تصوّر العدم مرهون بتقدير الفناء فى أية لحظة غفل واردة من لحظات الحياة، وما الحياة إلا عدم مؤجل، والموت قريب قرابة نسب وصلة بالحياة، بل هو مُبطنٌ فيها، وما من حى على وجه البسيطة إلا ومصيره العدم، وتحقيقُ العدم مقيّدٌ بحكم الفناء على الأحياء، والفناء آخر الأمر هو المصير المحتوم لكل حي.
لكن أن تعرف هذا كله شيء، وأن تجرّبه وتعيش فيه شيء آخر، وتجربة التناهى وممارسة العدم بعد الوجود غاية ما يبذله الفرد فى تطبيق الفكرة على الواقع الفعلي.
أحسّ صاحبنا بعد عودته من العمل فى الرابع من أغسطس الماضى بألم شديد فى منطقة الصدر، لم تكن شدته هى التى استوقفته فجأة، بل غرابة الألم وطوارئه العارضة ومصاحبته لنوبات من العرق الشديد، وتنميل من ناحية السواعد والأطراف، شيء غريب حقاً باغته، لم يكن قد اعتاده من قبل.
تكرر الألم ليلاً وكأنه يعطى إنذاراً بشيء ما قد حدث، ولا يمكن أن يكون هذا الشيء بالهين اليسير.
وفى الصباح الباكر اشتد الألم على غير العادة مصحوباً بالشعور بالقيء، ويشاء القدر أن يكون صاحبنا بين زملائه، وسرعان ما شكا لهم ما يعانيه وإن كان يحسّ من معاناته أنها بوادر جلطة مؤكدة ممّا كان قد طرأ عليه فى ساعات عصيبة من أطوار غريبة، وإذ ذاك أسرع أصدقاؤه إلى إسعافه، توجّهوا به من فورهم إلى المستشفى، وبعمل الفحوصات اللازمة تبين القصور فى الشريان التاجي.
جلطة فى القلب كما هو متوقع، حمد صاحبنا ربّه على كل حال، ولم يكن جزوعاً، وهو الذى كان قبلها مباشرة يدندن بكلماتٍ، فيكتب عن يقين ليقول إن أكمل الرضا هو التسليم، وقد شاءت إرادة الله أن يُخفى حكمته، وهو سبحانه خَفيٌ الألطاف، إنّ ربى لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.
صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين قال: (اللهم إنّا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه). وهو سبحانه أخفى لطفه فى أقداره، وأبطن حكمته فيما يقضى به على خلقه، وأكمل الرضا حقاً هو التسليم، اللهم ارض عنا ورضّنا بقضائك فينا يا أرحم الراحمين. (إنّه من يتقِّ ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).
هنالك أخذ شريط الذكريات من طول حياته وعرضها يمر سريعاً عليه فى مثل لمح البصر. وسؤال النهاية يبرق خاطفاً أمام باصرته: عما قريب نجم محياك يغرب، فبما تلقى ربك؟ لكن سؤال النهاية هذا يلخص تجربة الحياة حلوها ومرّها، المكروه فيها والطيب المحبوب الملذوذ، إذا واجهت حياتك كلها بسؤال النهاية قَصَرت أمامك تجاربها وضاقت، ولا كأنك عشت فيها ولا كأنك تمتعت وأنجزت، سرعان ما يخطف العدم وجودك، فما يبقى منك سوى الرفات.
حلمٌ عجيب مرّ فى ساعات: ألم متفرّق، وكشوفات وفحوص، وحجز بالمستشفى وانتقال إلى غرفة العمليات، وزملاء أوفياء يتابعون الموقف بعناية، كأنك فى حلم وهو بالواقع حقيقة.
حلمٌ تنقلب فيه الحياة من طرف الوجود إلى هوّة العدم، وفى كل يوم فيها فقدان، ولِمَ الخشية من الفقدان؟ الزمن يجرى فيها مُسرعاً لينال اللحظة المرتقبة غير أن هذا الفقدان الذى وطّن صاحبنا نفسه عليه منذ صباه، لم يعد يخشاه، فليس فى الحياة ما يستحق، حتى إذا جاء الفقدان على غير موعد قوبل بالاستخفاف من ثقةٍ لم تعد تخشاه.
يوم أن كان طالباً فى مرحلة الدكتوراه قبل سنة ١٩٩٥م، كان يكتب عن فلسفة الموت، لم يكن يشعر قط أثناء كتابة الرسالة ولا بعد الانتهاء منها برهبة ولا بفزع ولا بخشية من الموت، لكن قبل التفكير فى موضوع رسالته للدكتوراه كانت تجربته مع الموت عنيفة وثقلها على نفسه كئيبا ورهيبا، الأمر الذى دفعه عن قناعة إلى اختيار هذا الموضوع الميتافيزيقى والعمل عليه واستيفاء مطالبه على حد علمه كاملةً فى غير نقصان.
كان أفلاطون يُعرّف الفلسفة فيقول هى تأمل الموت، ولا يزيد.
وتجربة الفكر فى عمومها هى تجربة فقد، فليس لنعمةٍ أن تصفو وتكون موطن سرور إلا بفقدان أخرى يُكره فقدها. والفقدان ألم باطن لكنه سرعان ما يتلاشى مع الوحدة الكونيّة الجامعة بين الحياة والموت، أو بين الوجود والعدم، وتأمل الفقد قدرة على خرق حُجُب العوائد فينا. ومن أهمها أننا مقيّدون دوماً بوجودنا المتناهي.
ويبقى سؤال النهاية هو السؤال الدائم سرمديّاً من الأزل إلى الأبد: بماذا ستواجه ربك يوم تلقاه؟ أى قيمة للحياة باقية مع البحث عن إجابة فى سؤال النهاية هذا؟!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم
إقرأ أيضاً:
رسالة مكتوبة مؤثرة من نصر الله إلى حفيده.. إقرأوا ما فيها (صورة)
انتشرت صورة لرسالة وجهها الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، إلى حفيده. وجاءت الرسالة مليئة بالمحبة والحنان، حيث خاطب فيها نصرالله حفيده قائلا: "شكراً يا حسون يا طائر العشق الحنون".
أضاف: "أنا أيضًا أحبك يا جدي وأدعو لك دائمًا أن يكون لك خير الدنيا والآخرة". (الجديد)