجز الثالث الذي أوصى بطرس خلفاءه من بعده، وهي الدولة العثمانية التي تعرضت لهزائم كبيرة من الروس في القرنين الـ18 والـ19.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الدولة العثمانیة البحر المتوسط البحر الأسود بطرس الأکبر الأمر الذی على الروس فی القرن بحر إیجه من البحر فی تاریخ الروس فی علی بک فی بحر

إقرأ أيضاً:

نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟

تتدفق المروحيات فوق مبنى السفارة الأميركية في مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، بينما يتزاحم تحتها آلاف الباحثين عن منفذ خروج من المدينة التي سقطت في يد المقاتلين الشيوعيين من فيتنام الشمالية، في مشهد كان أشبه ما يكون بسباق محموم ضد الزمن والمصير.

لقد كانت تلك اللحظة من صباح 30 أبريل/نيسان 1975، آخر ما يفصل أكبر قوة عسكرية في العالم عن اعتراف صامت وغير معلن، لكنه مدو وصاخب في الوقت نفسه، بالهزيمة في أوضح صورها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟list 2 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟end of list

ومع إقلاع المروحية الأميركية الأخيرة مبتعدة عن سايغون بمن أمكنها حملهم، أُسدل الستار على واحدة من أطول الحروب في القرن الـ20، لتنهي الولايات المتحدة صفحة دامية في تاريخها وسط مرارة وانكسار، لم تعرف لهما مثيلا منذ تأسيسها.

ورغم مرور نصف قرن على مشاهد سايغون، لا تزال الحرب الفيتنامية واحدة من أكثر الحروب الحديثة تناولا بالدراسة، ومحور عديد من الأدبيات العسكرية، التي سعت إلى تفكيك أسباب فشل قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، وإخضاع خصم أقل منها بكثير رغم الفارق الهائل في الإمكانات والموارد ورغم سنوات الحرب الطويلة.

ومع أن الروايات الأميركية فرضت هيمنتها على مجريات التأريخ والتحليل في ما يخص تلك الحرب، فإن ذلك لم يمنع من اعتبارها نموذجا ملهما لحركات التحرر عبر العالم، ودرسا بليغا في كيفية انتصار طرف محدود الموارد على خصم متفوق عسكريا وتقنيا واقتصاديا.

إعلان

ويعد هذا الدرس مهما بشكل خاص بالنظر إلى حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية والشعب الغزي الأعزل مواجهة ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة المدعومة من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية.

لقد طرحت حرب فيتنام سؤالا جوهريا عن سر هزيمة الولايات المتحدة في تلك الحرب، وهي هزيمة ثبت أن أسبابها تتجاوز الأخطاء العسكرية البحتة إلى سوء فهم أميركي متأصل للواقع الذي دارت فيه الحرب وانفصال معرفي جسيم عن الواقع.

لقد خاضت واشنطن حربا على عدو لم تفهمه، في بيئة لا تدرك تعقيداتها، بحسب ما عبرت عنه الصحفية الأميركية الحاصلة على جائزة "بوليتزر" فرانسيس فيتزجرالد، في كتابها "حريق في البحيرة.. الفيتناميون والأميركيون في فيتنام"، حين وصفت مأساة "الغربة المعرفية" الأميركية تلك بقولها: "إن الأميركيين تاهوا بغباء في تاريخ شعب آخر".

عدّاد الجثث

ولعل أول مظاهر الغياب المعرفي يتجسد في فشل أميركا في استيعاب الطبيعة الخاصة للحرب التي خاضتها، حيث واجه جيشها تمردا مسلحا وحرب عصابات طويلة النفس، استحال خلالها الحسم عبر معركة فاصلة واحدة أو من خلال احتلال عاصمة العدو، وفق الأنماط التي اعتادت عليها الجيوش النظامية.

