عن الأفلام المبكرة لكريستوفر نولان

مأمون الجاك

ثمة مشهد ساحر في فيلم Memento لكريستوفر نولان، يجلب البطل بائعة هوى إلى غرفته في الفندق، ويطلب منها أن تضع أشياء زوجته المتوفاة حولها: فرشاة شعرها وكتاب قديم كانت تعيد قراءته باستمرار وأشياء أخرى.. تشرع هي في استخدام الفرشاة إلا أنه يطلب منها أن تتوقف: ضعيها حولك في السرير فقط بلا استخدام، وارقدي بجانبي وحين أغرق في النوم أيقظيني بخبطة بسيطة عند إغلاقك لباب الحمام.

ماذا يريد البطل هاهنا؟ إنه يعيد بالتفصيل ٱخر ما يتذكره قبل الحادثة التي ذهبت بقدرته على تكوين ذكريات جديدة، عندما اقتحم رجل ما منزله واغتصب زوجته، هل يريد -ولو عبر محاكاة زائفة- أن يمنع ما حدث؟ أم يرغب في استعادة الذكرى الأخيرة لزوجته عبر لمس الجانب الدافئ من السرير وإن لم يكن جانبها؟ أم أنه يجدد في نفسه ذكرى الحادثة ليؤجج غضبه ورغبته في الانتقام؟ يستيقظ هو عند سماعه لغلق باب الحمام، مسكونا بالذكرى، يتخيل أنه سيجد زوجته تغتصب على أرضية الحمام، إلا أن ما وجده كان العاهرة وهي تدخن. يمضي بعدها لإحراق ما تبقى من حاجيات زوجته، هل أراد تدنيس ذكرى أشياءها والاحتيال على ما تبقى من عقله طلبا للنسيان؟

