تساؤلات حول جدوى انطلاق اجتماعات جنيف دون مشاركة وفد الحكومة
تاريخ النشر: 15th, August 2024 GMT
انطلقت اليوم الأربعاء المفاوضات التي دعت إليها الولايات المتحدة الأمريكية بالعاصمة السويسرية جنيف، دون مشاركة وفد الحكومة السودانية.
الوفود المشاركة
وأوضح المبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيرييلو من جانبه أن الوفود المشاركة في مباحثات سويسرا من الإتحاد الأفريقي والأمم المتحدة ومصر و الدعم السريع، قد وصلت إلى جنيف لإجراء محادثات تهدف إلى إنهاء الصراع في السودان، رغم رفض القوات المسلحة السودانية المشاركة.
غياب الحكومة
تنعقد المفاوضات اليوم في جنيف، رغم عدم الاستجابة لتحفظات الحكومة السودانية في اجتماعاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية في جدة، حيث أصرت الأخيرة على مشاركة وفد الجيش دون وفد الحكومة، وكذلك عدم الاستجابة لتنفيذ مخرجات منبر جدة الأخيرة أولاً، وأيضاً إشراك الإمارات كمراقب خلافاً لرغبة الجانب السوداني، ومع ذلك انطلقت الجلسة التشاورية الأولى اليوم بحضور الدعم السريع والوسيط والشركاء دون مشاركة وفد الحكومة، ما آثار التساؤلات حول جدوى انعقاد هذه المفاوضات مع غياب الطرف الأساسي عنها، وهل سيتوقع أن تخرج هذه الجولة بنتائج يعتد بها، وهل ستصبح نائجها ملزمة في عدم وجود الطرف الحكومي؟
يدعون للسلام كذبا
رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، استبق عقد مفاوضات اليوم، وقال في خطاب له ليل أمس (الثلاثاء) بمناسبة عيد الجيش، يجب أن نُذكر من يدعون كذباً للسلام ونقول لهم لا سلام والمليشيا المتمردة تحتل بيوتنا ومدننا وقرانا وتحاصرها، وتقطع الطرق إلى أجزاء مقدرة من بلادنا الحبيبة، مؤكداً أنه لا وقف للعمليات بدون انسحاب وخروج آخر مليشي من المدن والقرى التي استباحوها واستعمروا أهلها، مضيفاً: “وأكرِّر أنّ طريق السلام، أو وقف الحرب واضح وهو تطبيق ما اتفقنا عليه في جدة في مايو 2023 “.
مناوي يحدد المطلوبات
كما وجه حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، رسالة إلى وفد مليشيا الدعم السريع في جنيف بأن يقر أن رفع المعاناة يجب أن تبدأ في السودان وليس في جنيف. وقال مناوي في تغريدة على منصة إكس: طالما أنت السبب في كل الانتهاكات ،عليك القيام والإلتزام بإعلان جدة وإقرار بتنفيذه، مع الوضع في الإعتبار كل المستجدات التي أحدثتها المليشيا بعد التوقيع عليه، والتخلي الكامل من استهداف المواطنين والمؤسسات المدنية على رأسها المستشفيات، والإلتزام الكامل دون شرط والسماح بمرور المنظمات وقوافل الإغاثة لإعانة المواطنين، وطالب مناوي، الدعم السريع بالكف عن استهداف المواطنين وممتلكاتهم، ووقف الاستهداف على أساس عرقي، وإفقارهم على أساس إثني، والالتزام بوقف النهب والاغتصاب ونبذ كل سياسات التطهير العرقي التي تمارسها المليشيا، والشروع فوراً بالخروج من المنازل والمؤسسات المدنية وتسليم المنهوبات، أو الإقرار بإعادتها إلى أصحابها، وتابع مناوي إذا تم ذلك، انتهت الحرب وانطفأت أسباب الأزمة كما سيكتمل السلام تلقائياً، لأن كل الذي ذُكر يمارسه جانب واحد، وهو الدعم السريع، بما يعني أن الأزمة كلها من طرف الدعم السريع.