ومما زاد من تعقيد المهمة أن الفيتناميين نجحوا في المزج بين تكتيكات حرب العصابات والقتال التقليدي المنظم عبر مراحل مدروسة، إلى جانب بذل جهود دبلوماسية، للاستفادة من اضطرابات الجبهة الداخلية الأميركية وانقسامات القوى الكُبرى (استفاد الثوار الفيتناميون من الدعم السوفياتي)، بما أتاح لهم تعظيم مكاسبهم في الميدان والسياسة معا.

في المقابل، وفي مواجهة ضبابية الميدان، لجأت القيادة العسكرية الأميركية إلى سلسلة من التكتيكات والإستراتيجيات التجريبية، لكنها سرعان ما أثبتت قصورها. منها اعتمادها عمليات "البحث والتدمير" الاستنزافية، القائمة على تمشيط الأدغال والقرى واستخدام القوة النارية غير المتماثلة لسحق الخصوم، مع تكثيف القصف الجوي لقطع خطوط الإمداد القادمة من الشمال عبر لاوس وكمبوديا.

إعلان

وبالتوازي مع ذلك، ابتكرت القيادة الأميركية مقياسا إحصائيا غريبا لقياس التقدم العسكري، عُرف بـ"عدّاد الجثث"، استند لفرضية أن تكبيد المقاومة أكبر قدر من الخسائر البشرية سوف يؤدي في النهاية إلى إنهاكها وكسر إرادتها.

وشملت الممارسات الأميركية أيضا تكتيكات الحرب النفسية، مثل إلقاء ملايين المنشورات واستخدام مكبرات الصوت المحمولة جوّا، لبث رسائل التهديد والذعر في صفوف الفيتناميين.

لكن تبقى أكثر ممارسات الحرب النفسية الأميركية إثارة للجدل هي ما عُرف باسم "عملية الأرواح المتجولة" وتضمنت قيام القوات الأميركية ببث تسجيلات لأصوات بشرية مذعورة ومشوهة، تحاكي أصوات أرواح متخيلة، بغرض إثارة الخوف والارتباك في صفوف الفيتناميين وتقويض معنوياتهم، وإجبار مقاتلي "الفيت كونغ" على الفرار مستغلة اعتقادهم في معاناة الأرواح التي لا تُدفن بشكل لائق.

كانت فيتنام حقلا لتلك التجارب الأميركية وغيرها، لكن رغم تنوع الأساليب، فإن الواقع الميداني ظل عصيا على الأميركيين، فعدّاد الجثث، على سبيل المثال، سرعان ما تحوّل إلى فخٍّ قاتل، إذ دفع الوحدات الأميركية إلى السعي المحموم وراء تحقيق أرقام مرتفعة للقتلى بأي طريقة، حتى لو كان ذلك بارتكاب المذابح في صفوف المدنيين، مما عزز من كراهية السكان المحليين للجيش الأميركي وأفقده فُرص التعاون معهم وكسب ولائهم.

ومن جهة أخرى، شجّعت هذه السياسة على المبالغة المتعمدة وتقديم أرقام مضخمة للقتلى من جانب القادة الميدانيين، بهدف إظهار التفوق أمام القيادة العليا، مما أوحى مرارا باقتراب النصر الحاسم، لكن مع كلّ تعبئة جديدة وتعويض لتلك الخسائر البشرية من جانب المقاومة الفيتنامية، كان يبدو أن "عداد الجثث" يرتد بتأثير معنوي سلبي داخل الوحدات الأميركية، في الوقت الذي يزيد فيه من عزيمة الثوار وتصميمهم.

القصف الجوي الأميركي على فيتنام أثبت فشله في تحقيق الأهداف الإستراتيجية والعملياتية (غيتي) اختبار إرادة لا اختبار أسلحة

وعلى غرار إخفاق الإستراتيجيات البرية، أثبت القصف الجوي الأميركي أيضا فشله في تحقيق الأهداف الإستراتيجية والعملياتية.

إعلان

فعلى الرغم من نصف مليون جندي أمريكي أرسلهم الرئيس ليندون جونسون إلى فيتنام، وإسقاط أكثر من 8 ملايين طن من القنابل، بما يتجاوز أضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية (أسقط الحلفاء حوالي 2.7 مليون طن من القنابل خلال سنوات الحرب)، فإن ذلك لم ينجح في خنق المقاومة أو قطع خطوط الإمداد الحيوية.

