الأحد الرابع من أغسطس الجاري كان يوماً حزيناً بكل المقايس وخاصة علي المستوي الخاص إضافة لمأساة الحرب الدائرة . أستلمت رسالتين في بريدي الأليكتروني أحداهما من الأخ محمود ياجي تفيدان بخبر وفاة عمر الذي أستفسرت عن حالته الصحية يوم الجمعة السابق للأحد من محمود بعد أن علمت بوصوله الي دنقلا في أعقاب رحلة عذاب ومعانة من رفاعة .
كان آخر لقاء معه في 22 فبراير من عام 2019 حينما كانت ثورة ديسمبر السودانية في أوج مخاضها و السودان يغلي كالمرجل . وكعادته في زياراتي للسودان هو آخر المودعين لي بمطار الخرطوم . رافقني حتي صالة المغادرة رغم آلام الظهر الحادة التي لازمته في السنوات الأخيرة . حثني علي مواصلة الكتابة في الشأن العام كما أشاد بهذا الحراك الثوري الذي بني عليه آمالاً عريضة في التغيير المرتقب وشدّد عليّ بالاعتناء بالصحة . أستودعته علي لقاء آخر ، الأ أن صاحب الوداعة أخذ وديعته قبل أن يتم لقاءنا . أختطف الموت عمر ياجي والموت كما يصفونه لص خطاف .
عمر كان رجلاً فريداً في كل شيئ له من الصفات مما يقربه الي الأنبياء والصالحين أقلها النبل والشهامة والعفة ونكران الذات أضافة الي أن الله سخره لقضاء حوائج الآخرين من عباده . برحيله أنهمر الدمع السخين في أزقة العباسية وحواريها وفي مدن خارج حدود السودان الجغرافيه . عرِفته وبكته شوارع الدوحة ودبي ودمشق والقاهرة والرياض وموسكو و الجامعة العربية وكل من أتته الفرصة والحظ السعيد بالتعرف عليه .
تعرفت عليه أيام الطلب بموسكو في أوائل سبعينيات القرن الماضي عندما حضرنا للدراسة بالأتحاد السوفيتي السابق. ولم تكن معاصرتنا له ، بأكثر من معاصرة الطلاب (الجونير) للطلاب (السناير) . فعندما وضعنا أقدامنا علي أول مراحل التعليم بالهندسة الكيميائية بمعهد مندليف كان فقيدنا يتهيأ للدفاع عن رسالة الدكتوراة وحينها أرتبط بعلاقة عاطفية مع زوجته في المستقبل زمليتنا ودفعتنا علوية أحمد عثمان . وبالرجوع الي هذه الفترة نجد أن الزملاء السودانيين الذين سبقونا بالدراسة في هذا الصرح كانت سمعتهم العلمية تعانق السماء . الي وقت قريب كانت العمادة تحتفظ بمذكراتهم وكرارسيهم كأمثلة للطلبة المبرزين . حضروا الي الدراسة الجامعية بعد أن أمضوا السنوات الأولي بجامعة الخرطوم التي تركها البعض لأسباب سياسية والآخرين منهم كانوا يمنون النفس برؤية التجربة الاشتراكية والوقوف عليها خاصة بعد أن عاشوا فترة الأستعمار وقديماً قيل ليس من رأي كمن سمع . أحاديثهم وأهتماماتهم كانت تختلف منا حتي زيهم كان مختلفاً. تجدهم دائماً يرتدون البدلة الكاملة (الفل سوت) والاحذية اللامعة . كان عمر محباً لباخ وبتهوفن وشايكوفسكي ومنه تعلمنا الأستماع الي الموسيقي الكلاسيكية في ذلك الزمن علي جهاز الفونغراف ولا عجب أن أورث هذه الجينات الي أبنه أبراهيم الذي توفي مُبكراً في ريعان شبابه . حضرنا الي موسكو في ذلك العهد الذهبي و أقصي ما كنا نسمعه من الموسيقي من أنتاج مطربي السودان والبعض منا الذي توقف في مصر قبل الحضور الي موسكو تعرف علي أم كلثوم . عن طريقه تعلمنا أدب الحديث وحسن الأستماع وقرأة المختارات المختلفة . كان معجباً بأنطون شيخوف حتي كاد أن يتفوق عليه في السخرية . عمر كان موسوعة وكان( قوقلنا) بلغة العصر الرقمي . كنا بحق ذو حظوة .