لعل هذا الفيلم هو أفضل ما صنعه كريستوفر نولان بمستويي سرده اللذين يلتقيان عند نهاية الفيلم: المستوى التراجعي الذي يضيف تفاصيلا أسبق كل مرة والمستوى الذي يفترض به أن يكون الحاضر والمميز باللونين الأبيض والأسود.  يبتكر نولان حيلا متعددة في أفلامه لإرباك المشاهد وينشئ عدة مستويات لسرد قصة الفيلم، مثلا في فيلم inception يزعم وجود مستويات للواقع وأخرى للحلم، وبينهما تفيض الذكرى، إلا أن الصورة تعلمنا باستحالة وجود مستويات داخلها، إنها ليست الكلمة التي تستطيع خلق عدة مستويات داخل نص واحد، للحلم والذكرى والواقع والمتخيل، لكن خدعة الفيلم الأكبر تكمن في حبكته، الحبكة البوليسية البسيطة التي تتضمن هذه المستويات، فالقول بأن رجلا يابانيا لديه المقدرة على إنقاذ رجل أمريكي من المؤسسات العدلية لبلاده متعذر التصديق، إن هذا التفصيل أشد إثارة للتعجب من فكرة وجود عالم تتشارك فيه الأحلام، ويتجسس فيه البعض على أحلام الٱخرين عبر منوم وحقيبة بها عدد من الأسلاك وزر، هذه التفصيلة شبيهة بتلك التي تزعم أن ترافيس بيكل في فيلم Taxi Driver نجا من عقوبة السجن برغم قتله لعدة أشخاص ومحاولته اغتيال مرشح لرئاسة الجمهورية، فهي تثير الشك في ما إذا كانت النهاية المواربة للفيلم تنحو نحو كونه حلما طويلا بلا أي واقع يستند عليه، مثلما كانت مغامرات بيكل حلم يقظة طويل، لكن تفسيرا كهذا يستدعي شكا مطولا في بنية الفيلم وحبكته، إلا أنه على كل أقرب للواقع من الحبكة الساذجة لياباني يستطيع باتصال أن يمنع ملاحقة رجل متهم بقتل زوجته. القول بأن أحداث الفيلم هي حلم طويل يحوي بداخله أحلاما أخرى يستند على قصص بورخيس، وصلة بورخيس بأعمال نولان لا تخفى:  -فهو بتعبير بورخيسي: أحد أسلاف نولان- بدءا من Following، مرورا ب Memento وحتى inception، يقرأ بريان دوريان فوينتس الفيلم الأخير في سياق قصص بورخيس المستندة على مفاهيم مثالية تزعم أن العالم الواقعي مجرد حلم أو وهم، فيعدد قصصا لبورخيس تشابه في حبكتها حبكة الفيلم، أو أخرى وردت بها أسطر وظفها نولان داخل الفيلم، لعل أشهرها (الأطلال الدائرية) و (نمور زرقاء). كان بورخيس يمزح قائلا بأن الأجيال المقبلة ربما ستعده محتالا أو دجالا، نظرا للتزييفات التي يقوم بها في قصصه سواء اخترع كتابا لم يوجدوا  أو أحال إلى نصوص مزيفة، أو عبر بناءه لحبكات قصصه استنادا على مقولات فلسفية، لكن الدجال فعلا هو من جاء بعده، نولان المولع بخداع الرائي بعيدا عن أي اشتغال على التركيب النفسي لشخصياته -عدا في مرات قليلة، كالمشهد المروي في الأعلى-، إنه ولنحل لبورخيس مرة أخرى -فهو لا يستنفد- شبيه بهربرت كوين، الكاتب المخترع من قبل بورخيس والذي: “”كان مدركا ببصيرة تامة أن كتبه ذات طابع تجريبي: ربما كانت تثير الإعجاب لجدتها، وشيء من النزاهة الموجزة، لكن ليس لإثارتها الشغف” أو لمممكناتها الدرامية مثلا، ففي عام 2010 كان ليوناردو دي كابريو عالقا في ماضيه رفقة امرأتين ميتتين، هذا هو جوهر فيلميه inception و Shutter island.. لكن مقاربة مارتن سكورسيزي لشخصية المحقق المصاب بالضلالات والأوهام، أعمق من مقاربة نولان لشخصية الحالم، يجادل فوينتس أن شخصيات inception ليست حقيقية، وإنما مسطحة، وذلك تبعا لكونها خيالات في ذهن الحالم ولا وعيه، فيما شخصيات فيلم سكورسيزي المولع بتتبع الأوهام أقرب للواقع. في السابق، فضلت فيلم سكورسيزي رتيب الحبكة، أما الٱن فأفضل فيلم نولان متسارع الإيقاع، لأنه منحني شعورا خاطفا بأنني أشاهد حلما.

 

الوسومبورخست سكورسيزي كريستوفر نولان هوليود

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: سكورسيزي كريستوفر نولان هوليود

إقرأ أيضاً:

كوابيس

رياض بيدسرعب

وجد صعوبة كبيرة في متابعة نشرة أخبار التلفزيون. كان القتل، قتل الأطفال يفوق الوصف والخيال، إضافة إلى قتل النساء الختيارية والعجائز وتدمير البيوت كما لو كانت علب كبريت، وكل ما على الأرض يفوق الوصف. كان كل شيء عرضة للقتل والتدمير والتهجير. تأمل الصور في التلفزيون وكانت مروّعة وصعبة جدا عليه. قالت له زوجته: لما تتابع الأخبار إن كانت صعبة جدا؟
قال: أنت تتابعين أيضا بالجوّال.
قالت لمساعدته: أخبار الجوّال أقل صورا.
دارت له الفكرة. غيّر المحطة، لكنه شعر بحيرة. كيف يتابع الأخبار دون مشاهدة الصور الكثيرة للشهداء؟ هل من وسيلة لوقف شلال الدم والقتل والتدمير والتهجير؟ يصعب عليه أن يصدّق ما يجري. هل يخرج من البيت ويقوم بجولة قصيرة في الحي؟ لقد فعل ذلك صباحا. وحاول أن يستذكر أحلامه لكن رأسه كان خاويا. أنه لا يتذكر شيئا. كم كان يود لو أنه كان بعيدا عن البلاد. وماذا كان يجدي ذلك البعد والابتعاد؟ ستلاحقه الصور في كل مكان. وتساءل بينه وبين نفسه: ألم يكن من الأفضل لو أنه لم يكن عنده تلفزيون أو فضائيات أو قنوات أو أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي – أن الأمر غير ممكن لا بل مستحيل. واستراح لفكرة أن ثمة حسنات كثيرة لوجود التلفزيون وكل ما يصله بما يجري في العالم، لأنه دون هذه الوسائل كانت الإبادة ستكون كاملة لشعب أعزل دون أن يعرف أحد الراديو؟ تردد الأمر في ذهنه كما لو كان ضربة حظ هائلة جدا. يستطيع أن يستمع إلى أخباره دون أن يشاهد أي صور تزعزع كل عالمه وتجعله مريضا. وفجاة رفع صوته متسائلا: أين الراديو؟
أجابت زوجته: أنجنيت؟ الراديو خربان.
صرخ: أريد الراديو.
غابت امرأته قليلا ثم عادت وهي تحمل جهاز راديو ومسجّلا قديما جدا علاه الغبار. بسرعة ذهب إلى المطبخ وعاد وهو يحمل خرقة بالية ومسح الغبار عن الجهاز القديم. عمل على إيصال السلك بالكهرباء. أدار كبّاس الراديو، لكن لا حياة ولا صوت كان ينبعث من الراديو، وظل الترانزستور صامتا صمت أهل القبور. ردّد بصوت ناشف اللعنة.. إنه مدمّر تماما.
قالت زوجته: مثلك تماما
تساءل بتعب: ليش؟
قالت: ألا تستطيع مشاهدة الأخبار في التلفزيون؟
كانت تعرف حساسيته إزاء ما يحدث في غزة، لكنها أحبت أن تقويه، إلا أنه لم يكن قويا، بل كان ضعيفا من بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول. لم تكن حربا عادية، بل كانت حرب قتل وتدمير. لقد تزعزع كل عالمه. وكان عليه أن يجد مخرجا من الحال الذي هو فيه. ضرب بكف يده اليسري على الراديو المعطّل، ثم فرك كباس المحطات العربية العديدة لكن ما من حياة. واستدار وحدّق في فضائيات تلفزيونية غالبا ما لا يشاهدها ووصلت إليه رسالة مؤلمة ومنغصة جدا: فضائيات تبث المسلسلات التركية التافهة والأغاني والكليبات وبعض المسلسلات العربية مع كثير من شخصيات المحلّلين التي تثرثر وتبربر في محاولة منها لتحليل ما يجري. وجد صعوبة في تحمل كل ذلك. وفجأة خطر له خاطر غريب: أنه يستطيع أن «يسمع» كل الفضائيات التي تنقل الأخبار مع الصور، صور كل الشهداء والدمار والقتل والتشريد.
سألته زوجته: مالك صافنا ذاهلا؟ّ
نظر إلى زوجته نظرات طويلة فيها شيء من الراحة، ثم قال لها الآن أستطيع أن أسمع كل القنوات التي تبث الأخبار مع صور الشهداء (وأردف) وعلى الرغم من صعوبة الأمر لكنه ممكن.
سألت: كيف؟ ستمرض
قال: أنا مريض (وأضاف) كل ما عليّ فعله هو أن أن أدير شاشة التلفزيون الى الحائط وأسمع الأخبار فقط.
سألت: أيش؟
قال: بسيطة. وأتجه نحو التلفزيون وأبقى على الصوت عاليا وأدار شاشته نحو الحائط. وأخذت الأخبار التي تسم البدن تتساقط على أذنيه بصعوبة، لكن دون مشاهد صور الشهداء والدمار.
(يناير) 2024

عطش

كان المطر يتساقط مدرارا. حمل الشمسية وأراد الخروج من البيت، لكن زوجته التي كانت تعرف مدى عشقه للمطر سألته: إلى أين؟
قال: بعض الأمتار من المشي لاستنشاق بعض الهواء النقي.
غاب مدة ساعة ثم عاد وهو يشعر بسعادة ليس من الممكن أن يخفيها.
سألته زوجته: كيف الشتاء؟
أجاب وهو يداري نظراتها: رائع.
كانت تعرف مدى عشقه لفصل الشتاء والمطر مع أنه لم يكن رومانسيا، لكنه كان يعشق المطر وقصيدة السياب عن المطر. ركن شمسيته في الحمّام ونفض نفسه مما علق به من المطر وقال: خير، خير كثير. كان التلفزيون يبث أخبارا عما يجري في غزة. التقت نظراته بنظرات زوجته التي قالت: جهنم فاتحة أبوابها، مساكين هالفلسطينية
ورد بصوت يائس: فعلا مساكين ما إلهم حدا
تنحنح وقال لنفسه: ليس من المفروض أن تشعر بالخجل أمام الناس، بل أن تشعر بذلك بينك وبين نفسك. الحقيقة أنه يشعر إلى حد ما بالخجل، الخجل الشديد لأنه يعشق المطر. ماذا يفعل أهالي غزة الذين صاروا في العراء في هذا الشتاء الصعب؟ وكما لو أن زوجته قرأت أفكاره قالت: يمكن هالشتا شتا خير وبركة. وأزاح نظراته عن عينيها. كيف لا يشعر بالخجل هو ينعم بالبيت بكل ما فيه بينما أهالي غزة تحت المطر؟ ضغط بسرعة على كباس بعض محطات التلفزيون، فظهرت فضائيات مختلفة كان من الصعب عليه تحمّل ما تبثه وتنقله، خاصة أنه يشعر بالخجل الشديد لأنه يعشق المطر.
سألت زوجته: هل أنت جائع؟
هز رأسه نفيا.
أختفت زوجته في صالون البيت وقالت وهي تنفخ: يجب أن تأكل شيئا يا أمين.
شوّح بيده أنه لا يرغب. وغالب نفسه وأخذ يقلّب المحطات التلفزيونية إلى أن وقع على فضائية كانت تنقل تقريرا عن انقطاع ماء الشرب في غزة.
صرخ: أوف
وتابع ما يحدث للولد باهتمام شديد. كان الولد يعبئ جالونا من مياه الشتاء. تسمّر أمام التلفزيون وهو يتابع باهتمام ما يجري. وشعر براحة شديدة عندما قال الولد الصغير للصحافي إنه يشعر بنعمة شديدة لأن المطر يسقط بغزارة وأنه يستطيع أن يعبئ بعض جلنات الماء للشرب. وشعر أمين بالراحة وأقل خجلا وذنبا، لأن المطر ساعد أهالي غزة، ولأنه هو يحب المطر، فالمطر ليس ضارّا، بل هو مفيد جدا، للشرب في غزة العطشى
(10 يناير 2024)

مقالات مشابهة

  • مديرية التضامن الاجتماعي تطلق عدة أنشطة لتعزيز جودة الطفولة المبكرة وتنظم ندوات دينية
  • كوابيس
  • جامعة أسيوط تنظيم الكرنفال السنوي للأنشطة الطلابية لكلية التربية للطفولة المبكرة
  • شاهد بالفيديو.. بعد تغيير العملة.. مواطن سوداني يكتشف بالصدفة أن زوجته كانت مليونيرة وتخبي عنه أموال طائلة بـ(الشوالات) وتم كشف سرها بعد القرار
  • سفارة روسيا في لشبونة: الأضرار التي لحقت بالسفارة البرتغالية في كييف كانت بسبب قوات الدفاع الجوي الأوكرانية
  • قصي عبيدو لـ«البوابة نيوز»: الوحدة بين سوريا ومصر كانت من أنجح العلاقات والتحالفات
  • وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة
  • (عودة وحيد القرن) كانت من أنجح العمليات التي قام بها قوات الجيش السوداني
  • لقد كانت أيام ديسمبر هي أجمل أيام حميدتي
  • معرض جدة للكتاب يناقش فرص وتحديات سينما الخيال العلمي في العالم العربي