في غضون ذلك، استمر تدفق المقاتلين والعتاد عبر طريق "هو تشي منه" الأسطوري، حتى إن الإحصاءات الأميركية نفسها أقرت بارتفاع عدد المتسللين من الشمال إلى الجنوب، من نحو 35 ألف مقاتل عام 1965 لما يقرب من 90 ألفا عام 1967 لدرجة أن تكلفة تدمير مستودع مؤن واحد صارت باهظة، قياسا بقدرة الفيتناميين على تعويضه سريعا عبر شبكة إمداداتهم الفعالة والمموهة جيدا.

تزامن هذا الفشل ومشكلة تكتيكية أعمق، فمثلما لم تعرف هذه الحرب خطوط إمداد مكشوفة، لم تكن أيضا تحتوي جبهات محددة قابلة للاستهداف، فهي بالأساس حرب عصابات، يظهر خلالها الخصم مثل طيف كي يضرب ثم يختفي، وسط تضاريس يعرفها كراحة يده وبين سكّان بلده وحاضنته الاجتماعية القوية.

وقد أفضى ذلك في الأخير إلى فشل مبدأ "البحث والتدمير"، الذي تبناه الجنرال وليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام في الفترة 1964-1968، حين اكتشف الأميركيون أن مواقع العدو لا تبقى فارغة بعد انسحابه، إذ سرعان ما يعود إليها الفيتناميون لاستئناف معادلة الكر والفر، وزرع الكمائن والفخاخ الأرضية، قبل الاختفاء مثل الأشباح في الأدغال أو التسلل إلى شبكة الأنفاق السرية، فور استشعار الخطر.

ومع تعاظم الخسائر والإحباط، اضطرت القيادة الأميركية إلى التخلي عن إستراتيجية "البحث والتدمير"، واعتماد مبدأ "التطهير والاحتفاظ" بدلا منها، ويركز هذا المبدأ على تأمين المواقع عوضا عن مطاردة المقاتلين الأشباح، وتزامن ذلك مع تولي الجنرال كريتون أبرامز القيادة الأميركية في فيتنام خلفا لويستمورلاند.

إعلان

ولا يعني هذا الطابع الشبحي الذي غلب على المواجهات أن المقاومة الفيتنامية افتقدت المبادرة، فوفقا للدراسة العسكرية الصادرة عن جامعة جونز هوبكنز الأميركية، امتلكت القوات الفيتنامية المبادرة في 88% من الاشتباكات ضد القوات الأميركية، على مدار أكثر من 10 سنوات هي عمر التدخل العسكري البري لأميركا في فيتنام، مما يعني أن الأميركيين ظلوا في أغلب الأوقات في موقع رد الفعل لا الفعل.

وحتى في الحالات النادرة التي تمكن خلالها الأميركيون من سحب الفيت كونغ إلى مواجهات مكشوفة، لم تكن انتصاراتهم التكتيكية تترجم إلى تقدم إستراتيجي، إذ سرعان ما تعود المقاومة للظهور في مناطق أخرى جديدة، وتجد القوات الأميركية نفسها مضطرة لإعادة احتلال القرى ذاتها مرارا، في دورة عبثية تجسد إحدى القواعد العسكرية البديهية، وهي أن كسب معركة لا يعني بالضرورة كسب الحرب، ورغم وضوح هذه الحقيقة، فإنه يبدو أن واشنطن نسيتها في غمار المستنقع الفيتنامي.

ولم يكن ذلك إلا انعكاسا لتفوق ميداني نوعي للفيت كونغ، الذين امتلكوا سلاحا أمضى من المدفع والبندقية، فهم أبناء هذه الأرض؛ يحفظون دروبها ويملكون القدرة على اختيار زمان المعركة ومكانها، واستغلال ذلك على أتم وجه، بما مكنهم من توجيه ضربات خاطفة ثم التلاشي وسط الأدغال والحقول والقرى. وأمام هذا النمط من الحرب السائلة، وفي مواجهة خصم يتحرك بمثل هذه المرونة، فقدت التكتيكات الأميركية التقليدية فعاليتها، وبدا الجيش الأميركي مثل دب عجوز ثقيل يواجه نمرا شابا سريعا وفتاكا.