بخلاف موسكو والتخصص الأكاديمي المشترك جمعتني معه أمدرمان والعباسية التي كانت تمثل بوتقه للسودان . هذا الحي العريق ما أن تمر بأحد شوارعه حتي تجد مسكن الوزير وعضو مجلس السيادة ومنزل أول نائبه برلمانية وحرفيين وعمال وسراي للسيد عبدالرحمن المهدي وبالقرب منها منازل لشيوعيين وخلاوي و جوامع وأنادي و مقار خمور بلدية . الجميع محترمون ويتعاملون بمحبة ووفاق وتجدهم مجتمعين في الأفراح والأتراح . في هذا الحي نبت وترعرع (كود) أجتماعي وثقافي للمعاملات لا يحيد عنه أي من كان أستاذاً جامعياً أو عامل نظافة . هذا هو المناخ الصحي الذي أنحدر منه الفقيد أضافة الي أنه أتانا من أسرة ذات علم وصلاح .
عمل الفقيد بمعهد الأستشارات والصناعات السودانية ومصنع الأسمنت بربك وأسهم في تأسيس معهد بحوث البناء بجامعة الخرطوم ، كما عمل بجمهورية اليمن الديمقراطية . تم أنتدابه للجامعة العربية لمنظمة الأسمنت العربي بسوريا ممثلاً للسودان وفي الحال أصبح مسكنه بيت السودان وصالونه الأدبي حيث كان يأمه الفيتوري والطيب صالح بالأضافة الي كوكبة من الأدباء اللبنانيين والسوريين كما أرتبط بصداقة وثيقة مع الروائي عبدالرحمن منيف . عمل بالمملكة العربية السعودية ومستشاراً للبيئة بدولة الأمارات العربية المتحدة كما شغل منصب المدير العام لشركة الخليج القابضة بدولة قطر . وهو عضو مشارك مع الباحثين الامريكان في مشروع توليد الطاقة الكهربائية من طبقات الفضاء منذ عام 2009 الي أن أنتقل الي جوار ربه . بعودته للسودان أنخرط في العمل العام وكان محرراً ومستشاراً لمجلة الحداثة حيث صدر له ضمن مشروع القراءة من أجل التغيير كتاب " رسالة الأمل : حول مشروع النهضة السوداني". وقبل أن يعود نهائياً الي السودان أتته الفرصة أن يعيش ما تبقي من العمر خارج الوطن الأ أنه كان يعاني من مرض وراثي مستوطن في الحامض النووي بداخله وهو حبه للسودان الذي أصبح يضيق بأهله . وبالرغم من هذا الإنجاز العلمي ، عمر لا يعطيك أي أنطباع أو أحساس حينما تجالسه بأنه عالماً أو أستاذاً جامعياً . متواضعاً حتي الثمالة تجده يتحدث عن هموم الناس اليومية ويملأ المجلس مرحاً بضحكته التي تعطيك يقيناً وطمأنينةً ويجعلك تحسُ في داخلك أن هذا البلد بخيره ولا يستطيع أي من كان أن يُركِّع شعبه رغم النكبات السياسية التي مر ويمر بها. لا يستفز مستمعية بمعرفته في مجال تخصصه ولا يحشر المصطلحات والكلمات العجمية أثناء تحدثه في مجال غير الهندسة ، الي أن فارق هذه الزايلة لم يحمل حقداً أو ضغينة علي أحدٍ حتي أولئك الذين دمروا وما فتئوا يدمرون البلاد .
أثناء غيابي كان الصديق الوفي يزور منزلنا بأنتظام لكي يتفقد أحوال الوالدة زينب النيّل قبل وفاتها حاملاً في معيته المعينات. زاول علي هذا الكرم حتي بعد وفاتها . في محادثاتنا التلفونية التي أعقبت الوفاة ، كان يقدم الأعتذار تلو الأعتذار لعدم تمكنه من الحضور الأسبوعي الي أمدرمان من مقره في أحياء العاصمة الجديدة ورؤية أخواتي ومتابعة أحوالهم . كان لهم بمثابة الأخ الأكبر والصديق , إفتقدوه وبكوا عليه . بعد أن غادرت السودان أستمر سؤاله في كل المكالمات عن أحوالهم يستفسر عن صديق وعبدالسلام ونجاة وأسامة ومقبولة والفاضل وأسماء وقمر بالأضافة الي أصفي والهام التي كانت زميلة لشقيقته .