ليست مفاوضات
من جانبه سمى الدكتور محمد زكريا نائب الأمين العام لحركة العدل والمساواة، بأن ما يدور في جنيف حاليا هو مباحثات وليست مفاوضات، وذلك لعدم حضور وفد الحكومة. وقال زكريا لـموقع “المحقق” الإخباري: كنا نأمل أن تتفهم أمريكا التحفظات التي أشارت إليها الحكومة السودانية في جدة، وأن يقتصر التفاوض على وقف إطلاق النار والممرات الإنسانية، مؤكداً أن عدم مشاركة وفد الحكومة سيخصم بشكل كبير من النتيجة المرجوة لهذه المباحثات، وقال إن مناقشة الأوضاع الإنسانية في هذه المباحثات مهم، معرباً عن أمله في أن تنظر الأطراف المشاركة في الأسباب الحقيقية خلف التضييق على معايش الناس، وهجوم الدعم السريع على القوافل الإنسانية والتجارية، وممارسة الحصار على القرى والمدن، ومنع المد الغذائي والدوائي لهذه المناطق، ما يعرضها للمجاعة، موضحا أن السبب الرئيس للوضع الإنساني الكارثي هو الدعم السريع، مطالبا القوى الدولية باتخاذ ماتراه من ضغوطات على مليشيا الدعم السريع للكف عن هذه الممارسات، ومعتبرا أن إجتماع الأطراف الدولية حول الملف السوداني في جنيف، يمثل سانحة جيدة، لبحث آليات تنفيذ ماتم التوافق عليه في جدة، ووقف الانتهاكات وفتح الممرات والإغاثات.
الأخذ والرد
وابان زكريا أنه إذا تم التوصل لصيغة حول ذلك، سيكون للحكومة السودانية، الحق في الأخذ والرد بشأنه لاحقا، وقال إن الموقف المعلن للحكومة فيما يلي إيصال المساعدات والاغاثات مرن، وإن رؤيتها منفتحة على ايصالها من المنافذ التي لديها مثل منافذ الطينة والدبة وبورتسودان، مشددا على أن أي توصيات سوف تخرج عن هذا الاطار لن تجد حظها من التنفيذ، إلا بعد عرضه على الحكومة للأخذ والرد حوله.
وعن التوقعات بمشاركة وفد الحكومة في هذه الجولة من المفاوضات، قال زكريا إن أمريكا مطالبة أولاً بايجاد اجابات على تساؤلات الحكومة، معرباً عن دهشته من عقد هذه الاجتماعات دون مشاركة وفد الحكومة، وقال أشارك الذين يتساءلون حول جدوى عقد هذه الاجتماعات في غياب الحكومة، مصيفا أن ذلك سيعيق الوصول إلى توصيات، مشيرا إلى انفتاح الحكومة على كل المبادرات والأفكار التي تسعى لحل الأزمة، دون المساس بالثوابت، وقال إذا استجابت أمريكا للتحفظات المتعلقة بالأجندة والمرجعية التفاوضية والمسائل الإجرائية والدعوة، يمكن أن ينضم وفد الحكومة إلى هذه الإجتماعات، وإذا لم يسعفها الوقت يمكنها الالتحاق في الجولات القادمة، مضيفا لضيق الوقت، أرى من الصعوبة المشاركة في هذه الجولة.