ومما عمق تلك الهوة أكثر، الفارق الجوهري في دوافع القتال، فرغم تواضع تسليحهم، الذي لم يتجاوز البنادق الخفيفة والمدفعية المحدودة مع دعم جوي شبه معدوم، خاض الفيتناميون حربا وجودية دفاعا عن وطن موّحد وبرغبة التحرر من الهيمنة الأجنبية، وهي دوافع تُعلي من الإرادة والصبر والقدرة على التضحية، في حين قاتلت أميركا من أجل فرض النفوذ على دولة بعيدة، ضمن إستراتيجية أيديولوجية هي احتواء الشيوعية.

إعلان

وشاسع هو الفارق بين مقاتل مستعد للموت من أجل وطنه، وجندي أُرسل إلى أرض غريبة، بناء على حسابات سياسية ربما تتجاوز فهمه.

شكّل هذا التباين عاملا حاسما في مسار الحرب، ففي مقابل استعداد الفيتنامي لتحمل أي خسائر من دون أن تهتز عزيمته، كانت عزيمة أميركا ومعنويات شعبها وعزم قياداتها تتآكل مع كل نعش عائد من فيتنام. وتفاقم المأزق الأميركي مع نجاح الفيت كونغ في بناء شبكات دعم شعبي واسعة في الجنوب (الخاضع للولايات المتحدة)، بين المزارعين والقرويين، الذين وفروا الإمدادات والملاذات الآمنة للمقاتلين، وتحوّلوا إلى جزء من شبكة الحرب، بما جعل مهمة التمييز بين المدني والمقاتل شبه مستحيلة بالنسبة للقوات الأميركية.

أنفاق الفيت كونغ.. كابوس تحت الأرض

ولم تقتصر معضلة التعامل عناصر الفيت كونغ على المعارك فوق الأرض، بل امتدت عميقا تحتها، فثمة ميدان قتال آخر فُرض على الأميركيين، وهو الأنفاق، التي لعبت دورا حاسما في تغيير قواعد المواجهة. وقد كانت شبكة الأنفاق أكثر من مجرد ممرات للهرب، حيث تشكّلت كمنظومة أمنية وعسكرية متكاملة مكتفية ذاتيا؛ مكّنت المقاومة الفيتنامية من التخفي والرصد والمناورة، ومن إعادة تنظيم الصفوف ونصب الكمائن، لتشكّل بذلك إحدى أعقد بيئات حرب العصابات في العصر الحديث.

وحسب التقديرات، امتدت شبكة أنفاق الفيت كونغ لقرابة 270 كيلومترا تحت الأرض، وتخللتها غرف قيادة وعمليات ومستشفيات ميدانية، وكذلك مخازن أسلحة ومؤونة، كما احتوت مساكن سرية ومصانع للأسلحة الخفيفة، إلى جانب مصائد للمتسللين ومخارج طوارئ تؤدي إلى الغابات والقرى المجاورة، مما جعل ملاحقة عناصر الفيت كونغ مهمة شبه مستحيلة.

وقُدّر لاحقا، أن بناء هذه الشبكات استغرق أكثر من 20 عاما، بدءا من أربعينيات القرن الماضي، في أثناء مقاومة الفيتناميين للاستعمار الفرنسي، ثم تطوّر بعضها بعد ذلك، ليشكّل هذه المنظومة المتداخلة المتعددة المستويات الممتدة تحت الأرض.

إعلان

وقد تجلى التأثير العملياتي لشبكة الأنفاق بوضوح في أكثر من مناسبة، منها الهجوم الذي نفذته وحدات الفيت كونغ في فبراير/شباط 1969 على قاعدة "كوتشي"، إحدى أكبر القواعد الأميركية في فيتنام، مما أسفر عن تدمير 9 مروحيات من طراز "شينوك-47" وإلحاق الضرر بـ3 أخرى، فضلا عن تفجير مستودع الذخيرة الرئيسي داخل القاعدة.