روي لي أحد جيرانه بعد أن أندلعت هذه الحرب اللعينه وعمر عاجز عن الحركة في مسكنه بالطابق الخامس والمصعد معطل تبرع بعض الشباب وحملوه علي تخت الي الطابق الأرضي ومنها بعربة غير مهيأة الي ضواحي مدينة رفاعة . تحدثت معه عدة مرات بعد أن وصل الي رفاعة وكان في معنويات عالية علي الرغم من الأمراض التي داهمته ، علي الدوام كان يمدح الشعب السوداني علي الحفاوة والكرم الذي قوبل به في منطقة الجزيرة . كان مصراً علي البقاء في هذه البقعة الي أن تضع الحرب أوزارها الأ أن الأوضاع تدهورت وأستحال معها البقاء بعد وصول الأوباش الي هذه المنطقة التي أحالوا نعيمها الي جحيم. حينها أُرغم عمر علي المغادرة . كنت أمني النفس بلقائه حتي أسمع منه تجارب قدامي المحاربين ونسخر حتي من عبث الحياة .
عمر كان شخصاً غير عادي حينما كان يعمل بدولة قطر زرت السودان وتوقفت بالدوحة ضيفاً عند أهلي . زارني بالمنزل وكان يحمل باقة ورد لست الدار حينها أصاب القوم ذهول وإندهاشة . وفي رواية لصحابة المنزل ، كانت هذه أول وآخر بطاقة ورد تلج هذه الدار.
أثناء كتابة هذه الخواطر حول أخٍ عزيز وصديق وعالم رحل عنا حيث أصبحنا كاليتامي وأفتقده السودان الذي وهبه حياته ، وجدت في أوراقي المبعثرة النعي الذي سطره الزميل أمين محمد أبراهيم في وفاة رفيق دربه الخاتم عدلان فأستبيحه عذراً وأستبيح مركز الخاتم في أقتباس هذه الجزئية منه لانها صالحة لكل زمانٍ ومكانٍ ولكل من ضحي في سبيل الوطن من أجل حياة كريمه .
"ولئن غيبك الموت جسداً فإن ذكرك سيظل ماثلاً وحاضراً في قلوبنا وضمير وذاكرة الشعب الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولئن أحزننا رحيلك فإننا فخورون بأن جمعتنا بك الأيام وتشاركنا هموم الحياة وصارعنا معاً لتغيير واقعها المختل الى الأفضل قدر المستطاع تحقيقاً لأحلام وأشواق مشروعة لسواد الناس في التقدم . فنم مطمئناً في سلام فمثلك لا يموت ، فقد بذلت حياتك في تجرد ونكران ذات لقضية تستحق أن تكرس لها كل الحياة بسخاء لا يعرف المن ولا الأذى وإقدام لا يعرف التردد فالحياة يا صديقي تعطي مرة واحدة، ونشهد أنك قد عشتها كما ينبغي وبما يرفع ذكرك في ذرى المجد ويشرِف كل من انتميت إليه أو انتمى إليك وعزاؤنا أنك خالد في الخالدين وقد علمتنا الأيام أن نسموا على أحزاننا وآلامنا ونلعق جراحاتنا ونمضي نعزف أجمل الألحان ونغني ونحن نزف أوسم الفتيان عقولاً وأكثرهم نباهة ونبلاً إلى رحم الأرض الولود الخصيب في القرى والمدن والأصقاع البعيدة في أرجاء الوطن الواسع نبذرهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) صدق الله العظيم "
اللهم يا مذكوراً بكل لسان ويا مقصوداً في كل آنٍ ويا مبدئاً لكل شأن ٍويا من بيده الأكوان ويا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن ويا مالكاً لكل جرم وعرض وزمان أسئلك بما توليت به الأولياء المقربين الذين لهم عندك شأن أن تصلي وتبارك علي عمر فها هو بين يديك فأني لنا أن نزكية لك ، نسألك أن تكرم مثواه بقدر ما أعطي لطلابه ولوطنه علماً ونفعا ًوبقدر ما كان طيب العشرة ونقي السيرة والسريرة . اللهم نسألك أن توسع مرقده وتآنس وحدته وتنقله من ظلمة اللحد الي مراتع النور وأن لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره وتغفر له وتعفُ عنه وتشمله برحمتك يا أوسع الراحمين . وأن تدخله فسيح جناتك مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا وأن تلهمنا من بعده الصبر والسلوان ، وأنا لله وأنا اليه لراجعون .