مداراة الفشل
من جهته رأى الدكتور خالد التيجاني الكاتب والمحلل السياسي أن انعقاد هذا الاجتماع دون مشاركة وفد الحكومة، هو محاولة لحفظ ماء وجه المبعوث الأمريكي، وأنه محاولة لمداراة الفشل الذريع. وقال التيجاني لـ “المحقق” إن هذا يدل على أنه لم يكن هناك تحضيرات ولا خطة ولا إدارة وإن هذه نتيجة طبيعية، مضيفا أن الدليل على ذلك أنهم استجابوا لجزء من تحفظات الحكومة، وأرسلوا رسائلهم قبل 5 أيام فقط من الانعقاد، لافتاً إلى أن الدعوة كانت أقرب إلى الاستدعاء، وإلى أنها دعومة ملغومة ومتناقضة، موضحا أن أمريكا أعلنت عن هذه المفاوضات يوم 23 من الشهر الماضي، وبعدها بيومين حضرت إجتماعات جيبوتي والتي دعت إلى ضرورة التنسيق بين المبادرات، وأنها بذلك تناقض نفسها، وقال إن أمريكا أيضا أعلنت أنها ستستند لما تم الإتفاق عليه في جدة، فما الداعي لإطلاق مبادرة جديدة، ولماذا لم تواصل في جدة إذا أقرت بالاستناد إليها، مؤكدا أن أمريكا أثبتت أنها وسيط غير نزيه، وقال إن الدعم السريع ظل يمارس الانتهاكات والعدوان الواضح، وأن أمريكا بذلك تكافئه على عدوانه، مشيرا إلى تصريح المبعوث الأمريكي بأنهم لم يعطون الشرعية لأي طرف، مؤكدا أن هذا معناه شرعية للدعم السريع، وقال إن المبعوث متعجل لإحداث انجاز في السودان، متسائلا أين كانت أمريكا منذ قرابة 15 شهرا من الحرب.
إنساني فقط
بدوره أوضح عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار أنه في حالة عدم وجود وفد الحكومة في المفاوضات، سيبحث الشركاء الوضع الإنساني فقط. وقال ميرغني لـ ” المحقق” إنه سيتم بحث الاستجابة الدولية للتبرعات، وحشد الدعم الدولي الإنساني، مبينا أنه إذا ثبت عدم مشاركة الجيش سيتم فرض طريقة لايصال المساعدات الإنسانية باسقاط جوي، وفرض بعض الممرات الآمنة بالقوة، وأنه قد يمنح دور للدعم السريع على الأرض وخصوصا في دارفور لهذه الحماية المدنية، وقال إن هذا الأسلوب سيفتح الباب أمام التدخل الدولي، مضيفا أن الجيش لديه فرصة للمشاركة، حتى لو بعد أسبوع سيتم السماح له، لافتا إلى أن الإصرار على اشراك وفد الحكومة دون الجيش غير منطقي، وقال طالما هناك إصرار على جدة، والتي كان يشارك بها وفد الجيش، فان الاصرار على وفد الحكومة في جنيف معناه إلغاء جدة، منوها إلى أن هنالك أطراف داخلية لا تريد السلام، وإلى أن ذلك لن يعيدها لتشكيل المشهد السياسي، وقال من الأخطاء الكبيرة التي لم يتعامل معها الجيش هو عدم حسم موضوع الشرعية قبل الدخول في المفاوضات.
القاهرة – المحقق – صباح موسى
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدعم السریع وقال إن فی جنیف إلى أن فی جدة
إقرأ أيضاً:
من انتقام الدفتردار (1822) إلى حملة “الدعم السريع”: تاريخ مستعاد
من انتقام الدفتردار (1822) إلى حملة “الدعم السريع”: تاريخ مستعاد
ملخص
(تقرأ أن اجتياح “الدعم السريع” قتلاً ونهباً وحصاراً لشمال وشرق الجزيرة هو حملة انتقامية. ولا أذكر من استدعى مماثلاً لها من تاريخنا حتى لو كان في شهرة “حملة الدفتردار الانتقامية)”.