والمفارقة أن قيادة القاعدة تلقت تحذيرات استخباراتية مسبقة بشأن الهجوم، ورغم ذلك، فإن نحو 80 من خبراء المتفجرات التابعين للفيت كونغ تمكّنوا من التسلل إلى عمق القاعدة، وإتمام مهمتهم في غضون دقائق معدودة، من دون أن يتمكن الحراس من اكتشافهم، مما دفع بعض الجنرالات الأميركيين لاحقا إلى الاعتراف بأن شبكة الأنفاق تحولت إلى كابوس نفسي يقوض الشعور بالأمان، حتى في الخطوط الخلفية.

ويؤكد هذا التأثير جو بوتشينو، المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، في مقال بمجلة "فورين بوليسي" إذ يشير إلى أن أنفاق فيتنام تجاوزت تأثيرها المادي نحو إحداث ذعر وارتباك نفسي وجنون ارتياب مستمر بين الجنود الأميركيين، لأن العدو القادر على الظهور فجأة من باطن الأرض يحوز ميزة كاسحة، إذ يكسر أي شعور أمان يمنحه التفوق التسليحي.

ورغم المحاولات الأميركية المتكررة لتدمير الأنفاق، عبر القصف الجوي والمدفعي أو الغمر بالمياه والغازات السامة، فإن طريقة بنائها البسيطة والفريدة في الوقت نفسه، بطبقات متعددة من الطين المدكوك هيّأتها للصمود أمام الانفجارات، كما أن تصميمها المرن أتاح للفيتناميين تجاوز المناطق المتضررة ومواصلة القتال دون تأثير يُذكر.

وحسب الكاتب ومؤرخ الحرب الأميركي وليام بي هيد، فقد تشكّلت أنفاق فيتنام من تربة احتوت على الطين والحديد، مما أدى إلى تكوّن عامل ربط يشبه الأسمنت. واعتمد البناء على آلية بسيطة، حيث جرى الحفر في موسم الرياح الموسمية حينما تكون التربة لينة، وعند جفافها لاحقا تبقى مستقرة دون حاجة إلى دعامات.

إعلان

ويُشار إلى أن اكتشاف الأميركيين لتلك الشبكات لأول مرة كان في أعقاب "عملية اللصوص" (Operation Marauder)، التي نفذها اللواء الأميركي 173 المحمول جوّا بالاشتراك مع الكتيبة الأولى من الفوج الملكي الأسترالي في دلتا نهر ميكونغ، خلال يناير/كانون الثاني 1966. ورغم العثور على بعض مداخل الأنفاق خلال تلك العملية، فإن القوات الأسترالية والأميركية لم تدرك آنذاك الحجم الحقيقي ولا مدى تعقيد المتاهة الكامنة تحت أقدامهم.

هجوم "تيت".. صدمة نفسية ورهان إستراتيجي

ومع تصاعد قدرات الفيت كونغ على المناورة فوق الأرض وتحتها، جاءت اللحظة التي قرروا فيها نقل الحرب إلى مستوى أعلى، عبر شنّ هجوم مفاجئ شامل، استهدفوا خلاله أكثر من 100 مدينة وقاعدة عسكرية في وقت متزامن.

عُرف ذلك الهجوم الشهير باسم "تيت"، وشكّل نقطة تحول فارقة في تلك الحرب. ففي الساعات الأولى من صباح 30 يناير/كانون الثاني 1968، ومع بدء احتفالات السنة القمرية حسب التقويم الفيتنامي (عيد تيت)، اجتاح مقاتلو الفيت كونغ وزملاؤهم من الجيش الشعبي الفيتنامي عددا من المواقع الحيوية في جنوب فيتنام، بما فيها العاصمة سايغون.