العزاء للجميع وحرى تعازيّ القلبية إلى رفيقة دربك أم ترتيل وأبنائك عاصم وعامر وبنتك ترتيل وإخوتك هاشم ، وخالد وأحمد ومحمود وأهلك وعشيرتك وأصدقائك الكثر وزملاء الفقيد في المملكة العربية السعودية ، ودولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة سوريا ودولة قطر ومركز الخاتم عدلان بالسودان والقائمين علي مجلة الحداثة . عزاء خاص للأصدقاء زملاء الفقيد أحمد عثمان (العربي) ، بابكر التوم ، عبدالحميد رحمة ، عثمان الخير، حافظ عباس ، صلاح عبدالكريم ، غازي الفحل ، أحمد حامد ، حسان موسي ، الياس فتح الرحمن ، شمس الدين ضوالبيت ، الوقيع ، حسن محي الدين ، عبدالله قطبي ، عبدالغني عبدالجليل ، معتصم علي محمد ، شيخ الدين عثمان ، عباس الأنصاري ، مصطفي أحمد حسن ووالدة أبنائه علويه أحمد عثمان والمعذرة والغفران لكل من سقط أسمه سهواً . بلغ سلامنا العاطر الي من سبقك من الصحاب الي دار النعيم : الجيلي عبدالرحمن، كمال الجزولي ، أسامة عبدالرحمن النور ، فاروق كدودة ، عبدالرحمن الزاكي ، وبقية أفراد العقد الفريد .
وداعاً عمر كنت سباقاً في عمل الخير وسبقتنا حتي في الرحول الي دار الخلود .
والي اللقاء.
حامد بشري
12 أغسطس 2024
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الدكتور سلطان القاسمي يكتب: ميدان الرولة... شاهد على التاريخ
في عام 1803م، تولى الشيخ سلطان بن صقر بن راشد القاسمي حكم رأس الخيمة، ولم يكن متصوفاً مثل جده، الشيخ راشد بن مطر القاسمي، ولم يكن كذلك سلفياً مثل أبناء عمه رحمة بن محمد بن رحمة بن مطر القاسمي، والذين جمعوا حولهم جميع سكان مدن القواسم على منهج السلفية، وقاموا بتصرفات دون علمه من الاعتداءات على السفن في الخليج.
ما كان من الشيخ سلطان بن صقر القاسمي إلّا أن وقّع اتفاقية مع مندوب شركة الهند الشرقية «ديفيد سيتون» «David Seton»، في شهر فبراير عام 1806م، الأمر الذي أغاظ جماعة الدعوة السلفية، والأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود في الدرعية، فقام أبناء عمه، رحمة بن محمد القاسمي، بتدبير مكيدة، باتهامه بمقتل عمه الشيخ عبد الله بن راشد القاسمي، حاكم رأس الخيمة، لدى الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، حيث طلب منه الوصول إلى الدرعية للتفاهم حول بعض الأمور، فما كان منه إلّا أن توجه براً إلى الدرعية في شهر مارس عام 1809م.
في الدرعية، تم احتجاز الشيخ سلطان بن صقر بن راشد القاسمي، وتمّ تنصيب حسن بن رحمة بن محمد القاسمي، حاكماً على رأس الخيمة وما تبعها من بلدان القواسم.
كانت بلدة الشارقة إحدى البلدات التابعة للقواسم، وكانت تمتد على طول خور الشارقة، بعرض لا يزيد عن ثلاثمائة متر فقط، وبرّها صحراء مستوية إلّا من تلة رملية مرتفعة، تشرف على الطرق البرية المتجهة إلى الشارقة.
في عام 1810م، وصل القائد السعودي مطلق المطيري إلى الشارقة، ونصبت خيام جيشه على تلك البقعة المستوية قبالة بلدة الشارقة، وقد نصبت خيمة قائد تلك الحشود، مطلق المطيري، على التلة الرملية المرتفعة المشرفة على الطرق المؤدية إلى بلدة الشارقة، وسميت تلك التلة بند المطيري.
في تلك البقعة، قبالة بلدة الشارقة تجمّع آلاف الناس، منهم من أتى لتسليم الزكاة من الشارقة والبلدات المجاورة، ومنهم من جاء لتقديم الولاء والطاعة، والناس بين تكبير وتهليل.