لم يكُن من مهرب للحرب الأهلية القائمة في السودان من استدعاء فصول من تاريخه في محاولة لفهمها على ضوئه. وكانت فترة الثورة والدولة المهدية (1881-1898) هي مربط فرس هذه الاستدعاءات. وبلغ تواتر هذه الإحالات لتاريخ المهدية مبلغاً حدا بنشرة “سودان وور مونيتر”، التي صدرت لتبلغ عن الحرب، لتخصص عدداً لنقض رواية عن شعب الرزيقات الذي يُزعم له أنه حاضنة قوات “الدعم السريع” في حربها ضد القوات المسلحة، عن دوره في المهدية ثورةً ودولة. وبدا من هذه الاستدعاءات وكأن التاريخ يعيد نفسه. وعقيدة إعادة التاريخ لنفسه من مكروهات علم التاريخ والمجتمع حتى سخر منها كارل ماركس قائلاً “يعيد التاريخ نفسه حقاً، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمسخرة”. ولكن لا مهرب أمام الناس مع ذلك من إحالة حاضرهم إلى ماضيهم بالطبع. وربما كانت العبارة الأمثل عن استدعاء الماضي في زحام الحاضر هي ما جاء على لسان الكاتب الأميركي مارك توين الذي قال إن التاريخ لا يعيد نفسه، فكل ما في الأمر أنه يأتي للحاضر “على قافية” (rhyme)، في قول المصريين.
يخضع شمال ولاية الجزيرة وشرقها منذ الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لانتهاكات فظة على يد قوات “الدعم السريع” ثأراً لانسلاخ قائده في الولاية أبو عاقلة كيكل (52 سنة) عنهم وانضمامه إلى الجيش السوداني. فاقتحمت “الدعم السريع” المنطقتين لانتماء كيكل إليهما، خصوصاً بلدتي تمبول والهلالية اللتين احتلت وقائع استباحتهما الخطوط الرئيسة للوسائط الإعلامية. وكيكل من جنس مغامري “دولة الإنقاذ” (1989-2019) ممن أدوا خدمات مشبوهة أو أخرى لها، وانتهى مهرباً رباطاً. وكان أول ظهوره قائداً لقوات “درع السودان” بين ضباط معاشيين من القوات المسلحة قبيل الحرب بقليل، رأوا سخاء الدولة مع مسلحي دارفور في اتفاق جوبا (عام 2020) وأرادوا مثلها لقومهم في الشمال والوسط والشرق.
وما قامت الحرب حتى انضم إلى “الدعم السريع”، وكانت معركته الأولى قبل احتلال ولاية الجزيرة، هي الهجوم على ضاحية العيلفون بالخرطوم وتهجيره القسري لأهلها منها. ثم عيّنه محمد حمدان دقلو، قائد “الدعم السريع”، قائداً لمنطقة الجزيرة التي يقال إنه هو من احتلها لـ”الدعم” ربما بغير أمر من أعلى. وارتكب مع غيره من قادة “الدعم السريع” في الجزيرة انتهاكات واسعة بحق المدنيين من بينها القتل والنهب والحرق. وسلمت تمبول والهلالية إلى حين لما ذاع أنهما قبلتا بالتعايش مع “الدعم السريع” تحت مظلة كيكل
حتى زكّى ياسر عرمان، القيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية “تقدم” ذلك التعاقد بين البلدتين و”الدعم السريع” لتأمين المدنيين، وقال إنه نموذج يسمح للمواطنين بإدارة أمورهم ووصى باستمراره وتعميمه في كل مناطق النزاع.
وأزعج انسلاخ كيكل، “الدعم السريع” بأنه جاء كمثل نصر مؤكد للقوات المسلحة عليه في سلسلة انتصارات أخيرة دفعت “حميدتي” إلى إلقاء خطابه الأخير الغاضب الذي حمّل فيه مصر مسؤولية انتكاساته. ولم يلطف الأمر على “الدعم” خروج أهل تمبول وغيرها بعد انشقاق كيكل في احتفالات بتحررهم من “الدعم السريع” غشتها أطواف من القوات المسلحة، ولكنها لم تبقَ وغادرت المكان مما جعل أهل البلد صيداً سهلاً لحملتهم التأديبية.