اعتمد الهجوم في تصميمه على عنصر المفاجأة، مستغلا حالة التراخي ومتغاضيا عن فارق القدرة العسكرية، بما يجعله أقرب إلى مقامرة طموحة، لكنه لم يكن قرارا اعتباطيا، نظرا لأن القيادة الفيتنامية أرادت من خلاله تحفيز انتفاضة شعبية جنوبية تطيح بالحكومة الموالية للولايات المتحدة في سايغون، وإحداث صدمة نفسية وسياسية داخل الولايات المتحدة، بما يدفع الرأي العام الأميركي نحو مراجعة دعم استمرار الحرب.

بمعنى أن الهدف من الهجوم لم يكن حسم الصراع على الفور، وإنما تحقيق مكاسب إستراتيجية على مدى أبعد، وقد بُنيت الحسابات الفيتنامية للاستفادة من حالة الارتباك التي أصابت الإستراتيجية الأميركية، بعد سنوات من استنزاف قواتها دون نتائج حاسمة.

إعلان

وعلى الرغم من أن الفيت كونغ لم يتمكنوا من الاحتفاظ بالمواقع التي سيطروا عليها في سايغون وهيو ومدن أخرى، فإن الهجوم كشف عن هشاشة حكومة الجنوب، وأدى إلى تآكل ثقة الأميركيين بإمكانية حسم الصراع عبر الحل العسكري وحده، ولم يقلل من ذلك التأثير تكبد الفيتناميين خسائر جسيمة على المستوى البشري، تجاوزت 50 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات.

كان وقع الهجوم مدمرا على إدارة الرئيس الأميركي ليندون جونسون، التي كانت تروج لفكرة "الضوء في نهاية النفق"، وفوجئت بمطالبة الجنرالات بتعزيز القوات الأميركية في فيتنام، رغم أن أعدادها تجاوزت نصف مليون جندي في ذلك الوقت، وهو ما وضع الإدارة في موقف حرج أمام الرأي العام، ومما أكد أن الحرب أبعد ما تكون عن نهايتها، وأدى إلى تصاعد المظاهرات وتزايد الضغط على البيت الأبيض، ودفع جونسون إلى إعلان عدم ترشحه لولاية ثانية بعد أسابيع قليلة من الهجوم.

هكذا لم يكن هجوم تيت مجرد معركة عسكرية، بل ضربة نفسية وإستراتيجية زلزلت ركائز المشروع الأميركي في فيتنام، وأطلقت 7 سنوات أخرى من القتال المرير، انتهت بمشهد إقلاع آخر مروحية أميركية بعيدا عن سايغون.

وعلى امتداد السنوات التي تلت سقوط سايغون ونهاية الحرب، كان الاعتقاد يترسخ أكثر فأكثر بأن هجوم "تيت" كان هو بداية النهاية لتلك الحرب، حين كشفت فيتنام عن حدود القوة العسكرية، وأكدت لخصومها أن كسب الحروب لا يتحقق فقط عبر التفوق في العتاد، بل يتطلب فوق ذلك إرادة لا تلين، وفهما أفضل للأرض وللشعوب التي تقاتل دفاعا عن مصيرها ووجودها.

مقالات مشابهة

  • نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟
  • ترامب: بوتين كان يحلم السيطرة على أوكرانيا بأكملها.. ولن يفعل ذلك بسببي
  • الرئيس الروسي يحذر من محاولات تزوير وقائع الحرب العالمية الثانية وتبرير جرائم النازية
  • الملف الأولمبي الروسي بانتظار كوفنتري.. ديغتياريوف يكشف عن شرط الحسم
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • اغتيال رئيس مصنع تطوير قدرات الحرب الإلكترونية الروسية بسيارة مفخخة
  • أول رد من زيلينسكي على قرار بوتين بشأن الهدنة
  • وزارة الدفاع الروسية تنشر مشاهد للقوات الكورية الشمالية التي ساعدت في تحرير كورسك
  • الحرب في أوكرانيا : بوتين يعلن هدنة لمدة ثلاثة أيام
  • خلال لقائه السفير الأمريكي.. العليمي: إنهاء خطر الحوثيين على الملاحة مرهون باستعادة الدولة اليمنية