لو أن صانعا صنع آلة أو جهازا فإنه لأجل الاستفادة من تلك الآلة أو الجهاز سيرفق معه كتيبا يبين فيه محتويات الجهاز وأجزاءه والطريقة الأنسب لتشغيله والمحاذير التي ينبغي أن يحذر منها عند تشغيل الجهاز، فكيف بصانع هذا الكون الذي صنع الإنسان وخلقه من العدم وأوجد له مادة ونوعا مستقلا ونفخ فيه من روحه، فهو أعلم به فلذلك أرسل له الشرائع والكتب والرسل التي تبين له الطريقة الأمثل في الحياة، وتجعل منه خليفة الله في أرضه يعمرها، ويعمر ذاته بالعبادة والالتزام بما أمره الله به والانتهاء عما نهاه عنه، ولكن عندما يخرج الإنسان عن هذا المسار الرباني تفسد فطرته ويتشوه مسلكه وهذا ما حصل عند الكثير من المجتمعات البشرية في هذا العصر، فكثرت الأمراض الذهانية، والأمراض العصبية، وأصبح الهم والاكتئاب يسيطر على الكثير من المجتمعات.

وهذا هو مفهوم الضنك الذي ذكره الله في القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا" ولو نظرنا إلى الحياة الواقعية اليوم وما تمدنا به منظمة الصحة العالمية من بيانات وأرقام لوجدنا أن المؤشرات برغم تفاوتها بين المجتمعات إلا أنها تمثل ظاهرة عالمية تسعى الأمم إلى إيجاد حل لها، فحالات الانتحار أحد أهم وأقوى أسبابها هو الهم والاكتئاب الناتج عن عوامل كثيرة منها عوامل خارجية ومنها عوامل نفسية وعصابية، ويأتي تصنيف الانتحار كأحد أسباب الوفاة وفق منظمة الصحة العالمية بعد الوفيات الناتجة عن مرض السكري وضغط الدم، بمتوسط سنوي يصل إلى 700 ألف حالة انتحار سنويا.

ولو تتبعنا أسباب المعيشة الضنك وسيطرة الهم والحزن على الأشخاص وتعشيش الأفكار السلبية في أذهانهم ومخيلاتهم لوجدنا أن لها أسبابا عديدة ومتنوعة منها ما هو روحي أو نفسي، ومنها ما هو مادي، فاختلال في ميزان حاجات الجسد والروح يؤدي إلى اعتلال في الإنسان يسبب له هذا الشعور بالاضطراب والقلق والهم، فالانغماس في الماديات والتشبع بها وجعلها هي الوسيلة والغاية فإن ذلك ينعكس على جوهر الإنسان المتكون من جسد وروح، وفي أحيان كثيرة بسبب التفاوت المعيشي في المجتمعات فإن إغراق النفس البشرية بهذه الماديات وجعلها محورا للحياة فإنها تشكل أزمة كبيرة في حالة نقصانها أو عدم توفرها، مما يدخل الإنسان في دوامة من الحزن والهم الذي يؤدي إلى الاكتئاب بسبب عدم التوازن في متطلبات الإنسان من حاجيات الروح والجسد.

وفي كثير من المجتمعات التي تكثر فيها حالات الاكتئاب يكون أحد الأسباب هو غياب معنى الهدف من الحياة، ومنتهى الغاية عندهم هذه الحياة الدنيا، وهذا ناتج من عدم الإيمان بيوم البعث، فهم لا يؤمنون بأن هذه الحياة الدنيا هي دار عمل وأن الأخرة هي دار البقاء، وهذا يتفق مع نظرة الأقوام السابقين الذين كانوا ينظرون بمثل هذا المنظور وقد حكى القرآن الكريم قولهم حينما قال: "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" فغياب الهدف يؤدي إلى فقدان الأمل في كل موقف من مواقف الحياة التي تكتنفها الابتلاءات والمصائب.

بينما النظرة الإسلامية تختلف كليا عن هذا المنظور، فهي تنظر بمفهوم أشمل وأعم، ولها فلسفة خاصة فيما يتعلق بالابتلاءات والمصائب، وطريقة تعاطيها مع هذه المواقف تجعل الإنسان في تنمية روحية ونفسية في تعلقه بالله تبارك وتعالى، والإيمان بالقدر خيره وشره أنه من الله، وأن الإنسان يؤجر على كل شوكة تشوكه، فكيف بالمصائب والمحن، التي تقربه إلى الله عز وجل إن صبر واحتسب، ففلسفة الابتلاء هي ركيزة أساسية في نظرة الشريعة الإسلامية إلى الحياة، بل نجد أن المفهوم الإسلامي يتعدى كون الابتلاء يكون بالمصائب والمحن إلى كونه ابتلاء يشمل الخير والنعم، فالله يقرر هذه الحقيقة في كثير من آيات الكتاب العزيز، قال تعالى: "وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ".

وقد تتكاثر المصائب على الإنسان بسبب التزامات الحياة، وتكثر عليه الهموم، فلا يستطيع منها فكاكا، وقد تلحقه الديون، فيجب عليه أن يخطط لحياته بما يناسب مداخيله المادية وبما يوفر له حياة هانئة، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته علاجا لصحابته وللأمة من بعده في كيفية طرد الهموم وذلك من خلال اللجوء إلى الله وكثرة الدعاء وخاصة بالدعاء المخصوص الذي ذكره لأبي أمامة فقد روى أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ قال: قلت بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني. فيجب على المؤمن أن يستثمر هذه المفاتيح والأسرار التي يبثها الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ويلتزم بها، مع العمل على التخلص من توابع الهموم بالسعي في الحياة اليومية.

ومن العلاجات المحمدية للهموم التي قد لا يخلو منها أحد اليوم، هو كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت قال: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قال: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قال: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قال: يا رسول الله! فأجعل صلاتي كلها لك؟ قال: إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك. بل نجد ذلك في كتاب الله عز وجل ففي قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" لما في الصلاة على النبي من أثر عظيم مجرب في زوال الهموم والغموم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم رسول الله الله عز وجل ما شئت

إقرأ أيضاً:

أمسيات في المحابشة بحجة احتفاءً بذكرى المولد النبوي الشريف

الثورة نت|

نظمت في شمسان وحجر بني اسد وبيت المغربي بمديرية المحابشة في محافظة حجة أمسيات ثقافية احتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم.

واعتبرت كلمات الأمسيات بحضور مدير المديرية يحيى الملاهي ومسئول التعبئة إسماعيل النعمي، إحياء هذه المناسبة الدينية الجليلة شكراً لله على نعمته في أن بعث للبشرية خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشر الإسلام.

وأشارت إلى المكانة الخاصة لذكرى المولد النبوي في قلوب أهل اليمن الذين يفخرون أنهم أحفاد الأنصار من آزروا النبي ونصروا الإسلام، لافتة إلى أن هذه الاحتفالات تأكيد على حبهم وولائهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام واتباعهم لمنهجه القويم.

وبينت الكلمات أن الولاء لرسول الله أثبته اليمنيون اليوم بتجسيدهم مبادئه وقيمه مستمدين منه صلى الله عليه وآله وسلم معاني الإحسان والتعاون و الصمود في وجه العدوان.

ونوهت إلى أن الارتباط الوثيق بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أثمر انتصارات ونجاحات في مختلف المجالات وجسدته المواقف المشرفة لأحفاد الأنصار في نصرة الأقصى والانتصار للشهداء من النساء والأطفال في غزة.

تخللت الأمسيات فقرات متنوعة وقصائد شعرية معبرة.

مقالات مشابهة

  • أذكار أوصانا بها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
  • المولد النبوي: دروس مستفادة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • أمسيات في المحابشة بحجة احتفاءً بذكرى المولد النبوي الشريف
  • سوريا بلاد الفقهاء وحاضرة العلماء
  • رمضان عبدالمعز: النبي حذر من منع النساء الصلاة في المسجد
  • الإنتحار والفداء
  • أحمد مراد يتحدث عن فيلم "أم كلثوم": " هتشوفوا حاجات عمركم ما شوفتها "
  • مع اقتراب المولد النبوي.. تعرف على صيغ الصلاة على النبي ﷺ
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • عضو كنيست لمعاريف: نعرف مكان نصر الله وربما نقضي عليه