تقرأ أن اجتياح “الدعم السريع” قتلاً ونهباً وحصاراً لشمال الجزيرة وشرقها هو حملة انتقامية. ولا أذكر من استدعى مماثلاً لها من تاريخنا حتى لو كان في شهرة “حملة الدفتردار الانتقامية”. وهذا اسمها في لسان العامة وفي المناهج. وصدر عنها من قريب كتاب مستقل بقلم حاتم الصديق محمد أحمد وعنوانه “فظائع الدفتردار في السودان”. واشتهرت قصة للروائي بشرى الفاضل عنوانها “حملة عبد القيوم الانتقامية” جزئياً لصدى عنوانها التاريخي.
والدفتردار هو محمد خسرو الدفتردار (ت 1824) الموظف بإدارة محمد علي باشا في مصر وزوج ابنته نازلي. وكان بعثه في جيش على رأسه ابنه إسماعيل باشا لغزو السودان عام 1821. وكانت مهمة الدفتردار أن يستولي على منطقة كردفان التي كانت تحت حكم سلطنة دارفور. ونجح، ولكن ما عتم أن جاءته أخبار مقتل إسماعيل باشا على يد “المك نمر” زعيم شعب الجعليين في مدينة شندي على النيل. ووقع مقتل الباشا في سياق ثورات أهل مدينة الحلفاية شمال الخرطوم وغيرها في وجه السلطة المصرية من فرط مساوئ الجند التركية عليهم. وفي هذه الظروف كان إسماعيل قرر العودة إلى مصر. ووصل شندي في أكتوبر عام 1822. وكان يتهم “المك نمر” بأنه يقف وراء الثورة. فقرّعه وأمره بدفع جزية جرى تقديرها بـ30 ألف دولار و6 آلاف رأس من الرقيق خلال يومين. ولما قال المك للباشا أن ذلك فوق استطاعته، وبّخه ولطمه على وجهه بغليونه. فأسرّها في نفسه ليدعو إسماعيل وقادته إلى وليمة بقصره. وطوال ما كانوا يتناولون مطايب الأكل والشرب كان قوم “المك نمر “يطوقون المكان بالحطب والقش. وأشعلوها حريقاً قضى على إسماعيل وصحبه. ثم أحاطوا بالجنود الذين كانوا في موضع آخر فقتلوهم عن بكرة أبيهم. وانتظمت بين شعوب الحسانية والجموعية والجميعاب والقريات على النيل والنيل الأبيض ثورة بعد الحريق في وجه الحاميات المصرية في الدامر وسنار وكرري والحلفاية.
وما سمع الدفتردار بمقتل إسماعيل حتى قاد قوة ضاربة من كردفان إلى النيل ليعينه محمد علي باشا لاحقاً ساري عسكر السودان. وقتل عامله على بربر 7 آلاف من الجعليين في الدامر ممن أحدقوا بمدينة بربر، وحرق مسجد السادة المجاذيب “كأنه دار أصنام”. ولم ينتظر “المك نمر” حملة الدفتردار، ففر بجماعته شرقاً مطارداً من موضع إلى آخر في اتجاه جنوب شرقي الحبشة. ثم توجه الدفتردار جنوباً مروعاً القرى في طريقه، فقاومه أهل العيلفون فهزمهم، وقتل فيهم وأهان من وقع في يده، ولاحق “المك نمر”، قاطعاً النيل الأزرق عند بلدة أبو حراز إلى الدندر والرهد. وبلغ نهر العطبرة، وحارب شعب الهدندوة والشكرية، يقتل وينهب ويخرب. وعلى رغم ذلك الخراب والتنكيل لم يعثر على “المك نمر” الذي لاذ بالحبشة وأقام ملكه هناك. وكان محمد علي باشا واقفاً على حيثيات الحملة الانتقامية تلك. فيأمرهم بالتوجه مثلاً لشعب الشكرية والبشاريين لينزلوا عليهم العقاب ويوبخهم للتقاعس. ومن سخرية القدر، أو مأساته، أن الجمعية الجغرافية في باريس قبلت الدفتردار عضواً في مجمعها للخرائط التي كان يرسمها بالدم في حملاته الانتقامية وأعجبتهم.