أما أهل نجد، في تلك القوات، فقد قاموا بأداء العرضة النجدية، رافعين الأعلام الخضراء التي كتب عليها: «لا إله إلّا الله، محمد رسول الله»، لقد أخذت تلك الاحتفالات أياماً وليالي.
في بداية عام 1813م، وصل الشيخ سلطان بن صقر بن راشد القاسمي إلى مسقط هارباً من سجنه في الدرعية عاصمة الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، حيث اتخذ طريقه من خلال وادي الدواسر حتى وصل إلى ذمار في اليمن، ومنها إلى ميناء المخا في اليمن كذلك، وأبحر منها إلى صور في عُمان.
أرسل الإمام سعيد بن سلطان سفينة إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، بعد أن وضع عليها قوات، وأرسلها إلى لنجة، حيث وصلت بسلام، وحملت على ظهرها كتيبة من ثلاثمائة رجل من جماعة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وأبحرت إلى ميناء الشارقة، واحتلت مدينة الشارقة، حيث قام الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ببناء قلعة تكون مقرّاً له ولقواته.
جرت عملية وحشية في الشارقة، حيث وصلت إلى الشارقة، قوة عسكرية قادمة من رأس الخيمة، فقتل ما لا يقل عن سبعمائة رجل من كلا الطرفين، ونجحت جماعة رأس الخيمة في الاستيلاء على سفينة الإمام سعيد بن سلطان، وأخذوها معهم إلى رأس الخيمة، لكن الشيخ سلطان بن صقر بن راشد القاسمي، نجح في استقلال الشارقة عن رأس الخيمة وتخليصها من السلفية.
في تلك البقعة التي أقام مطلق المطيري القائد السعودي معسكره، حوّلها الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، إلى مزرعة زرعها بالنخيل، وكان الفحل للنخيل قد أطلق عليه «غالب» تشبهاً بالشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وحفر بركة ماؤها من الماء الأرضي، ومطوية بالصخور، وبجانبها شجرة رول جلبها من بلدة لنجة على ساحل فارس.
أما ند المطيري، فقد حوّله الشيخ سلطان بن صقر القاسمي إلى مسكن صيفي له مبني من سعف النخيل.
يمر الزمن على الشارقة، حتى جاء زماننا، فقد كنت ابن ست سنوات أدرس القرآن الكريم عند الشيخ فارس بن عبد الرحمن، حتى إذا ما جاء الصيف، انتقل هو وأهل بيته إلى ند المطيري بالقرب من فحل النخيل «غالب»، وقد استطال إلى عنان السماء، وبالقرب منه بني عريش؛ ليكون فصلاً للدراسة عند الشيخ فارس بن عبد الرحمن.
وإذا قرب الظهر نرجع إلى بلدة الشارقة بعد أن نمر ببركة الماء لنشرب منها، حيث كانت لها درجات تصل إلى مستوى الماء، وقد وضع هنالك علبة صفيح يغرف بها الماء للشرب.
بقيت شجرة الرولة، مكاناً يلتقي به أهالي الشارقة والمدن المجاورة، مساء كل عيد يتوافد إلى شجرة الرولة، الوارفة الظل، الرجال والفتية والفتيات والأطفال. وتُعلّق الحبال على الأغصان الكبيرة من شجرة الرولة، وتجلس الفتيات في صفين على الحبال، وتشبك كل فتاة أصابع رجليها بالحبال التي تجلس عليها الفتاة التي تقابلها، فتتكون المرجيحة من ثماني فتيات. أما الفتيان فيقومون بشط المرجيحة، أي إبعادها إلى أعلى بكل عفة. تُباع تحت شجرة الرولة الحلويات والمكسرات.
في فترة الستينيات، بنيت مدرسة العروبة في بقعة الرولة، وكانت بها البعثة الكويتية حيث كانت المدارس تحت إدارتها، وبها البعثة المصرية والبعثة القطرية والبعثة البحرينية.
في عام 1978م، جفت أغصان شجرة الرولة، حيث بلغ عمرها مائة وخمساً وستين سنة، وحيث إنني قد استوعبت التاريخ، فقمت في الخامس والعشرين من شهر يناير عام 1979م، بافتتاح ميدان الرولة، حيث وضعت في وسطه نصباً رسمته بيدي حيث كان توقيعي، وفي قلبه الرولة التي كانت شاهدة على كل تلك الأحداث.