اختلفت حملة “الدعم السريع” الانتقامية عن حملة الدفتردار في أنها لم تجعل كيكل صيدها الملاحق تخوض له بحور الدم كما فعل الدفتردار. فاكتفى “الدعم السريع” بخوض بحور الدم في قبيلة كيكل دونه. فأرادوا إفراغ انشقاقه عليهم من معناه بشهادة من أهله في محاكمات نصبوها لهم في الجزيرة. فرأينا منادي منهم في بلدة السريحة التي خلت عن بكرة أبيها، ينادي لا أحد في طرقاتها المهجورة، “يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، ناس السريحة بسلمو عليك”. ينعى عليهم تباعة قائد خذول لم ينجدهم ساعة الحارة.
وفي فيديوهات أخرى، ينتزع منسوب “الدعم السريع” (الدعامي) إدانة كيكل بأفواه من سعدوا بانشقاقه أول مرة. فعلى فيديو ثانٍ تجد الدعامي يتحدث إلى رجل فوق الـ60 من العمر:
-كيكل ركبكم زوط (مقلب، وقاموسياً هي تناول لقمة كبيرة تثقل على الفم فيضطر إلى ازدرادها) واللا ما ركبكم؟
-والله ركبنا خمسة أزواط.
-رسالتك ليهو شنو؟ (ما هي رسالتك له؟)
-المقلب العملتو فينا ربنا يرده عليك
وظهر على فيديو آخر دعامي أمامه جماعة من الشباب جلوساً على الأرض يلقنهم عار هيكل فيهم وسطوة “الدعم”:
-كيكل مالو؟
-عرد (هرب).
-السبب شنو؟
-عرد عرد
-ما سامع ما سامع عرد مالو؟ كلكم!
-الجاهزية (بسبب الدعم السريع).
وتحدث دعامي وصف نفسه بأنه من “أبناء البيشي”، والبيشي قائد في “الدعم السريع” كان الجيش قتله، إلى أحد أقرباء كيكل في الهلالية. واستحصل منه إدانة له غالية:
-علاقتك بكيكل شنو. دا عم كيكل
-ود عمتي في الحسبة.
-كان كيكل بجيك في بيتك لشنو؟
-يجينا ويشرب قهوة ويسلم ويمشي.
-بتقول لكيكل شنو؟
-انت خائن. خنت ناسك.
ليست من خصائص بعينها تأذن لنا بالقول إن حملتي “الدعم السريع” والدفتردار مما يستعيد أحدهما الآخر سوى في وقوعهما في نطاق جغرافي واحد حتى في السودان، النيل والجزيرة. ولا تحتاج حملات “الدعم السريع” التأديبية إلى التاريخ لتواقع حملة من جنسها عليه. فتأديب “المتمرد” هو في الوصف الوظيفي الأصل في نشأة الدعم في دولة الإنقاذ الآفلة. فسجله في إخضاع “العصاة” مما سود الصفحات في دارفور في منتصف العقد الأول من القرن معروضاً أمام المجتمع الدولي ومؤسساته ومحاكمه. فليس ما اقترفه “الدعم السريع” في دارفور في 2004، ولا يزال، تاريخاً بعد. ولربما صدق هنا مارك توين في أن التاريخ “يقافي” (إذا صح التعبير) الحاضر لا يعيده كما تذهب العبارة. وهي “مقافاة” نطمئن بها على أن زمام الأمر مهما يكُن بيدنا لا يزال.
بنى الدفتردار قصره مع زوجته نازلي محمد علي باشا في الأزبكية التي صار سورها معرضا قومياً للكتاب في القاهرة
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب